في تلك اللّحظةِ خيّم صمتٌ مُطبِق على قاعةِ الإستقبال، كأنّ فأرًا مات فيها.
“الآن، ماذا قلتَ؟ إيدموند ومع مَن؟”
يبدو أنّ الإمبراطور لم يستوعب الموقف بعد، فسأل من جديد. لكن هذا لم يُغيّر جواب آسـيس.
“استنتاجُ تجّارنا من شعب فوغليش، وما تبقّى من الأجانب الناجين، هو هذا. قبل خمسةَ عشرَ عامًا، انتهتِ الحربُ الأهليّة باعتلاء جلالةِ الإمبراطور العرشَ بعد زواجه من أجنبية. لذا، نرى أنّه في هذه المرّة، لو تزوّجَ سموُّ الأمير الأوّل إيدموند من الفوغليشية إيكلا، فقد يُسهم ذلك في إنهاءِ الحرب.”
تزويجُ إيدموند وإيكلا لإنهاءِ الحرب الأهليّة.
شعرتُ كأنّ نصلًا حادًّا يخدشُ قلبي. زواج؟ نعم، صحيح أنّ إيدموند سيعيش في هذا العالم، وسيأتي يومٌ يتزوّج فيه أيًّا كانت. أعرفُ هذا …
ومع أنّني لا أستطيع أن أكون بجانبه، وهذا طبيعيّ، إلّا أنّ مجرّد تخيّل الأمر جعل حلقي يحترق. فنظرتُ إليه.
هل شعر هو أيضًا بهذا عندما قلتُ له إنّني سأتزوّج غالرهيد؟ لا، لو شعر هكذا، لما كان قادرًا على أن يباركني. لا يمكن. فالأمر موجِع إلى هذا الحد.
“ها.”
مسحَ إيدموند رأسه كما لو أنّ الكلام يثير سخريته.
“جلالتك. لا يستحقّ هذا الكلام حتّى الاستماع إليه.”
“…….”
مسحَ الإمبراطور وجهه العجوز المُمتلئ بالتجاعيد.
“كشرطٍ لإنهاءِ الحرب، يبدو أنّكم لا تكسبون شيئًا في المقابل. ثمّ لماذا إيدموند أصلًا؟ لديّ ولدان. والنبلاء يتبعون الأمير الثاني أكثر، فلوسيد سيكون أنسب.”
“لكنّ سموَّ الأمير إيدموند وحده هو مَن وقف لأجلنا.”
أجابت سينيّا، وهزّ ليويل رأسه موافقًا.
“لقد راقبنا طوال الوقت كيف تعامل سموّا الأميرين مع القرارات التي أصدرتها. الأمير إيدموند كان صادقًا في اهتمامه بنا وتعاطفه معنا. أمّا سموُّ الأمير لوسيد فقد كان يزدريُنا دائمًا وينظر إلينا كأنّنا شيءٌ ملوّث.”
“نحن نرى أنّه لن يقبل بعقد زواجٍ تحالفي أبدًا.”
بالفعل، لو كان لوسيد، فهذا متوقّع منه. لا أعرف لماذا يكره الأجانبَ بهذا الشكل. صحيح أنّ معظم النبلاء كذلك، لكن لوسيد كان أشدّ حدّةً، وكأنّ كرهَه يحمل شيئًا من الحقد.
“ثمّ إنّ سموَّ الأمير إيدموند يحمل دمَ فوغليش بالفعل.”
أضاف آسيس: “وأكثر مَن يمكن الوثوق به هو مَن يحمل دمَ الشعب ذاته. ورغم أنّ النَّصيب قليل، إلّا أنّ أرواح حاكمنا محفورة بالتأكيد في سموّه.”
لم أتخيّل أنّ الحديث عن النَّسب سيُطرح في عالم روفان.
نظرتُ إلى إيدموند بطرف عيني. كانت عيناه لا تزالان تشتعلان.
“قبل خمسةَ عشرَ عامًا، كان أبي وأمّي يُحبّان بعضهما. لذلك قبلا بتلك الشروط. لكنّني لستُ كذلك.”
“نعرف ذلك. وإيكلا قالت الأمر نفسه. قالت إنّه ليس لها مكانٌ في قلب سموّك. لكن لهذا بالذات يمكننا فهم مدى جديّة العائلة الإمبراطورية في التفاوض معنا حول قضية الأجانب.”
شرحَ آسيس منطقه بصوتٍ أجشّ هادئ.
“جلالتك، هذا هراء. كلّ ما فعلتهُ من أجل الأجانب كان لأجل والدتي. لأنّها كانت تُريد ذلك.”
“إيدموند.”
“والنتيجة أن أتزوّج امرأةً لا أحبّها؟ هذا غير معقول. جلالتك أيضًا كنت تكره الزواج من امرأة لا تُحبّها!”
صار إيدموند يحتجّ بالعاطفة بدل العقل. هل يرفض الزواجَ بإيكلا بصدق؟ هل هذا لأنّي غيّرتُ أحداث القصّة الأصلية؟
هل كان هذا ما يحدث في الأصل، فيتزوّجان ثمّ يصبح إيدموند وليًّا للعهد؟ لا، قرأتُ النهاية، ولم يكن هناك شيءٌ من هذا. كانا سعيدَيْن. إذًا هذا أيضًا نتيجةُ تدخّلي.
“اهدأ أولًا، يا إيدموند.”
وضع الإمبراطور يده على جبينه.
ما الذي سيفعله الآن؟ هل سيقف مع إيدموند؟ أم مع الأجانب الذين يُفضّلهم دائمًا؟
“قلتَ اسمك آسـيس؟”
“نعم، جلالتك.”
“عذرًا، لكن لا يمكنني قبول هذا الشرط.”
كان هذا مفاجئًا. بناءً على تصرّفاته السابقة، ظننتُ أنّه قد يُفكّر يومًا أو يومين قبل أن يرفض.
“كنتُ مخطوبًا منذ صغري. وظننتُ أنّ هذا هو الطبيعيّ كأمير. لكنّ كلّ شيء تغيّر عندما قابلتُ أنجيليا. كنتُ سعيدًا. ورغم أنني تخلّيتُ عن كلّ امتيازات الأمير، إلّا أنّني أنشأتُ أسرةً سعيدة مع المرأة التي أحببتها وأنجبتُ منها طفلًا.”
بدت نبرة الإمبراطور أكثر دفئًا وهو يتذكّر.
“الناس همسوا بأنّ زواجي من أجنبية جعلني أُصبح إمبراطورًا رغم أنّه لم يكن مقدّرًا لي. لكنّ الحقيقة أنّني مستعدّ للتخلّي عن العرش فقط لأعود إلى ذلك اليوم وأنقذ زوجتي. هذا ما أُفكّر فيه إلى اليوم. مُنذ أصبحتُ إمبراطورًا لم يعد لي حقّ فعل ما أُريد.”
كاي أصبح إمبراطورًا، ثمّ أُجبر على الزواج من خطيبته السابقة بحجّة أنّ البلاط الداخلي لا يمكن أن يبقى خاليًا.
ولوسيد وُصِف بأنّه طفلٌ وُلِد تحت تأثير العقاقير.
“لا أريد لابني أن يُكرّر ما فعلتُه أنا.”
اشتدّت قبضةُ آسـيس على عصاه.
“إذًا ستستمرّ الحرب. كلّ هذا بسبب تعلّقك الغبيّ بالماضي، يا جلالة الإمبراطور.”
“اُخرس، كيف تجرؤ!”
“كيف تتجرّأ على الوقاحة تحت مظلّة حُسن معاملة جلالتك!”
لكن آسـيس لم يُعرهم اهتمامًا.
“إيكلا، تعالي.”
“نعم؟”
كانت تقف بجوار إيدموند، فنظرت مرتبكة حولها.
“هذه السياسات التي يزعمون أنّها تدعم الأجانب لم تكن سوى قناع. انظري، الأمير إيدموند الذي تثقين به يرفض حين يتوجّب عليه تحمّل خيارٍ صعب.”
هذا مختلف تمامًا! ماذا يعرف عن صدقِ إيدموند في دعم الأجانب؟ أردتُ الاعتراض، لكن إيكلا سبقتني.
“ليس صحيحًا يا جدّي! سموّ الأمير إيدموند صادقٌ في تحسين أوضاع فوغليش!”
“اصمتي! لن أدعَكِ تعملي ككلبٍ للإمبراطورية بعد الآن. استقيلي.”
“لكن—!”
رفضت، لكنّ أحد الأجانب الذين جاؤوا معها جذبها بعيدًا.
غادر آسـيس وهو يرمق الإمبراطور بنظرةٍ حادّة.
“ستندمون على هذا قريبًا، يا جلالة الإمبراطور.”
ترك اللّعنة تتردّد في القاعة.
“…….”
خرج الأجانب جميعًا، وخلّفوا وراءهم صمتًا غريبًا.
“أوليفيا.”
ناداني إيدموند وسط السكون، فالتفتت الأنظار نحوي.
“نعم؟”
“لنذهب. لدينا مكانٌ نقصده، أليس كذلك؟”
“آه، نعم.”
صحيح أنّ علينا زيارة بورياس، لكن … هل هذا وقتٌ مناسب؟
“إيدموند.”
ناداه الإمبراطور قبل أن نخرج. توقّف إيدموند دون أن يجيب. نظر الإمبراطور إليه ثمّ إليّ وقال: “هذا الموقف سيؤذيك.”
“أعرف. لا تقلق.”
“ولن أستطيع تنفيذ طلبك إن استمرّ الوضع هكذا.”
طلب؟ إيدموند يطلب شيئًا من أحد؟ هذا غريب.
نظرتُ إليه. لم أعرف ما هو ذلك الطلب، لكن وجهه صار أصلب وهو يجيب: “فقط، نفّذ طلبي يا جلالة الإمبراطور. هذا يكفيني.”
“حسنًا. سأنتظر إذًا.”
ثمّ غادر.
سارع إيدموند بالمشي، فلحقتُ به.
“سموّك، ماذا طلبتَ من جلالته؟”
“… فقط، عندما ينتهي هذا الأمر.”
“عندما ينتهي؟”
انتظرتُ بقيّة كلامه، لكنّه أغلق فمه بإحكام ومشى في الممر. كان ضوء الشمس ينساب من النوافذ ويلامس وجهه. ومعه كانت مشاعري تهتزّ.
متى كبر هذا الحب إلى هذا الحد؟ ظننتُ أنّني لو كبحتُه بسبب غالرهيد فسوف يختفي. لكنّه لم يختفِ. بل نما، بصمت، حتى صار أكبر ممّا أستوعبه.
مجرّد فكرة زواج إيدموند من إيكلا أسقطتني في الهاوية.
التعليقات لهذا الفصل " 108"