ظلّ الإمبراطور يحدّق في الزر الذي قدمتُه له دون أن يرمش. بدا أنه، رغم رغبته في الحفاظ على السلام بين الإمبراطوريتين، لم يجد ما يقوله أمام هذا الدليل القاطع.
“…ه، هذا…! ديريك، أيها الأحمق…!”
انفجر صوته غاضبًا حتى دوّى صدى صراخه في قاعة الضيوف.
كان وجهه قد احمر من الغيظ، وأنفاسه تخرج حارّة وثقيلة من شدة الانفعال.
‘هل يقلق الآن على سكالين؟’
لو كان أبًا طبيعيًا، فحتماً أكثر ما يشغله الآن هو سلامة ابنه.
حين رأيت الغضب الواضح في ملامحه، تنفست الصعداء بارتياح.
“سيليا.”
ناداني والدي بصوت خافت لا يسمعه سواي.
“اذهبي الآن. يمكنكِ العودة إلى هارين في العربة.”
“ها؟ لكن…”
“من الآن فصاعدًا، سأهتم بالأمر بنفسي.”
ابتسم لي كأنه يقول لقد أحسنتِ، هذا يكفي الآن.
كنتُ أودّ أن أكمل الأمر بنفسي حتى النهاية، لكن من ملامحه أدركت أن عليّ الخروج.
أومأت برأسي بهدوء وغادرت قاعة الضيوف.
***
“سيُسعده هذا، أليس كذلك؟”
حتماً سيُفرض على ديريك قرار يمنعه من دخول البلاد لعشر سنوات.
كان في القصر عدد لا يُحصى من الخدم، فلا مفرّ للإمبراطور إلا أن يُقصيه.
أردت أن أبلغ سكالين بذلك بسرعة.
‘أتمنى أن يبتسم مجددًا.’
وجهه حين ابتسم في الحديقة لم يفارق ذهني لأيام. ربما لأنه بطل القصة، فقد كانت ابتسامته آسرة لدرجة أني رغبت في رؤيتها مرة أخرى.
“سأخبره بالأمر، وأُنهي أيضًا حديث الزواج ذاك.”
كنت أنوي أن أشرح له ما جرى بيني وبين الإمبراطور، ثم أُلمّح بخفة إلى موضوع الخطبة المزعومة، مستغلةً مزاجه الجيد.
عندها، حتى لو سمع عن الشائعات التي تقول إننا مخطوبان، فلن يغضب كثيرًا، أليس كذلك؟
صحيح أن والدي سيغضب قليلًا، لكن عليّ أن أُبلغه على الأقل أن تلك الشائعات تنتشر بين النبلاء.
بدأت أرتّب في رأسي ما عليّ فعله اليوم. كانت كلها أمورًا مزعجة نوعًا ما، لكن بما أن مقابلتي مع الإمبراطور سارت كما خُطط لها، كان لدي شعور جيد حيال كل شيء.
لا أعلم لماذا، لكني أحسست أن هذا اليوم سيمضي كما أردت بالضبط.
***
“أميرة، لقد وصلنا.”
“شكرًا لك، بوركت جهودك.”
وصلتُ إلى قصر الأمير أسرع مما توقعت.
استقبلتني الحديقة المألوفة بجمالها اللطيف والزخارف الصغيرة التي لا توجد في القصر الإمبراطوري.
أجل، هذا المكان أريح بكثير من القصر.
ما إن ابتعدت عن القصر وعدت إلى هنا حتى شعرت بأنفاسي تنساب بسهولة.
وبينما كنت أتأمل الحديقة باحثةً عن هارين وسكالين، رأيت وجهًا مألوفًا من بعيد.
“يا رئيس الخدم!”
كان يركض نحوي بسرعة، وحين رآني، اتسعت عيناه دهشة.
“أميرة، ماذا تفعلين هنا؟ ظننت أنكِ كنتِ قبل قليل في—”
“آه، انتهى الحديث على خير. لكن ما بك تركض هكذا؟”
لم أنهِ سؤالي حتى قفز إلى داخل العربة التي نزلتُ منها لتوّي.
كان الرجل الهادئ اللطيف عادةً يبدو في عجلة غير معتادة.
“وصل أمر عاجل من القصر! سموّ الأمير والدوق الشاب في الحديقة الخارجية، من الأفضل أن تذهبي إلى هناك.”
قال ذلك واختفى بسرعة من أمامي. عاجل إلى هذا الحد؟ ما الذي حدث؟
أثار تصرفه فضولي، لكني قررت ألا أتدخل أكثر. كنت قد وعدت نفسي بألا أُقحم أنفي في ما لا يعنيني بعد الآن.
بعد أن مشيت قليلاً، رأيت سكالين وهارين من بعيد. كانا يتحدثان بجدية، لكني لم أستطع سماع ما يقولان، فقررت التسلل إليهما بهدوء لأفاجئهما.
لكن عندها—
“…لا!”
دوّى صوت هارين في الحديقة كلها.
تجمدت في مكاني من شدة المفاجأة، ونظرت نحوهما.
كان هارين يقف وهو يحاول كبح دموعه، بينما استدار سكالين بظهره، فلم أستطع رؤية وجهه.
“هارين؟ هارين!”
في تلك اللحظة، لم يستطع هارين كبح انفعاله أكثر، فاستدار وركض مبتعدًا بكل قوته.
ناديتُه بصوت عالٍ مذعور، لكن يبدو أن صوتي لم يصل إليه.
“أميرة! سأذهب خلفه!”
وقبل أن أتحرك نحوه، اندفع أحد فرسان الدوقية مسرعًا لملاحقته.
كانت سرعته كبيرة لدرجة أني لم أستطع حتى أن أقول شيئًا.
“صاحب السموّ.”
أسرعت بخطاي حتى وصلت أمام سكالين.
“سيليا، مرحبًا.”
ابتسم لي بخفة، لكنها كانت ابتسامة باهتة، غارقة في ظلّ من الحزن.
ما الذي دار بينه وبين هارين ليبدو بهذا الشكل؟ صحيح أن الأطفال يتشاجرون أحيانًا، لكن نادرًا ما أسمع هارين يصرخ بهذا الشكل…
“هل… تشاجرتما؟”
عند سؤالي، ارتجف سكالين قليلاً، ثم سرعان ما رسم على وجهه ابتسامة مصطنعة.
“من يدري.”
يا إلهي، ما الذي يمكن أن يجعلهما يتشاجران أصلًا؟
جوابه الغامض لم يخدعني، فأنا أعرف كليهما جيدًا. شيء ما حدث… أمر جعل هارين يتوتر إلى هذا الحد.
‘لا يمكن… هل سمع الشائعات عني وعن سكالين؟’
ذلك وحده كفيل بأن يُثير ردّ فعل كهذا.
ربما قال هارين شيئًا طائشًا، فغضب سكالين وردّ عليه بقسوة.
“آه، صاحب السموّ… ليس كما تعتقد! هارين فهم الأمر خطأ!”
كنت أريد أن أبدأ بحديث ديريك لأجعل الجو لطيفًا، لكن الآن بعد أن خرج الموضوع، لم أستطع تأجيله أكثر.
لوّحت بيدي بسرعة نافضةً عني التوتر، لكن سكالين عبس قليلًا كأنه لا يفهم ما أقول.
“يبدو أن هارين أساء فهم كلامك يا سموّ الأمير. أنت سمعتَ أيضًا تلك الشائعة، صحيح؟ تلك التي تقول إننا سنتزوج؟ لذا ظنّ أن…”
“شائعة؟”
احمرّ وجهي من الإحراج، فحككت خدي بخفة. لكن ملامحه ازدادت صرامة بعد كلمتي.
“هاه؟ آه، نعم، أعني… قال هارين إنك ذكرتَ له شيئًا كهذا من قبل… ألا تذكر؟”
‘انتظر، أكان هذا كله سوء فهم مني؟’
تجمدتُ في مكاني وأنا أبتلع ريقي بصعوبة. بينما كنت أبحث في ذهني عن طريقة مناسبة لتفسير الموقف، فتح سكالين شفتيه وقال بنبرة هادئة لكن حادة.
“هل تكرهين الزواج بي؟”
“…هاه؟”
لم أتوقع هذا السؤال مطلقًا.
هل بدا عليّ أني أرفضه لتوّي؟ لم أقصد ذلك أبدًا!
“ليس الأمر أني أكره، بل إنه… ببساطة أمر غير ممكن.”
لم يكن الموضوع مسألة رغبة أو كره.
“ولِمَ لا؟”
“ماذا؟”
‘لأنك مقدَّر لك أن تقع في حب بطلة القصة بعد عشر سنوات…!’
لكن بالطبع لم أستطع أن أنطق بذلك. ظلت الكلمات حبيسة صدري.
تقدّم نحوي خطوة، وعيناه تشعان بعزم غريب.
“أنا الوريث لعرش الإمبراطورية، وأنتِ أميرة الدوقية الوحيدة في الإمبراطورية.”
آه… لحظة. سمعت هذه الجملة من قبل.
صوت هارين تردّد في رأسي.
‘لأنكِ الأميرة الوحيدة في الإمبراطورية! قال إنكِ في المستقبل ستعيشين مع الأمير وليس معي!’
طريقة الكلام اختلفت، لكن المعنى… نفسه تمامًا.
إذًا، لم يسئ هارين الفهم…؟
“ولِمَ لا يكون ذلك ممكنًا؟”
تراجع صوته قليلًا، لكن نظرته لم تهتز.
لم أجد ما أقول، فخطوت إلى الوراء بقدر ما اقترب هو للأمام.
“الزواج السياسي أمر شائع، أليس كذلك؟ الزواج بين أشخاص متكافئين في المنزلة.”
كان كلامه عقلانيًا جدًا.
وفعلاً، هذا العالم الذي نعيش فيه يسير بتلك القوانين — حيث الزواج تحالف بين العائلات، لا بين القلوب.
لكن ذلك لا ينطبق عليه.
فهو مقدَّر له أن يعيش حبًّا يتخطى حدود النسب والدم.
“لا… الزواج هو…”
تنهدتُ ببطء.
مهما قلت، لن يفهم الآن. إنه مجرد فتى في التاسعة من عمره، ذكي جدًا… لكنه لم يعرف بعد ما هو الحب.
التعليقات لهذا الفصل " 23"