كانت عينا إيدموند المُطلّتان عليه تتّقدان كبركان، لكنّ وجهه كان باردًا خلافًا لذلك الوهج.
“على أيّ حال، لو لم نقبل بهم الآن، فسينضمون للعدوّ. إبقاؤهم بقربنا لمراقبتهم أفضل.”
وكأنّ لوسيد لا يهمّه ما الدافع خلف قبول إيدموند له، فقد ابتسم ووجّه إليّ الكلام.
“أوليفيا، من الجيّد أنّكِ بخير.”
“وجلالتُكَ أيضًا…”
ما إن قدّمتُ له جوابًا لائقًا حتّى نزلت الإمبراطورة من العربة وتمتمت لإيدموند.
“كان يمكنك قبول التفاوض وانتهى الأمر. الأب والابن كليهما يضعان الحبّ فوق كلّ شيء. يا للغباء، لا يريان خطوةً واحدة أمامهما.”
حقًا، من الغريب أن تقول ذلك، وهي أمّ ذلك الشخص الذي سبّب كلّ هذه الفوضى بغبائه.
يا للدهشة. الإمبراطورة لم تعبأ بنظرات مئات الجنود الذين يحدّقون بها، وسارت مرفوعة الرأس.
“أيّ روح هذه الّتي تجعلها تتصرّف هكذا.”
“بالضبط. وهي نفسها الّتي فرت هاربةً ما إن ظهر العدوّ.”
“ششـ، ستسمعكِ فيأخذونكِ!”
رغم أنّها لا بدّ سمعت الهمسات، إلّا أنّ وجهها الأنيق لم يحمل أيّ تجعيدة. حقًّا، لم تكن تُلقّب ملكة ساحة النبلاء في العاصمة عبثًا.
“على كلّ حال، ألن يعود جلالة الإمبراطور الآن بعد أن صار الوضع هكذا؟”
“سمعتُ أنّ اللورد فيليكس توجّه لإحضاره. لا بدّ أن وجوده يعيد التوازن. وإلّا لتصرّفت تلك الثعلبة العجوز كما يحلو لها.”
“آه، قلتُ لكِ أن تنتبهي لكلامكِ!”
تفاجأتُ أنا أيضًا من وصف “الثعلبة العجوز”، لكنّ الإمبراطورة اكتفت بابتسامة هادئة وهي تتابع سيرها.
“يكفي. لدينا ما يكفي من الأدلّة لإسقاط الإمبراطورة، فلنبدأ بالتخلّص من عدوّ الخارج أولًا.”
دخلتْ إلى مجال رؤيتي كتلة سوداء فجأة.
كانت يد إيدموند.
“جلالتك؟”
“سيصل جلالة الإمبراطور ليلًا سرًّا. وطلبتُ من فيليكس أن يمرّ على المعبد في طريق العودة. فممّا يفعله الأعداء الآن، لا يمكن اعتبار المعبد آمنًا أيضًا.”
“نعم. أرجو أن يعود سالمًا.”
“لا تقلقي.”
مرّر إيدموند يده على ذقنه، ثمّ رتّب بشيءٍ من التردّد خصلات شعري بقفّازه. لم يكن يُربّت، لكنّ النظرات التي تجمّعت حولنا كانت كافية لإرباكي.
“يبدو أنّ شيئًا علق بشعري. شكرًا لك.”
تراجعتُ للخلف مرتبكة، فتنفّس إيدموند بحدّة وكأنّ الأمر لم يعجبه.
“جلالتك، العدوّ قادم!”
“حسنًا. لقد حان الوقت.”
قد يبدو القول غريبًا، لكنّني شعرتُ بالارتياح لقدوم العدوّ الآن بالذات.
امتلأت العاصمة مجدّدًا بدخان البارود قبل أن تنتهي المعركة في ذلك اليوم.
***
كان الغروب يلامس قمّة البرج.
على الأغلب هذا آخر اشتباك اليوم.
“انقلوا الجرحى للداخل، وأغلقوا البوّابة بإحكام!”
لغياب فيليكس اليوم، لم يكن هناك من يقود الترتيب، ولذا كان عدد الجرحى أكبر من المعتاد.
ربّما كان ذلك بسبب تدخّل جنود دوقية بنتافول، الذين لم ينسّقوا معنا ولم يستمعوا لأوامر إيدموند بالتوقّف.
“هاه، كان يومًا فوضويًّا حقًا.”
أصيب إيدموند أيضًا. ورغم أنّه نجا طيلة الفترة السابقة دون إصابات خطيرة، فقد جُرح ظهره اليوم بضربة سيف عميقة. اكتفى بلفّ ضماد على عجل، ثمّ راح ينظر بقلق نحو البوّابة الخلفية.
“كان من المفترض أن يصل ليلًا على أيّ حال.”
كنتُ أعلم أنّ الأمر كلّه من أجل الإمبراطور.
ومع ذلك، تمنّيت لو يرتاح قليلًا.
“أعلم هذا، لكنّ قلبي غير مطمئن اليوم.”
ربّما بسبب أنّ معركة اليوم لم تسر كما أراد. كان إيدموند قلقًا على غير عادته.
لم يركّز في تقرير فاكيل، وعضّ شفتَه السفلى مرارًا. لم يكن طبيعيًّا، حتى أشعرني أنا أيضًا بالتوتّر.
“جـ، جلالتك!”
هل يمتلك الناس حدسًا حقيقيًّا بالفعل؟
“ما الذي يحدث هنا!”
عاد جنود النخبة المخصّصون للإمبراطور وهم ينزفون، يسند بعضهم بعضًا.
“أين جلالة الإمبراطور؟ فيليكس؟!”
“كنّا في طريقنا للمعبد، لكنّ جنود بيريل هاجمونا فجأة.”
“قاتلنا بما استطعنا، لكنّ الفارق في الأعداد كان كبيرًا.”
فالأصل أنّ هذه الفرقة كانت صغيرة للتحرّك بصمت.
“وكأنّهم كانوا يعرفون بتحرّكنا مسبقًا.”
“أين جلالة الإمبراطور؟”
“اللورد فيليكس تبع أولئك الذين أخذوه، وأمرنا بإبلاغك!”
تغيّر وجه إيدموند تغيّرًا مخيفًا. عيناه اشتعلتا بالغضب، وارتجفت يده داخل القفّاز، وانكمشت شفتاه بقسوة.
لم يكن غضبه موجّهًا إلينا، لكنّ شدّته جعلتني أرتجف.
“فيليكس … ذهب وحده؟”
“نعم.”
جاء جواب الفارس خافتًا كصوت يحتضر.
وحده … بينما لم يقوَ حتى الجنود مجتمعين على صدّهم.
كان فيليكس يعلم هذا أكثر من أيّ أحد.
“هل تعلمون أين أخذوه؟”
“نعم. إلى حيث يتمركزون.”
“اجمعوا كلّ من يستطيع القتال، باستثناء الجرحى.”
أصدر إيدموند أوامره بوجهٍ متجمّد، رغم إصابته.
وحين التقت عيناه بنظرتي، ارتدى معطفًا فوق الضماد الملطّخ. كم كان عليه أن يكون قلقًا ليغضّ النظر عن كرهه المعتاد للوضع؟ شعرتُ بالألم لأجله.
لو كان بوسعي القتال، لو كنتُ تعلّمتُ حتى التايكوندو الذي يتعلّمه الأطفال، هل كنتُ سأفيد في شيء؟
كنتُ أدرك أنّ ذهابي لن يفيد سوى في عرقلته، لذلك لم أتفوّه بأنّني أريد المجيء. اكتفيتُ بالتحديق في ظهره وهو يغادر بعزم، داعيةً أن يعود سالمًا.
***
تحمّل إيدموند ألم ظهره وهو يقود حصانه.
ازدادت قبضته حول اللجام.
‘يجب أن يكونا سالمين’
كان كلاهما يعنيان له أكثر من أيّ أحد. ورغم أنّ الإمبراطور لم يكن أبًا صالحًا له بعد تولّيه العرش، فأنفاس الصباح ودفء العائلة الّذي عاشه حتى رحيل والدته بقي عالقًا في صدره.
الإمبراطور دائمًا ما انشغل بالنبلاء وحسابات الإمبراطورة، ولم يمنحه حبّه كاملًا بسبب لوسيد.
لكنّه رغم ذلك ما يزال يتذكّر ذلك الأب الّذي كان يضمه ويبتسم له. ورغم بُعد العلاقة الآن، لم تتغيّر تلك الذكرى.
تمامًا كما تنبعث رائحة الطفولة في القلب، فتمتلئ الروح بالدفء.
“جلالتك، سنصل قريبًا.”
قالها فاكيل بصوت مشدود.
ظهر توترٌ كثيف يمكن لمسه بالجلد. فإذا كان والده أسيرًا، قد يفرض الأعداء شروطًا تعجيزية. فإذا طالبوا بالاستسلام مقابل حياة والده، فماذا عساه يفعل؟
لكن، لا خيار في الحقيقة. فوالده لن يقبل أن يُسلِّم الإمبراطورية مقابل حياته.
قبض إيدموند على سيفه بحزم.
“جلالتك! أحدهم قادم!”
شدّ الجميع قبضاتهم على أسلحتهم. أخرج إيدموند سيفه نصف الطريق من غمده.
ظهر بعدها وجه مألوف.
“أسـيس.”
جدّ إيكلا، وممثّل شعب فوغليش الذي زار الإمبراطورية للتجارة. لم يتوقّع ظهوره هنا.
ومع ذلك، حيّا أسـيس إيدموند بهدوء.
“مرّ وقت طويل يا جلالتك.”
“… نعم، وقت طويل.”
“ويبدو أنّ جلالتك بخير.”
وبعد تبادل المجاملات الفارغة، عمّ الصمت والريح بينهما.
ولم يرخِ الجنود أسلحتهم.
“ظهورك ممثّلًا يعني أنّ لك يدًا في أسر جلالة الإمبراطور.”
ابتسم أسـيس بلطف وهو يجيب.
“ألم أقل إنّكم ستندمون.”
خرج فيلكس من خيمة العدوّ.
“فيليكس!”
“جلالتك … أعذرني.”
كان وجهه متورّمًا لا يكاد يفتح عينيه، ورغم ذلك ابتسم ابتسامته اللطيفة المعتادة. ثمّ تألّم فورًا عند شدّ جرحه.
“لا تعتذر. أعرف أنّك بذلت جهدك.”
كان فيليكس دائمًا كذلك. يبذل كلّ ما يستطيع من أجله، ولو كان خرقًا للقوانين.
هو من أنقذ حياته، ومن سمح له بأن يرى والدته في لحظاتها الأخيرة.
ومنذ أن أصبح وليّ العهد، وثق به أكثر من الإمبراطور نفسه.
التعليقات لهذا الفصل " 114"