اتّبعتُ إيدموند إلى المكان الذي انتقل إليه، فإذا به ليس سوى السّجن الموجود داخل القصر الإمبراطوري.
وعندما صعدتُ السلّم الحجريّ الحلزونيّ، وجدتُ أن الغرف في الأعلى كانت شبه فارغة مقارنة بما في الأسفل.
لكن على الرّغم من قلّة النّاس، فقد وخزت أنفي تلك الرّائحة العفنة الّتي ملأت السّجن الضيّق في الأسفل.
“هنا يُحتَجَز عادةً السّجناء الّذين لم يتبقَّ لهم الكثير من الوقت ليعيشوه.”
“هل تقصد المحكومين بالإعدام؟”
“الأمر مختلف عن المحكومين بالإعدام. هنا نُعزِل السّجناء الّذين أُصيبوا بأمراض قاتلة ولم يبقَ لهم الكثير.”
‘إذًا، هل هذه الرّائحة تعود لرائحة أناس يحتضرون؟’
“ولكن يبدو أنّ معظم الزنزانات فارغة.”
“فمن النّادر أن يُصاب أحد هنا بمرض مميت.”
“لكنّ بورياس موجود هنا، أليس كذلك؟”
“صحيح.”
فتح إيدموند القفل بالمفتاح. وكان الباب الحديديّ السّميك، الممتلئ بالأقفال، يُصدر ضجيجًا عاليًا وهو يُفتح بعد جهود طويلة.
“هذا في الأصل جناح للعزل، نضع فيه المرضى المصابين بأمراض مُعدية.”
تلألأت عينا إيدموند.
“لم أتوقّع أبدًا أن يكون هنا.”
تردّد صدى وقع خطواته عاليًا في السّجن.
في البداية، كان المكان مظلمًا للغاية لدرجة أنني لم أستطع رؤية ما إذا كان هناك أحد. لكن حينما اعتادت عيناي الظّلام، بدأتُ أرى هيئة شخص.
“أه … جلالتك؟”
كان ذلك الرّجل الهزيل، الّذي بالكاد يمكن تصديقه أنّه نفس بورياس الذي رأيناه آخر مرة في قاعة المحكمة، جالسًا وهو منكمشٌ على نفسه.
“نعم، لقد طلبتَ الاستغاثة.”
“آه … يبدو أن طفلي استطاع إيصالها كما يجب.”
حتى صوته المبحوح لم يكن يشبه صوت بورياس المتغطرس والمتعجرف.
“فيليكس، الماء.”
“حاضر.”
ناول فيليكس، الّذي كان يتبعنا، قربة الماء عبر قضبان الزنزانة، فالتقطها بورياس والتهم الماء بنهم.
كان يشرب بسرعة كبيرة إلى درجة أنه اختنق، ومع ذلك استمرّ في سكب الماء في حلقه.
“أعلم أنّك عطشان، لكن إن شربتَ هكذا فستؤذي نفسك.”
حاول فيليكس منعه، لكن ذراعه السّميكة لم تكن لتدخل بين القضبان. ولحسن الحظّ، سقطت قربة الماء من يد بورياس الضعيفة.
“كحّ … كحّ! أع … أعذروني. أعتذر حقًّا …”
“يكفي، اهدأ الآن. هناك من يحرس المدخل، فلا داعي للعجلة.”
لكن رغم كلام إيدموند، ظلّ بورياس ينظر بخوفٍ متكرّر نحو المدخل.
“حسنًا. ما الّذي حدث بالضّبط؟”
“سأ … سأقول لكم كلّ شيء … بأكمله.”
انحنى بورياس وهو يرتجف، وبدأ يتحدّث بتقطّع.
“الشخص الذي استدعاني أولًا … كان رئيسي، كوزيل هارهيتمان.”
“هارهيتمان … أحد النبلاء الكلاسيكيين في معسكر الأرستقراطيين.”
“نعم … لقد سألني إن كنتُ أرغب في المشاركة في ‘عملٍ عظيم’.”
انخفض رأسه أكثر.
“وهذا العمل العظيم … كان إطلاق النار على أحدهم؟”
“بالطّبع رفضتُ في البداية. فأنا مجرّد عامّي، ما شأنـي بصراع القوى هذا؟ قلتُ إنني لن أفعل … ولكن …”
عضّ شفتيه اليابستين فسال الدم.
“لكن لسببٍ ما … كان مُصِرًّا على أن أكون أنا بالذات … وعرض عليّ مبلغًا ضخمًا. مالًا لم أحلم برؤيته في حياتي. ورغم ذلك رفضت.”
“وماذا حدث بعد ذلك؟”
“فجأة بدأ يذكر معلومات تفصيلية عن طفلي أمامي. كما تعلمون … زوجتي ماتت، ووالداي في الريف يربّيان طفلي بدلًا مني … عندها أدركت أنّه إن رفضتُ مرّة أخرى … فقد يُصيب طفلي مكروه. وربّما والديّ أيضًا.”
قبض بورياس قبضته على الأرض بقهر.
“فوافقت. وبعدها قدّم لي الكونت رولالد.”
رولالد … أقرب الخدم إلى الإمبراطورة.
“سألني الكونت إن كان بيني وبين أحد الأجانب عداوة.”
“إذًا كانوا يعرفون سلفًا واقتربوا منك بَنيّة.”
“يبدو ذلك. فالجميع يعلم أنني وبادِيون كنّا مثل الكلب والقط. الأجانب في أومفا يعلمون، وزملائي يعلمون.”
“وماذا قلتَ له؟”
“قلتُ إن الأمر صحيح … فقال لي: أطلق عليه النّار واقتله.”
ارتجفت قبضته المضمومة.
“إذًا لماذا أطلقتَ النار أيضًا على ممثّل فوغليش؟”
“كان صدفة، صدفة بحتة! منصبي كجندي مجرد لقب … أنا في الحقيقة حارس شخصي عادي. آخر مرة أمسكتُ فيها مسدسًا كانت أثناء تدريبات التوظيف! قلتُ لهم مرارًا أنّني لستُ واثقًا حتى من إصابة بانديون، لكن الكونت قال إنه سيتصرّف بنفسه.”
شيء غريب. كيف سيتصرّف بنفسه؟
“ألم يعطوك تدريبًا على إطلاق النار؟”
طرح إيدموند السؤال نفسه بحدة.
“أين يمكن لحارسٍ عامّي أن يتدرّب؟ فقط جنود الحدود يتدرّبون أحيانًا. والعامّة لا يُسمح لهم حتى باستخدام الذخيرة الحيّة.”
تبادل إيدموند وفيليكس النظرات وأومأ الأخير.
وهذا يعني أن احتمال إصابة بانديون برصاصة واحدة كان ضئيلًا جدًّا.
“لكن الرّجل سقط أمام عيني … شعرتُ بأن قلبي يتفجّر، ويداي ترتجفان.”
بصفته حارسًا اسميًّا لم يُطلق النار يومًا على بشر، فلا بدّ أنّه ارتعب كما ارتعبتُ أنا حين سقط زوجا البارون شورهارتس ذات يوم.
“لم أسمع شيئًا سوى صوت قلبي … ثم فجأة تدخّل ذلك العجوز.”
غطّى بورياس وجهه بيده.
“ارتبكتُ وكنتُ أُعيد المسدس إلى مكانه … ولم أتوقع أن ينطلق منه عيار آخر.”
“إذًا ادّعاؤك بأنّ المسدس سقط وأطلق النار كذب؟”
“نعم … مسدسي مزوّد بجهاز امتصاص للصدمة، فلا يمكن أن ينطلق منه العيار لمجرّد السقوط. لكن الكونت رولالد أمرني أن أقول ذلك …”
إذًا، فبيـنول الذي شهد لصالحه كان مُرتشًى من رولالد.
“لكن فحص المسدس يكشف الحقيقة … لماذا أمركَ بهذا؟”
“ربما ليزرع الكراهية والشكّ في قلوب الأجانب تجاه أبناء الإمبراطورية.”
بدأت قطع الصورة تتجمّع.
“قالوا إنهم سيحكمون ببراءتي، وكنتُ أنوي أخذ المال والهرب مع عائلتي إلى دولة أخرى …”
لكن الكونت رولالد، بعد أن استدعاه بحجة إعطائه المال، ضربه على مؤخرة رأسه، ولما استفاق وجد نفسه مسجونًا هنا.
“كيف أرسلتَ طلب النجدة إذًا؟”
يبدو أنهم لم يعطوه ماء حتى.
“استخدمتُ الحمام الزاجل.”
“طائر رسائل؟”
“نعم. إرسال الرسائل عبر الناس مكلف … وفي قريتنا كنا نمسك الحمام ونستخدمه.”
ثم أدار ظهره. وقد تمزّق قماش ثيابه عند الخاصرة.
“مزّقتُ ثيابي وكتبتُ بالدم. أخبرتُ والديّ مسبقًا أنّني إن واجهتُ خطرًا فسأرسل رسالة، وعليهم إيصالها إلى الأمير إيدموند. ولحسن الحظ أنّه ليس سجنًا تحت الأرض.”
هكذا وصلت الرسالة إلى إيدموند.
“جيّد … لقد أنقذك الحمام إذًا.”
قال إيدموند وهو يرمي عليه عباءة كان قد أحضرها.
“لا يمكنك البقاء هنا، قد يتخلصون منك في أي لحظة.”
“لكن إن اكتشفوا غيابي … ماذا سيحدث؟”
“هل يزورك أحد؟”
هزّ بورياس رأسه.
“كانوا يزورونني في البداية عدّة مرات يوميًّا … لكن مؤخّرًا لم يأتِ أحد.”
“فلماذا تبقى إذًا؟”
أشار إيدموند بلا مبالاة نحو الباب.
“اخرج فورًا. ألا تشعر بالجوع؟ ألا تريد رؤية طفلك؟”
امتلأت عينا بورياس بالدموع عند سماع كلمة “طفل”.
“هل … هل ستنقذونني؟”
“هل قلتُ يومًا إنني سأقتلك؟”
قالها إيدموند بملامح باردة. ومع هذا الوجه يبدو وكأنه يهدّد، لا يطمئن.
“ولكي نُنهي الحرب الأهلية، يجب أن تبقى حيًّا. عليكَ الشهادة. هل لديك دليل على أنّ الكونت رولالد أمرَك؟”
“نعم! لدينا عقد مكتوب!”
عقد؟
“أين هو؟”
آمل ألا يكون قد تركه في سكنه، أو أعطاه لطفله … وإلا لربما أتلفوه.
“خشية أن يُصادره أحد إن حدث لي شيء … وضعته في صندوق الشكاوى الخاص بالجنود.”
صندوق الشكاوى؟ ذلك الصندوق في ممرّ وزارة الجيش؟
“سأحضره.”
ركض فاكيل بسرعة بعدما أشار إليه إيدموند.
“لماذا وضعته هناك …؟”
“لأنّه لا أحد يفتح ذلك الصندوق. هو مجرد صندوق للتسمية فقط.”
هذا صحيح. هذا العالم والعالم الذي جئتُ منه … متماثلان في أمور كهذه.
التعليقات لهذا الفصل " 109"