منذ ذلك اليوم الذي قابلنا فيه الأمير سكالين، تغيّر هارين بشكل غريب؛ إذ أصبح يأخذ التدرّب على الفنون القتالية على محمل الجد.
‘يا للدهشة يا سيدي الصغير… مهارتك تتحسّن يوماً بعد يوم!’
وما زاد قلقي أنّ موهبته بدت أعظم بكثير مما كنت أظن.
حتى الآن، هو مكرّس نفسه للرماية فقط…
لكن رؤية بريق الحماسة في عينيه كلما توجه إلى ساحة التدريب جعلتني أخشى أن تمتد يده قريباً إلى السيف، سلاحه الذي سيكون فيه حقاً في ذروته.
‘لا يكون أن طباعه الحقيقية ستظهر فجأة…؟’
لحظتها ارتسم أمامي مشهد مستقبله الذي أعرفه من الرواية.
سيّد السيف الذي هزّ أركان الإمبراطورية.
قاتل بارد الملامح، يغرس نصله في قلب خصمه دون ذرة رحمة.
هكذا صُوِّر هارين في الرواية.
لكن الواقع الآن؟ ليس سوى طفل يعضّ على قطعة لحم مقطّعة بعشوائية، بملامح بريئة لا تشي بشيء.
غير أنّه… من يدري؟
ربما، حين يمسك بالسيف، يصحو الظلام الكامن في أعماقه.
“هارين، هل ستذهب إلى ساحة التدريب اليوم أيضاً؟”
سألت وأنا أحرّك الملعقة في وعاء الحساء أمامي.
رفع رأسه من طبقه، وبينما كان على وشك أن يضع قطعة اللحم في فمه، أومأ بقوة قائلاً.
“نعم! سأذهب اليوم أيضاً!”
تنفست ببطء وأنا أرمقه. لماذا فجأة أصبح مهووساً بالرماية؟
كنت أعلم أنه، كونه صبياً ذا موهبة، سيأتي يوم يتعلّم فيه الفنون القتالية… لكنني لم أتوقع أن يحين ذلك بهذه السرعة.
“هارين، ما رأيك أن لا تذهب اليوم إلى التدريب؟ نجلس سوياً لشرب الشاي ونتحدث بهدوء، مثل الأيام الماضية.”
“آه؟ اليوم؟”
“نعم! لقد اشتقت لقضاء وقت معك على هذا النحو. ما رأيك؟”
لا بد أن أوقف ذهابه المتكرر إلى ساحة التدريب.
إن استمر هكذا، فسيصل إلى السيف أسرع بكثير مما توقعت.
‘لا، هذا لا يجوز. عليّ تأخير تعلمه السيف قدر المستطاع.’
“هممم؟”
تردّد هارين واضعاً يده على ذقنه، متفكراً.
لكن… هارين يعزني كثيراً. هل يُعقل أن يرفضني؟ يكفي أن أنظر إليه نظرة استعطاف، وسيرضى حتماً بقضاء الوقت معي… أليس كذلك؟
“أختي، آسف. لا أستطيع اليوم.”
“هاه…؟”
“لكن! أعدكِ… سأتدرّب بجد، وفي المرة القادمة سأريك إصابتي للهدف بدقّة! ستكون أروع من سموّ الأمير نفسه، فعليك أن تريها بعينيك!”
قال ذلك، ثم حشر ما تبقى من اللحم في فمه وغادر القاعة مسرعاً، تاركاً إيّاي خلفه مشدوهة.
لحظة… ماذا يعني هذا؟
هل يكون السبب الحقيقي وراء ولع هارين المفاجئ بالرماية هو…؟
مرّ شريط قصير في ذهني. تلك الكلمات التي قلتها لسكالين، على عربة العودة..
‘سموّ الأمير! شكراً لكَ على المشهد الرائع اليوم. لم أرَ في حياتي سهماً يصيب قلب الهدف من تلك المسافة البعيدة. أرجو أن تريَني ذلك مجدداً في المرة القادمة!’
كنت أظنها مجرّد مجاملة عابرة، لكن… يبدو أنّها لم تحرّك في سكالين شيئاً، بل أوقدت نار التحدي في قلب هارين!
وفي الاتجاه الذي لم أكن أريده أبداً.
“ها… هاها…”
ضحكت بارتباك وأنا أحدّق في الكرسي الفارغ الذي كان يجلس عليه هارين قبل قليل.
سألتني آنّا، وصيفتي، إن كنت بخير، لكن لم أجد في نفسي جواباً إيجابياً.
تذكّرت حينها وصيّة مديرة الروضة أثناء تدريبي.
‘الأطفال، يجب أن يُعاملوا جميعاً بالعدل. لا تعطوا أحدهم أكثر أو أقل، فحتى أصغر تصرّف يترك فيهم أثراً بالغاً. عليكم أن تكونوا منصفين دائماً.’
ظننت وقتها أنّها تقصد توزيع الحلوى والألعاب بالتساوي…
لكنني الآن، فقط الآن، أدركت مغزى كلامها تماماً.
واستوعبت شيئاً آخر أيضاً: تربية الأطفال… أمر بالغ المشقة.
***
“سيدي الدوق، أهلا بعودتك.”
كان ذلك عند ساعات الفجر المتأخرة.
حين غرق القصر في سكون بعد يوم صاخب، عاد داميان، سيد الدوقية وصاحب هذا البيت.
لقد غاب أياماً عدة في رحلة عمل، والآن كان يتأمل منزله العائد إليه أخيراً بنظرة متعبة.
ومع ذلك، كان يحمل جاذبية من الصعب أن تُخفيها ملامح رجل في منتصف العمر وأب لطفلين.
“ماذا عن الأطفال؟”
كعادته، كان أول ما يسأل عنه بعد عودته هو أخبار طفليه.
كان هذا روتينه الدائم، إذ لم يكن يجد وقتاً لقضائه معهم سوى من خلال تقارير الخدم، لكثرة انشغاله.
“السيد الصغير تناول عشاءه ثم خلد للنوم حوالي التاسعة، وأما الآنسة سيليا فقد كانت تقرأ في المكتبة ثم ذهبت لتنام حوالي العاشرة.”
كان داميان يستمع إلى تقرير كبير الخدم فروين وهو يراجع أوراقه، لكن عند سماعه الجملة الأخيرة توقف فجأة، يده معلقة في الهواء.
“المكتبة؟ سيليا ذهبت إلى المكتبة اليوم؟”
“نعم يا سيدي. في الآونة الأخيرة، اعتادت بعد العشاء أن تمضي وقتها هناك تقرأ الكتب.”
ارتسمت على محيّاه ملامح غامضة مترددة.
“… هكذا إذن.”
كانت مكتبة القصر بالنسبة له مجرد مكتب للعمل، لا أكثر ولا أقل.
في الواقع، لم يكن أحد يدخل ذلك المكتب في غياب داميان، إلا خادمة تأتي بين الحين والآخر لتنظيفه.
‘لكن… ليس هناك كتب يمكن لسيليا أن تفهمها في ذلك المكان.’
فالكتب الموجودة في المكتبة لم تكن سوى مجلدات تؤرّخ للإمبراطورية، أو أوراقاً ووثائق تخصّ أعمال داميان.
كتب جافة مملة بالنسبة لفتاة لم تتجاوز الثالثة عشرة، فضلاً عن أنّها حافلة بالتعابير المعقدة.
ومع ذلك، كانت ابنته تقرأ فيها. غابت عن وجهه الحيرة الأولى، وحلّت محلها لمحة إعجاب وفخر.
“احرصوا على توفير جميع الكتب الرائجة في الإمبراطورية.”
“نعم، سيدي.”
والحقيقة أنّ كبير الخدم، فروين، كان يتوقّع صدور مثل هذا الأمر منذ أن علم بدخول سيليا إلى المكتبة، فسبق واستطلع الكتب التي تروق لأبناء جيلها.
ذلك لأنّ داميان، حين يتعلّق الأمر بولديه، لم يكن إلا أباً شديد التعلّق بهما.
“هل كان هناك شيء آخر غير اعتيادي؟”
سأل داميان من جديد دون أن يرفع عينيه عن الأوراق أمامه، إلا أنّ نبرته كانت موجّهة بوضوح إلى غرض محدد.
وكان فرُوين، بخبرته الطويلة، يفهم جيداً ما يخفيه سيده بين السطور.
“نعم، يا سيدي. بعد عودتهما من اللقاء الأخير، بدا كل من هارين والآنسة سيليا في مزاج حسن. أما الأمر الأبرز، فهو أنّ السيد الصغير هارين لم ينقطع منذ عودته من القصر الإمبراطوري عن التدرب على الرماية في ساحة التدريب.”
“الرماية…؟”
رفع داميان رأسه ببطء، كمن يريد التأكد أنه سمع جيداً.
أومأ فرُوين بثبات، عندها عقد الدوق حاجبيه وخفض صوته قائلاً.
“أأمره الأمير سكالين بالتدرّب على الرماية؟”
البرودة التي انسكبت من عينيه في تلك اللحظة كادت تجمّد الهواء.
داميان لم يكن رجلاً يظهر انفعاله بسهولة، لكن إن تعلق الأمر بسيليا أو هارين، صار مختلفاً تماماً.
خصوصاً بعدما علم ذات مرة أنّ ابنه عاد من القصر الإمبراطوري باكياً، حتى أنه كاد أن يقتحم القصر بنفسه.
ولولا أنّ هارين الصغير تضرّع إليه أن لا يفعل، لربما قامت بين بيت بارانتيس والقصر الإمبراطوري قطيعة لا عودة فيها.
ومنذ ذلك الحين وهو لا يرتاح لفكرة أن يذهب طفلاه إلى القصر لأجل اللعب، فكيف الآن وقد عاد هارين، ذاك الصبي الخجول المسالم، ليتمرّن على سلاح لم يمسّه من قبل؟
هذا لا يمكن أن يكون إلا بإجبار من الأمير.
انتفض داميان من مكانه وأمسك بمعطفه كأنّه يوشك على التوجّه فوراً إلى القصر.
لكن فرُوين اعترضه سريعاً.
“لا يا سيدي! هذه المرة لم يُجبره أحد. إنّما هي رغبة السيد الصغير نفسه!”
“رغبة…؟”
“نعم، يا سيدي.”
“أتقول إنّ هارين أراد ذلك بنفسه؟”
توقف داميان في مكانه، لكن قسوة نظرته لم تهدأ بعد.
“أجل. لقد قال بنفسه إنه يريد أن يتعلم الرماية.”
رمقه داميان مطولاً، يحاول أن ينفذ إلى صدقه.
وما لبث أن هدأ شيء من حدّته. لم يفهم الأمر كله، لكن بدا واضحاً أنّ الأمير لم يجبر ابنه هذه المرة.
“…… هارين هو من قصد ساحة التدريب بنفسه، إذاً.”
تمتم وهو يمرر يده على ذقنه، وقد بدا وجهه متوتراً غريب الملامح.
استحضر في ذهنه صورة طفليه: سيليا، تلك الطفلة التي لم يكن يشغلها سوى أناقتها وزينتها، وهارين الخائف الصامت الذي لم يكن يجرؤ حتى على رفع صوته.
لكن الآن؟
الأولى صارت ترتاد المكتبة، تقرأ كتباً جادة عسيرة.
والثاني اختار أن يدخل ساحة التدريب، حيث يكمن الخطر.
“لقد تغيّر صغيراي كثيراً.…”
“الأمر طبيعي، يا سيدي. إنهما في مرحلة النمو، والتغيير يظهر عليهما يوماً بعد يوم.”
“…… هكذا إذن.”
ابتسم داميان ابتسامة باهتة أشبه بزفرة خافتة.
لكن ابتسامته تلك حملت في طياتها مرارة كفيلة أن تثير شفقة الناظر إليه.
فلقد أمضى سنوات يضاعف أعباء عمله، حتى غدا بيت بارانتيس الدعامة الوحيدة لطبقة الدوقات في الإمبراطورية.
لكنه في المقابل، حُرم من رؤية أبنائه يكبرون أمام عينيه.
‘ألا يحدث أن ينسوا وجهي يوماً ما…؟’
تساؤل قد يراه الغريب هاجساً سخيفاً، لكنه بالنسبة لداميان كان هماً حقيقياً.
فلقاءاته بأبنائه لم تكن سوى لحظات عابرة، كخيط يوشك أن ينقطع.
والحقيقة أنّ السبب الذي دفعه إلى مضاعفة عمله لم يكن مجده الشخصي ولا طموح أسرته، بل شيء آخر تماماً.
ذلك السرّ الصامت الذي يظلّ طي الكتمان في بيت بارانتيس…
السر الذي يعرفه الجميع لكن يتظاهرون بجهله.
ما جرى قبل سنوات، ‘تلك الحادثة’ التي لا يريد أن يتذكرها أبداً.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 8"