26. عشر سنوات في عائلة بارانتيس
مرت السنوات العشر في عائلة بارانتيس بسلاسة تامة.
“آنستي، الكونت تريتا أرسل لكِ رسالة.”
“ماذا؟ آنا، هل كتب فيها مجددًا أنه يريد تزويج ابنه بي؟”
“يبدو ذلك، يا آنسة. فبورق الرسالة ملصقات الورود في كل مكان. هل أقوم بالقضاء عليه؟”
ما الذي تقولينه، القضاء على من بالضبط؟
ببساطة، يمكنني القول إن شيئًا لم يتغير في عائلتنا.
ما زال الجميع خشنين، والشر يجري في عروقنا كما كان.
“أن يقول مثل هذا الكلام ثم لا يتراجع بل يستمر في مراسلتك، ألا يعني هذا أنه يستخف بعائلة بارانتيس؟”
“آنا، إنه كونت على أي حال. لا تستخدمي كلمة القضاء بهذا التساهل.”
“لكن…”
“ربما علينا إبلاغ الدوق ليقلل من كمية المؤن التي يرسلها لعائلة تريتا…”
لم يعرفوا يومًا معنى الاعتدال.
“آنا، أعطني الرسالة.”
“آنسة…”
“أعطيني إياها بسرعة.”
حين تحدثت بصرامة، أخرجت آنا شفتها باستياء ومدت إليّ الرسالة.
كما قالت، كان الورق مغطى تمامًا ببتلات الورد.
‘هاه، لا يمكن أن يستمر هذا. عليّ أن أقابل الكونت بنفسي.’
لو تدخل أبي، فسيتحول الأمر إلى قضية كبرى. من الأفضل أن أنهيها بنفسي.
تنهدت وأنا أحدّق في الورق البراق، ثم هممت بوضع الرسالة في صدري.
لكن قبل أن أفعل….
“لو قطعتُ يده فلن يستطيع كتابة رسائل بعد الآن.”
“هارين؟!”
الرسالة التي كان من المفترض أن تكون في يدي، وجدت فجأة في يد هارين.
منذ متى جاء هذا الشاب؟
“أنت! قلت لك من قبل إنك لا يجب أن تتفوه بمثل هذا الكلام!”
لماذا اليد، بجدية؟
طرقت رأسه بقبضتي.
وقد صار أطول مني الآن، فاضطررت للوقوف على أطراف أصابعي لأتمكن من ضربه.
“أعطني الرسالة. إنها موجهة إليّ.”
“إنها رسالة لا فائدة منها.”
“ماذا؟”
“سأتخلص منها نيابةً عنكِ.”
في الواقع، الشخص الوحيد الذي يمكن القول إنه تغير في عائلتنا كان هارين.
فبعد أيام قليلة من رحيل سكالين، ذهب إلى أبي وطلب منه أن يدربه بجدية على فنون السيف.
ورغم دهشة أبي من عزيمته المفاجئة، وافق بسرور، بل وأمر بصنع سيف جديد خصيصًا له.
أما أنا، فلم أكن مطمئنة في البداية. لقد أذهلني تحوّله المفاجئ.
لكن…
‘أختي، هذه المرة لم أبدأ لأنني أريد أن أتفوق على أحد… بل لأنني أريد أن أحمي ما هو لي.’
من كان بإمكانه أن يوقفه بعد أن قال ذلك؟
كان جادًا بشكل لم أره منه من قبل، لذا اخترت أن أؤمن به.
ومنذ ذلك اليوم، صار ميدان التدريب مكانه المفضل.
رغم أن تدريباته كانت أشد قسوة بكثير من أيام تعلمه الرماية، إلا أنه لم يبدُ متعبًا أبدًا.
بل كان يتدرب يوميًا بعناد وإصرار مذهلين.
يقولون إن العبقري إذا اجتهد لا يُهزم.
وبالفعل، نما وتطور أسرع بكثير من نسخته في الرواية الأصلية، وذاع صيته كسيد سيف قبل أن يبلغ سن البلوغ حتى.
كنت أظن أن رؤية عبقريٍ يعمل بجد لا تحدث إلا في القصص الخيالية….
أن يكون ذلك العبقري هو أخي الصغير نفسه…
كان شعورًا غريبًا للغاية، مزيجًا من الذهول والفخر في آن واحد.
ما دام أنه كبر حتى الآن من دون أن يحدث شيء خطير… فذلك وحده مدعاة للراحة، أليس كذلك؟
لكن ذلك لا يغيّر الحقيقة.
ما زلت أراقب هارين بحذر دائم، فربما يتحول إلى الشرير المدبر في أي لحظة.
فهو، في النهاية، صار سيّد سيف كما في الرواية الأصلية، والرواية لم تبدأ بعد رسميًا.
وفوق كل شيء… لم يعد هارين طيبًا كما كان في الماضي.
‘أعيدوا لي هارين الصغير اللطيف…’
انظروا إليه فقط!
يأخذ الرسالة التي تخصّني ويتجاهل كلامي تمامًا!
تظاهر بأنه لم يسمعني، وأمسك بالرسالة الموجّهة إليّ ثم سار مبتعدًا بخطوات هادئة.
مرّت قرابة عشر سنوات، ورغم أنه ما زال أخي الذي يتبعني في كل مكان، لم يعد الطفل الذي يبكي لأتفه الأسباب.
لم أعد أرى هارين الصغير الذي كان يناديني كل لحظة: أختي، أختي!
يا للأسف…
“أبي، هل ناديتني؟”
لم يكن هارين وحده من تغيّر خلال السنوات العشر الماضية.
“نعم، سيليا. تأخرتِ قليلاً.”
“آه، أعتذر. كان هناك بعض الفوضى في الخارج.”
منذ أن أقمت حفل ظهوري الاجتماعي، بدأ أبي يستدعيني من حين لآخر.
يُقال إنه حين كنت صغيرة وساعدته في ترتيب أوراقه، أثار ذلك ضجة كبيرة في القصر.
لم يكن أحد قادرًا على تنظيم دفاتر الحسابات كما فعلت أنا.
وأصبحت الجداول التي أعددتها آنذاك معيارًا رسميًا لعائلتنا، وما زالت تُستخدم حتى الآن في السجلات الأصلية.
بل وسمعت من آنا أن بعض النبلاء يزوروننا ليتعلموا طريقتي في إعداد الجداول!
حقًا… من كان يظن أن الدروس التي لم أنم فيها أثناء حصص الجامعة ستكون مفيدة إلى هذا الحد؟
“هل هذه الأوراق هي التي تريد مني ترتيبها، أبي؟”
“نعم، وهذه أيضًا. وإن أمكن، رتّبي هذه كذلك.”
أستخدم الآن كل ما تعلمته في حياتي السابقة لأساعده في عمله.
رغم أن عيني تكادان تخرج من مكانهما أحيانًا، إلا أنني أشعر بالرضا لأن وجودي جعل عمل أبي أسهل بكثير.
وهذا بحد ذاته شعور لطيف.
“آه، سيليا. لو كان لديك بعض الوقت، رتّبي أيضًا هذه الخطة لتبدو أكثر أناقة…”
“أبي.”
“أعلم، أعلم. أعدكِ، ستكون هذه الأخيرة.”
ابتسمت وأنا أرى كيف يحاول سحب الملف خلسة من فوق مكتبه.
“عذرًا، أبي، لكن لدي موعد اليوم. سأهتم بها غدًا أو بعده.”
بعد كل هذا الوقت الذي أمضيته معه، صار وجوده مريحًا بالنسبة لي بقدر ما هو هارين.
حتى إنني أستطيع ممازحته بهذا الشكل الآن.
يا للعجب… كم كان التعامل معه صعبًا في البداية.
كنت حقا قلقة في الماضي من أن يموت والدي من شدة الارهاق في العمل، لكن الآن… لا أستطيع حتى تخيّل ذلك.
لقد صار شخصًا ثمينًا للغاية، جزءًا طبيعيًا من عالمي.
“حسنًا، شكرًا لكِ يا ابنتي.”
ابتسم ابتسامة خفيفة.
لقد بلغ منتصف العمر، ومع ذلك ما زال وسيمًا كما كان دائمًا.
حقًا… لا داعي لهارين أن يقلق بشأن مظهره أبدًا.
“إذن، سأرحل الآن. سأنهي المستندات وأرسلها لك قبل نهاية الأسبوع.”
انحنيت له بخفة واستدرت نحو الباب، لكن…
“آه، سيليا. انتظري لحظة…”
سمعت صوته يناديني، لكن لا فائدة! يريد أن يعطيني عملاً إضافيًا بالتأكيد!
رغم أن صوته وصل بوضوح إلى أذني، تجاهلته وأغلقت الباب سريعًا خلفي.
أبي…! لو أعطيتني عملًا آخر الآن، فلن أتمكن من الذهاب إلى موعدي اليوم!
***
“آنسة سيليا! لقد جئتِ أخيرًا!”
المكان الذي وصلتُ إليه كان قصر آل لورا.
وما إن نزلت من العربة حتى أسرعت نحوي روين التي كانت جالسة إلى الطاولة.
“ستُصَابين إن ركضتِ هكذا، روين. كنت سآتي إليك بنفسي.”
“هل تعلمين كم انتظرتكِ؟ أنتِ لا تحضرين مثل هذه المناسبات عادة!”
تشبثت بذراعي وهي تبتسم بمرح، وأنا لم أملك سوى أن أضحك بسعادة أمام طريقتها اللطيفة المعتادة.
“كيف لي ألا آتي، وأنتِ من دعا؟ خصوصًا في يومٍ كهذا.”
روين وفريل كانتا تلتقيان بي منذ أن التقينا لأول مرة قبل عشر سنوات في حفل القصر الإمبراطوري.
ولأنني لا أحب حضور التجمعات الاجتماعية، كانتا تخبرانني دائمًا بآخر الأخبار من تلك الدوائر، وأنا بدوري كنت أحضر حين تحتاجان إليّ.
ربما يبدو الأمر من الخارج كعلاقة مصلحة متبادلة، لكن…
“آنسة سيليا! افتقدتكِ كثيرًا!”
في الحقيقة، كانتا صديقتَيّ العزيزتين.
كنت أقضي معهما أوقاتًا في غاية المتعة كلما غاب أبي وهارين عن المنزل.
“فريل، تبدين جميلة اليوم. هل العروس اليوم هي أنتِ لا روين؟”
“آنسة سيليا! هذا قاسٍ!”
“حقًا؟ يا إلهي، إذًا عليّ أن أذهب أنا وأتزوج الكونت فيراك بدلاً منكِ، روين!”
“لااا، فريل! ألغِي ما قلتهِ حالًا!”
ردّت فريل بخبث وهي تمثل دور النبيلة الهادئة، في حين كادت روين أن تبكي وهي تصيح بنا.
كم هما ظريفتان حقًا.
ما فاجأني حين توطدت علاقتنا هو أن شخصيتيهما كانتا عكس ما توقعت تمامًا.
روين كانت ناعمة ومحبوبة، بينما فريل كانت مرحة ومرِحة الطباع.
كنت أظن أن روين ستكون آخر من يتزوج بيننا الثلاثة…
لكن من كان يظن أن زواجها سيكون زواجا سياسيا؟ لم أتوقع ذلك إطلاقًا.
“ليدي سيليا، بعد زواج روين، هل سنلتقي فقط نحن الاثنتين؟ مؤسف بعض الشيء… لكن لا مفر منه.”
مالت فريل عليّ بدلال وأراحت رأسها على كتفي. كانت تستمتع دائمًا بممازحة روين بهذه الطريقة.
“صحيح. لكن لا تقولي لي أنكِ ستفاجئينني لاحقًا وتعلنين خطبتك أيضًا؟”
“أوه، آنسة سيليا! هذا مستحيل بالنسبة لي! لكن من يدري… ربما أنتِ التي تملكين خطبة سرّية من زواج سياسي… آه.”
كانت تنقر كتفي بإصبعها وتبتسم بمكر، ثم تجمّدت فجأة.
أنزلت يدها ببطء، وأدارت وجهها سريعًا إلى الجهة الأخرى.
…هاه؟ ما الأمر؟
“هَمْ، آنسة سيليا. لقد أحضرنا كعكة جديدة اليوم، يجب أن تتذوقيها!”
حتى روين تدخلت فجأة لتغيير الموضوع، بصوتٍ بدا عليه التوتر.
آه… لا يمكن…
التعليقات لهذا الفصل " 26"