فلقد كانوا شعبًا لا يسمع إلّا: اصبروا، افهموهم، وما إلى ذلك.
أليس الإمبراطور هو الّذي كان يدافع دومًا عن الأجانب؟
وكان عامّة النّاس يعرفون إلى حدٍّ ما أيّ ابني الإمبراطور يملك كفاءةً أفضل.
غير أنّ الأمير لوسيد، وبشكلٍ لم يتوقّعه أحد، دافع عنهم وحماهم. ومن منظورهم، لم يكن بإمكانهم إلّا الوقوف في صفّه.
لكنّ ذلك لم يدم طويلًا. إذ عاد لوسيد ليبدأ بمجزرةٍ كما كان في السّابق.
أطفالٌ و عجائز لم يُلحقوا أيّ أذًى بالإمبراطوريّة، و أجانب أعلنوا موقفًا محايدًا—لم ينجُ منهم أحد. لم يكن سوى قتلٍ بلا معنى. لا يختلف عمّا فعله بعض الأجانب حين اقتحموا قراهم وأضرموا النّار ومارسوا العنف بلا رحمة.
بل إنّ تهوّر لوسيد ذاك منح في النّهاية ذريعةً للقوّات الأجنبيّة كي تتوغّل في الإمبراطوريّة.
الهيبة الّتي لم تهتزّ طوال المئة عام الماضية انهارت في لحظة.
“ألن ينتهي هذا حقًّا قبل أن يتحوّل إلى حربٍ أهليّة بلا نهاية؟”
“وإن لم ينتهِ بالحرب الأهليّة؟”
“قد تسقط الإمبراطوريّة في يد القوى الأجنبيّة … أو قد يستولي الأجانب أنفسهم على الأسرة الحاكمة!”
“يا له من كلامٍ مرعب، لا يمكن أن يحدث هذا!”
لقد اعتقد رعايا الإمبراطوريّة أنّ هذا لن يحدث مهما حصل.
فإيدموند، الذكيّ الّذي يحظى بمحبّة الإمبراطور، لم يكن يحظى بأيّ دعمٍ من النّبلاء فقط لأنّ في دمه قليلًا من دماء فوغليش. فكيف بغريبٍ يستولي على العرش؟ هذا أمرٌ لا يمكن حدوثه.
لكنّ خوفهم تضاعف في اللحظة الّتي رأوا فيها الأجنبي الّذي اقتحم العاصمة بقوّةٍ هائلة وجيشٍ ضخم.
لقد تذكّر النّاس حرب الخمس عشرة سنة الماضية الّتي كانوا يحاولون نسيانها. أولئك الّذين شهدوا كيف انقلب الأجانب من الهدوء إلى الوحشيّة حين ثار غضبهم، ارتعدت أوصالهم.
هرب بعضهم من العاصمة، فيما أغلق آخرون أبواب بيوتهم ووضعوا ألواحًا خشبيّة على النّوافذ.
وفي تلك الفوضى، رأى أحدهم عربةً محمّلة بالأمتعة تُغادر مسرعةً، ما فاقم الخوف والغضب.
فالعربة الّتي تحمل الجواهر كانت تقلّ الأمير لوسيد والإمبراطورة، وقد فرا إلى مقاطعة دوق بنتافول. وانتشرت الشّائعة كالنّار.
“سمعت الخبر؟ الأمير لوسيد غادر العاصمة مع جلالتها!”
“ماذا؟! ماذا يعني هذا؟! هل … تخلّوا عنّا؟”
“هه، من البداية لم يكن مهتمًّا إلّا بازدراء الأجانب. لم يكن يفعل شيئًا من أجلنا.”
“بالنّسبة لأولئك النّبلاء المتعجرفين … نحن لا نختلف عن الأجانب أصلًا.”
وسط هذا الفراغ والخذلان، ارتفع صوت أحدهم.
“هل سنترك قريتنا، هذه الإمبراطوريّة، تُسلب منّا؟”
“… صحيح! إن استولَوا الآن على القصر الإمبراطوري، فلن يكون هذا مجرّد استيلاء الأجانب. قد تستولي عليه الممالك الّتي ساندت الأجانب أيضًا!”
ارتفع الهمس وتحول إلى ضجيج.
“لا يمكن أن نقف متفرّجين.”
“لكن ماذا بوسعنا أن نفعل أمام جنودٍ مسلّحين؟”
عندها نهض رجلٌ في منتصف العمر كان قد خدم لفترةٍ قصيرة في الجيش أيّام شبابه، وقبضته مشدودة.
“ولماذا لا نستطيع؟ تذكّروا ما حدث قبل خمسة عشر عامًا. الأجانب قاتلوا هكذا أيضًا.”
“… صحيح. إن استطاعوا هم، فلم لا نستطيع نحن؟”
وأومأ الجميع بالموافقة.
“لكنّ الأجانب لديهم مملكة بايريل العسكريّة إلى جانبهم. بالتّأكيد يحملون البنادق …”
“و الأجانب أنفسهم انقضّوا على الجنود حتى وهم تحت نيران البنادق.”
“صحيح. ومهما حصل، فأن نصبح دولةً مهزومة ونُباع عبيدًا أو يُعاملنا الأجانب كغرباء … أسوأ بكثير من القتال!”
وتعاهد كلّ واحد منهم بعزم.
وهكذا، بينما كان الأجانب وجنودهم يطوّقون القصر ويشتبكون مع بقيّة جيش الإمبراطوريّة في الداخل، اندفع عامّة النّاس نحوهم.
كان مشهدهم يفيض بالتصميم.
وضعوا وسائد سميكة أو صفائح حديديّة على بطونهم، وغطّوا رؤوسهم بقدورٍ صغيرة مربوطة بحبال. أمّا أسلحتهم فكانت شتّى.
ربّات بيوت يحملن مكانس أو مقالي، رجال يحملون فؤوسًا، شابّ كسر ساق كرسيّ ليحمله كعصًا، وعجوز متكئٌ على عصاه يرتجف وهو يرفعها.
ظهروا خلف الأجانب الّذين كانوا يتقاتلون عند بوابة القصر، وبدأوا بضربهم بما في أيديهم. وأصيب جيش الإمبراطوريّة بالذّهول مثلهم.
“ما الّذي تفعلونه!”
وكانت صرخة إيدموند هي الّتي أعادت الحركة إليهم.
“حتّى العامّة يبذلون جهدهم من أجل الإمبراطوريّة. أتريدون أن تذهب شجاعتهم هدرًا؟”
“أبدًا يا سموّ الأمير!”
“إذًا … احموا شجاعتهم! واحموا هذا القصر!”
قاتل الجميع بقلبٍ واحد، عاقدين العزم على ألّا يسقط القصر.
وقف الحرس فوق الأسوار يطلقون النّار صفًّا واحدًا، بينما تقدّم إيدموند ومعه الماهرون بالسّيف نحو الخارج.
لوّح إيدموند بسيفه مرارًا، وفي كلّ مرّة كان يستحضر أوليفيا في ذهنه.
لقد سمع أنّها أحبّته … لم يكن ليُسمح له بالموت هكذا.
كان عليه أن يعيش. وأن يحميها ويحمي الإمبراطوريّة.
“سموّ الأمير، أدخل بسرعة!”
قاتلوا بشتّى الطّرق، لكنّ عدد الأعداء كان كبيرًا.
وقد كان الأعداء على يقين أنّه إن اخترقوا هذا الموضع فسينتهي الأمر، لذلك هاجموا بجنون.
أمّا السّكّان فكانوا في معظمهم بلا أيّ تدريبٍ عسكري، وبعضهم كان بالكاد قادرًا على الوقوف. ومع ذلك، صمدوا ساعاتٍ طويلة—وهو بحدّ ذاته معجزة.
“يجب إغلاق البوّابة الآن!”
لم يعد بوسع إيدموند إلّا أن يحسم قراره حين رأى الأعداء يقتربون كالطّوفان.
“لحظة!”
تفقّد آخر مجموعة من المدنيّين ليتأكّد أنّهم جميعًا دخلوا القصر، ثم سكب الزّيت على الأسوار وأشعل النّار.
كانت البوّابة من الحديد لا الخشب، كما أنّ المسافة بعيدة عن المباني، لذا كان ذلك قرارًا محسوبًا.
“سموّ الأمير!”
“سنصمد قليلًا على الأقل”
لكنّه كان يعرف أنّ هذا ليس إلّا حلًّا مؤقّتًا.
‘هل انتهى مستقبل هذه الإمبراطوريّة؟’
أسند ظهره إلى الجدار وأغمض عينيه بهدوء.
وحين فتحهما من جديد بعد استراحة قصيرة، كانت السّماء معتمة. لقد اسودّت بسبب الدّخان الّذي أشعله بنفسه.
“أشتاق إليها”
اشتاق إلى السّماء الصّافية … ذلك اللون الّذي كان يأسره كلّما رآه.
***
الحاضر —
حين دخل إيدموند إلى المكتب، أجلسني فوق المكتب.
ثمّ أمسك يديّ بكلتا يديه وبدأ يسرد ما حدث هناك.
حاولتُ سحب يديّ بخفّة، لكن لم يزدني ذلك إلّا صوت احتكاك جلده بجلدي.
“ومع ذلك … أن تُشعل نارًا كهذه كان تصرّفًا متهوّرًا.”
“أعرف.”
“وماذا لو احترق القصر الإمبراطوريّ؟”
“حسبتُ حساب ذلك.”
ابتسم إيدموند.
“على الأقلّ، بفضل الّذين حاولوا إطفاء النّار … كسبنا بعض الوقت.”
“وماذا لو لم يحاول العدوّ إطفاءها؟”
“مستحيل. أتظنّين أنّ مملكة إيوجيكس ومملكة بايريل أرسلتا الجنود من أجل الأجانب فعلًا؟”
كنت أعلم بالطّبع أنّ ذلك مجرّد سببٍ ظاهري، وأنّهم إنّما أرادوا مصالحهم.
“إنّهم يطمعون بأراضي الإمبراطوريّة. نحن نقع في مركز القارّة، ولا نعاني من تضاريسٍ وعراء أو جفافٍ كبير.”
بينما إيوجيكس أرضها وعرة جبليّة، وبايريل جزرٌ متفرّقة.
“وفوق ذلك، القصر مليء بالكنوز. هم لا يريدون أن يحترق شيء. القطع الفنيّة الثّمينة، الحُليّ النّادرة …”
أومأت موافقة.
“انتهت حكايتي.”
مسح إيدموند ظهر يدي برفق.
“الآن … احكي لي قصّتك.”
“ماذا؟”
انعكس بريقٌ لامع في عينيه وهو يحدّق فيّ.
“قلتِ إنّك تحبّينني.”
ورغم همسه الهادئ … ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه.
“أكان ذلك غير صحيح؟”
لم أتوقّع منه أن يفتح هذا الموضوع فجأة.
“أعني … فقط …”
سخُن وجهي كما فعل حين ربّت على رأسي قبل قليل، فلففت وجهي بعيدًا، لكنّه قبض على ذراعي بقوّة.
“فات الأوان. لن أتراجع. أبدًا”
توهّجت وجنتاي من وهج عينيه المتّقدتين.
يا ليتني أستطيع قول كلّ شيء. لكن مستقبل إيدموند لا مكان لي فيه. لا يمكن أن نكون سويًّا. لذلك لم أستطع فتح فمي.
كان الأمر كريحٍ شتويّةٍ حادّة تمزّق قلبي بلا رحمة.
فتح إيدموند ذراعيه.
ولمّا حاولتُ الهرب بالنّزول عن المكتب، تعثّرتُ بغباء و سقطتُ إلى الأمام، لكنّه أمسك بي بسرعة قبل أن أصاب بأذى.
كان الفجر ينساب عبر النّافذة. وبملامس الضّوء الأولى، بدا وجهه أكثر وضوحًا.
التعليقات لهذا الفصل " 112"