كان إدمون في حالةٍ من الضّيق الشّديد الآن. و إذا سُئل عن السّبب ، فلن يكون لديه سببٌ وجيهٌ حقًا.
“أوليفيا ، هل أنتِ مختلفةٌ عن المعتاد اليوم؟”
“هل يبدو الأمر كذلك؟ في الحقيقة ، لديّ موعدٌ غراميّ بعد العمل اليوم!”
أهناك موعدٌ حقًا؟
أمسك إدمون الأوراق التي بين يديه بقوّةٍ دون أن يدرك ، حتّى تكوّمت الورقة التي كان يجب أن تُختم بختمٍ إمبراطوريّ.
“موعد؟ مع … مَن؟”
عندما طرح دانتي السّؤال ، بدا و كأنّه ندم على الفور ، فأغلق فمه و نظر إلى إدمون. كانت عيناه الحمراوان تتّقدان غضبًا.
“مع السّيّد غارسيل”
عندما نطقت شفتاها الصّغيرتان الرّقيقتان باسم رجلٍ آخر بخجل ، لم يستطع إدمون أن يتحمّل أكثر.
“أوليفيا! هل أنهيتِ العمل الذي كلّفتكِ به أمس؟”
ضرب إدمون المكتب بقوّة و هو يصرخ ، فأغلق مرؤوسوه الذين كانوا يتسامرون ببساطةٍ أفواههم في الحال.
حتّى في نظرهم ، كان من الواضح أنّ إدمون في حالةٍ من الاضطراب الشّديد. في مثل هذه الأيّام ، لم يكن من الحكمة أن يفتح أحدهم فمه و يجذب انتباه الرّئيس. فقد يتعرّضون لانتقاداتٍ غير ضروريّة أو خصمٍ من رواتبهم ، و هذا سيكون كارثةً.
“بالطّبع. لقد أنهيتُ كلّ شيء هنا”
قدّمت أوليفيا الورقة و هي تبتسم ، مليئةً بحروفٍ مستديرةٍ تشبهها. انتزع إدمون الورقة بسرعة و بدأ يقرأها بعجلةٍ.
“…”
كانت مثاليّةً بشكلٍ مزعج. لم يجد إدمون أيّ عيبٍ في الأوراق ، فبدأ يبحث عن شيءٍ آخر ليُعلّق عليه.
“ما هذا الرّف في المكتب؟ لماذا هو مرتبٌ بهذا الشّكل الفوضويّ؟ أوليفيا ، رتّبيه على الفور!”
“آه ، سموّك ، أعتذر. هذا من مهامّي بدءًا من اليوم …”
ردّ كامبل ، الذي كان يجلس عند المدخل و يغرق في بحرٍ من الأوراق، بصوتٍ يشوبه البكاء.
“…اللّعنة”
تمتم إدمون و هو يتذمّر كمن وقع في مأزق ، بعد أن وبّخ الشّخص الخطأ ، بينما ازداد وجه كامبل شحوبًا.
مرّ الوقت ، و غربت الشّمس تدريجيًّا. و بينما كان الجميع يغادرون واحدًا تلو الآخر ، أخرجت أوليفيا مرآةً صغيرةً من الدّرج و بدأت ترتّب شعرها.
كانت تقلّب شعرها هكذا و هكذا ، ثمّ ابتسمت راضيةً عندما وجدت التّسريحة المناسبة ، و بدأت تضع أحمر الشّفاه.
بعد أن مرّرت شفتيها الرّطبتين ببعضهما ، صرخ إدمون: “أوليفيا ، أحضري جدول تسوية الضّرائب للعام الماضي بحلول اليوم!”
“ماذا؟ لكن هذا العمل مقرّرٌ لنهاية الشّهر!”
“هل تعارضينني الآن؟!”
“… لا ، سيدي”
أطرقت أوليفيا كتفيها. عندما انخفض حاجباها الأنيقان ، ظهرت ابتسامةٌ راضيةٌ على شفتي إدمون.
لكن تلك الابتسامة لم تدم طويلًا.
“سموّك ، ها هو جدول التّسوية”
“… هل أنهيتِه بالفعل؟”
“بالطّبع. ألا تعلمو أنّني أجيد عملي؟ أليس هذا سبب اختياركَ لي كمساعدةٍ مباشرة؟”
نظرت إليه عيناها الزرقاوان المستديرتان بابتسامةٍ مشرقة.
“إذن ، سأغادر الآن”
“انتظري لحظة!!”
صاح إدمون بلهفة ، لكن أوليفيا خرجت من المكتب بسرعة.
تقلّصت أكتاف الباقين في المكان ، و بعضهم تسلّل بعيدًا بهدوء.
“هل تتجاهلني الآن؟!”
كما كان متوقّعًا ، ألقى إدمون الغاضب بحزمة جداول التّسوية التي كانت بيده.
حتّى الأمس ، كانت الفتاة التي كانت تتعلّق به باستمرار تذهب الآن لموعدٍ مع رجلٍ آخر ، أحد مرؤوسيه تحديدًا.
‘نعم ، إنّه مجرّد شعورٌ سيّء’
فكّر إدمون بهذا و هو يضرب مكتبه. بينما كان فيليكس يهزّ رأسه بهدوء و هو يرى الشّقوق تظهر على المكتب المصنوع من خشب أليستار ، الأقوى في العالم.
***
استيقظتُ على صوت طلقاتٍ ناريةٍ خافتة.
خيمةٌ متداعية ، أثاثٌ بالٍ ، كلّ شيءٍ في الغرفة كان غريبًا.
و هذا طبيعيّ.
لأنّ هذا لم يكن كوريا التي عشتُ فيها. بل ، بعبارةٍ أدقّ ، لم يكن العالم الذي عشتُ فيه.
في مارس ، عندما بدأت حياتي كطالبةٍ تتحضّر للامتحانات ، تمّ تشخيص والدتي بسرطان المعدة في المرحلة الثّالثة. في تلك اللحظة التي شعرتُ فيها باليأس ، جاء رجلٌ ادّعى أنّه والدي.
“تشا يونا ، إذا نجحتِ في الالتحاق بقسم العلوم السّياسيّة و الدّبلوماسيّة في جامعة إس ، سأضمن معاملةً عادلةً لكِ و لأمّكِ”
حتّى تلك اللحظة ، لم أكن أعلم أنّ لي والدًا. كان والدي رجلًا لا يستطيع التّخلّي عن لقب عائلةٍ دبلوماسيّةٍ عريقة. أمّا أخي الأكبر ، فقد فشل حتّى في الالتحاق بجامعةٍ محليّة ، لذا جاء إليّ.
إذا نجحتُ ، ستُغطّى تكاليف جراحة أمّي و العلاج الكيميائيّ الباهظ. هذا الواقع وحده هو الذي دفعني للعمل. نمتُ ساعتين يوميًّا ، و تخلّيتُ عن أيّ هواياتٍ يمارسها الآخرون.
انتهت حياتي كطالبةٍ تتحضّر للامتحانات عندما ظهرت كلمة “مبروك القبول” على الشّاشة.
في اليوم التّالي للقبول ، و أنا أعدّ الأصفار في الحساب البنكيّ و أنظر إلى أمّي الممدّدة في غرفة المستشفى ، كنتُ في الحافلة عائدةً إلى المنزل.
سمعتُ حوارًا بين فتياتٍ.
لم أفهم معظم ما قلن ، لكنّه كان عن روايةٍ على الإنترنت.
كتابٌ لا علاقة له بالامتحانات أو المقالات كان شيئًا نادرًا بالنّسبة لي. أثار ذلك فضولي.
أخرجتُ هاتفي كأنّني مُسحَرة ، و نقرتُ على روايةٍ تتصدّر الترتيب الأسبوعيّ و بدأتُ القراءة.
“أوه ، يتزوّج البطلة و يصبح وليّ العهد ، و تنتهي القصّة. نهايةٌ سعيدة ، أليس كذلك؟”
أنا التي أقرأ النّهاية دائمًا قبل البداية ، شعرتُ بالرّضا عن النّهاية السّعيدة المحكمة و بدأتُ أقرأ من الحلقة الأولى.
كانت القصّة عن أجانبَ يُهمَشون في الإمبراطوريّة ، و بطلةٍ تمثّلهم ، تُظهر قدراتها و تكسب قلب البطل. بينما كنتُ أقرأ بشغف ، حدث شيءٌ.
فجأة ، أضاءت عيناي. عندما التفتُّ نحو مصدر الضّوء ، أدركتُ أنّ شاحنةً ضخمةً تندفع نحو الحافلة ، و في اللحظة ذاتها ، فقدتُ الوعي.
أوليفيا؟ كنتُ أعتبر نفسي ذكيّةً نوعًا ما ، لكن مهما حاولتُ التّذكّر ، لم يكن هناك اسمٌ كهذا في تلك الرّواية. من أنت؟ أين أنا؟ قبل أن أسأل ، شعرتُ بجسدي يرتفع فجأة.
كنتُ محمولةً بيد الطّفل ، أتأرجح يمنةً و يسرة. وسط ذلك ، سمعتُ طلقاتٍ ناريةً و صرخات النّاس. كانت رائحةُ حرق الجثث تملأ المكان ، و الشّوارع ملطّخةٌ بالدّماء و الجثث.
حاولتُ التحدّث عدّة مرّات ، لكنّ فمي لم يتحرّك. في هذا المشهد المرعب ، أمسك الطّفل يدي بقوّة و هو يركض بجدّ.
من الوهلة الأولى ، بدا أنّه في الخامسة أو السّادسة من عمره. أردتُ أن أرى وجهه مرّةً أخرى ، لكن مهما حاولتُ ، لم أستطع تحريك رأسي.
غريبٌ. حتّى لو كنتُ خفيفةً ، كيف يستطيع طفلٌ صغيرٌ حملي و الرّكض هكذا؟ بينما كنتُ أتساءل ، توقّف الطّفل ، و أخيرًا رأيتُ انعكاسي في زجاجٍ مكسور.
شعرٌ أزرق فاتح ، و عينان تشبهانه تمامًا. وجهٌ أبيض ناصع. أنفٌ و فمٌ صغيران متناسقان. كنتُ دميةً جميلةً من الظّاهر.
دمية؟ لستُ بطلةً ، ولا شريرةً ، ولا حتّى شخصيّةً ثانويّة ، بل شيءٌ غير حيّ؟ هذا كثيرٌ جدًا!
“ماذا هناك، أيّها الصّغير؟”
اقترب رجالٌ يرتدون أحذيةً عسكريّة ، و نظروا إلى الطّفل الصّغير و ضحكوا بسخرية.
“لا يزال هناك شعب فوغليشي في العاصمة”
شعب فوغليشي. عندما سمعتُ تلك الكلمة ، شعرتُ بقلبي يهوي. كنتُ على حقّ ، إنّها الرّواية التي كنتُ أقرؤها.
لو كنتُ أعلم ، لاخترتُ روايةً على الإنترنت أكثر سلامًا.
لم يعرف الطّفل ما يدور في ذهني ، و أغلق فمه بينما كان يعانقني بقوّة.
وجّه جنديٌّ مسدّسه نحو الطّفل الذي لا يصل طوله حتّى إلى خصره.
بانغ-
مع صوت الطّلقة ، شعرتُ بصدمةٍ هزّت جسدي.
سقط الطّفل ، و مالت رؤيتي معه. كان يعانقني و يتمتم: “يجب … أن أعطيها … إنجل … أوليفيا …”
أغلق الطّفل عينيه ، و أردتُ أن أصرخ ، لكنّني لم أستطع.
“هل مات؟”
“بالتّأكيد مات”
أشعل الجنديّ الذي أطلق النّار سيجارةً بلا مبالاة و أخبر رفاقه بالمغادرة أوّلًا.
“حسنًا ، سنذهب إلى وسط المدينة”
“جيّد ، سأتبعهم بعد أن أنهي هذه”
عندما ابتعدت أصوات الأحذية العسكريّة ، سحق الرّجل سيجارته و بدأ يتفحّص المكان بحذر.
“يا صغيري ، هل أنتَ بخير؟”
رفع الجنديّ الطّفل بحذر. عندها فقط ، رأيتُ الرّصاصة المغروسة في ظهر يده. يبدو أنّ الرّصاصة أصابت يده.
“آه ، يا إلهي. حتّى طفلٌ كهذا يجب أن يُقتل”
تنهّد الجنديّ و عانق الطّفل بحذر.
“سأتأكّد من إنقاذك”
ثمّ ركض إلى مكانٍ ما ، تاركًا إيّاي وحدي.
آه ، هذه درجة صعوبةٍ مستحيلة. أن أكون في جسدٍ غير حيّ؟ ماذا أفعل الآن؟ بينما كنتُ أحدّق في السّماء في ذهول ، سمعتُ صوتًا: “مرحبًا”
التعليقات لهذا الفصل " 1"