في ذلك اليوم حين عدتُ إلى القصر، وجدت نفسي مضطرة لتحمّل ما يشبه التعلّق المرضي من هارين.
“أختي، ليس صحيحًا، أليس كذلك؟ حقًّا ليس كذلك؟”
لم يكتفِ بسؤالي مرات عديدة في اليوم، بل كلّما نهضتُ من مقعدي كان يمسك بتلابيب ثوبي ليسأل.
“إلى أين تذهبين؟ لست ذاهبة للزواج، صحيح؟”
لا أعلم بأيّ كلمات منمّقة أغواه سكالين حتى صار لا يصدّق قولي له إن ذلك لن يحدث، ويظلّ يتملّكه القلق.
“أختي، لا تتركيني وتذهبي إلى أي مكان.”
“لن أذهب…”
في مثل هذا العمر، إلى أين يمكن أن أذهب؟ حتى إن خرجتُ إلى الحديقة القريبة، يتبعني الجميع.
تنهدتُ وأنا أنظر إلى هارين الذي لا يزال ممسكًا بثوبي.
“…آنا.”
“نعم، سيدتي.”
“لا يزال أمامنا وقت طويل حتى نذهب إلى القصر الإمبراطوري، أليس كذلك؟”
رغم أنني كنت أعرف الجواب، نظرتُ إليها برجاء.
لو كان الأمر بيدي لذهبت اليوم نفسه إلى القصر الإمبراطوري، وأنهيت علاقتي مع سكالين تمامًا. أريد الخلاص من هذا الوضع المزعج والممل بأسرع وقت.
“بقي خمسة أيام.”
“خمسة أيام كاملة…؟”
كدت أسقط على الأرض من وقع الإجابة الحازمة لآنا.
إذن عليّ أن أتحمل هذا التعلّق خمسة أيام أخرى!
“صحيح… شكرًا لأنكِ ذكّرتني بالواقع.”
“هل ستذهبين إلى المكتبة اليوم أيضًا؟”
“نعم، ولماذا تسألين؟”
“هل تحبين أن أُحضر لكِ قليلًا من الكعك؟”
سألتني وهي ترى أنني متجهة نحو المكتبة. آه، صحيح أن المكتبة عادة لا يدخلها إلا السيد فروين.
“كعك، هاه…”
في لحظة، تذكرت سكالين حين ناولني قطعة كعك منذ أيام.
كيف قالها ببرود: “كيك”، ومدّ يده لي، فأربكني بشدة.
حين خطر ببالي وجهه الخالي من أي تعبير، كدت أضحك بلا وعي. كأن أحدًا أجبره أن يعطيني الكعك رغمًا عنه.
“سيدتي؟”
“آه… لا، لا بأس. أنا بخير.”
أجبتها وأنا أهز رأسي. لم تكن لي رغبة في الحلوى، والأهم أنني أردتُ أن أقضي وقتي في المكتبة دون أن يزعجني أحد.
“سأكون مشغولة بقراءة الكتب، فلو حدث شيء ناديني!”
“نعم، سيدتي.”
ابتسمت لها ابتسامة مشرقة، ثم توجهت إلى المكتبة. بات الذهاب إليها في أوقات الفراغ جزءًا من روتيني اليومي.
“اليوم عليّ أن أعثر عليه مهما كان.”
في الأيام الماضية لم يكن لدي وقت كافٍ لدخول المكتبة، لكن اليوم عقدت العزم أن لا أضيّع الوقت.
ما زلت لم أجد كتاب التاريخ الذي أبحث عنه. وجدت بعض الكتب، نعم، لكن البحث بين هذا الكم الهائل من المجلدات المبعثرة لم يكن سهلًا أبدًا.
طق—
وبينما كنت أفتش هنا وهناك، سقط شيء عند قدمي. انحنيت لالتقاطه، فوقع بصري على عنوان مألوف.
“الأميرة الوحيدة… شاشا؟”
كان غلافًا أعرفه. إنّه كتاب الأطفال الذي نصحني السيد فروين بقراءته. أظنه قال إنه كان في المرتبة الأولى من حيث الشهرة.
“لأقرأ المقدمة فقط…”
رغم أنني أقسمت اليوم أن لا أنشغل إلا بالبحث عن كتاب التاريخ، ها أنا أضعف أمام رغبة صغيرة.
حين عرّفني فروين بالكتاب شعرت فعلًا أنه سيكون ممتعًا.
فتاة ذات شعر فضي وعيون خضراء زاهية، هكذا صُوِّرت الأميرة الصغيرة على الغلاف. تلك العينان الخضراوان تبعثان في النفس رغبة في حمايتها لشدة براءتها.
“هذا الشعر… يذكرني بشخص ما.”
مررتُ بإصبعي على صورة الطفلة. بدا وكأن تلك العيون الحمراء—تلك التي أعرفها جيدًا—تنظر إليّ بثبات.
“…فقط قليلًا. سأقرأ قليلًا.”
استسلمت في النهاية، وبدأت أتصفح الصفحات. وما هي إلا لحظات حتى تجاوزت المقدمة ووصلت إلى بداية منتصف القصة.
ولم أستطع التوقف.
“يا إلهي، أليس هذا قاسيًا جدًّا على طفلة صغيرة؟”
كنتُ مأخوذة بالكتاب تمامًا. فمنذ صغري أحب قراءة الروايات، ومنذ أن جئت إلى هذا العالم لم تقع يدي إلا على كتب التاريخ المملة.
لذلك كنت متعطشة لشيء مثل هذا. وأخيرًا أدركت لماذا يتصدر قائمة المبيعات.
رغم أنه مجرد قصة تقليدية عن أميرة تُجبر على الزواج من أمير دولة مجاورة، إلا أن أسلوب السرد جذاب لدرجة تمنعني من ترك الكتاب.
“الفتاة تقول إنها لا تريد الزواج، كيف يفعل والداها هذا بها؟”
الأدهى أن هذا الكتاب المخصص للأطفال مليء بالأجواء القاتمة، مما جعله مناسبًا تمامًا لذوقي الذي اعتاد على قراءة الروايات الدرامية الثقيلة.
“قبل قليل تظاهرت باللطف، والآن؟ أيها الوغد!”
ذلك الأمير الذي يظهر لطيفًا أمام الناس، ثم يضطهد الأميرة في الخفاء، وينتهي به الأمر إلى خيانتها مع امرأة أخرى… كان قمّة في الانحطاط.
حتى في روايات بلادي لا يجرؤ المؤلفون على جعل بطل الرواية منحطًا إلى هذا الحد! إنه بلا شك الشرير الأعظم من بين كل من قرأت عنهم.
آه، صحيح… لا أنسى هارين. إذن هذا الوغد هو ثاني أعظم شرير؟ على الأقل لم يحاول قتل الأميرة.
وبينما كنت غارقة في القراءة، سمعت فجأة صوتًا مألوفًا قادمًا من ناحية الباب…
طَرق، طَرق، طَرق—
“سيدتي، أنا فروين كبير الخدم. حان وقت العشاء.”
ماذا؟! هل وصل وقت العشاء بالفعل؟
ارتبكت وأسرعت بإغلاق الكتاب الذي كنت أقرأه وقد غمرني الذهول. لم أشعر بمرور الوقت، لكن لم أتخيل أن نصف يوم قد مضى هكذا…
طَقطق—
“سيدتي، العشاء…”
“نعم! سأخرج حالًا!”
وبينما كان فروين يفتح الباب بعدما تأخرت في الرد، وقعت عيناه على الكتاب بين يدي، فابتسم ابتسامة رقيقة.
“هل قرأتِ هذا الكتاب؟”
“آه… نعم. لقد استمتعت به كثيرًا. لم أدرك أن الوقت مرّ بهذه السرعة.”
“سرّني أن راق لكم.”
بدت على محيّاه علامات الرضا، فقد كان قد أوصى لي بهذا الكتاب منذ مدة، والآن وقد وجدني أستمتع به، بدا عليه السرور كطفل فخور.
له جانب لطيف فعلًا.
“آه، على فكرة… الدوق قد عاد مبكرًا اليوم. سيتناول العشاء معنا.”
“أبي؟ من غير المعتاد أن يعود بهذه السرعة.”
عند سؤالي، أمال فروين رأسه قليلًا قائلًا.
“نعم، قال إن لديه ما يودّ قوله لسيدتي، لكنه لم يخبرني بماهية الأمر.”
أوه، محال….
***
“سيليا، بعد العشاء تعالي إلى مكتبي قليلًا.”
كما توقعت.
خلال العشاء النادر الذي جمعني بوالدي، حدّثني بتلك الكلمات.
إذًا، إن استدعاني على انفراد… فلا بد أنه بشأن ذلك الأمر.
أومأت برأسي بإصرار، غير أن هارين، الجالس إلى جواري، نظر إلينا بتذمر واضح وقد برزت شفتاه إلى الأمام.
“هارين.”
“نعم… أبي.”
كان هارين مبتهجًا على غير العادة، فقد حُرم مؤخرًا من مرافقة والدي في الولائم، لذا بدا في غاية السعادة لأنه يتناول الطعام معه هذه الليلة، وكأنه طفل وجد ضالته في الحديث والثرثرة.
لهذا بدا عليه الامتعاض عندما خصّني أبي بالحديث.
“هل تواظب على التدريب؟ سمعت أنك لم تعد تظهر مؤخرًا.”
سؤال عابر، لكنه أوقعنا أنا وهارين في صدمة.
فوالدي يعلم أن هارين كان يتوجه إلى ساحة التدريب قبل عودته من العمل، بل ويعلم أيضًا أنه لم يذهب إليها مؤخرًا!
“و… والدي… كان يعلم بأني أذهب للتدريب؟”
قال هارين بعينين متسعتين، فنظر إليه والدي لحظة صامتًا، ثم أطلق ضحكة خفيفة.
“بالطبع، بل وأعرف حتى أي ساعة تتدرب.”
“حقًا؟!”
“فلماذا انقطعت إذن؟”
اغتبط هارين باهتمام أبيه ونهض من مقعده، لكنه لم يلبث أن عاد إلى مكانه حين التقى بعينيه الحادتين.
“ذا… ذلك…”
نظر إليّ هارين مرتبكًا، وكأنه يرجوني أن أنقذه.
آه، لا مفر إذن…
“أنا من منعته، يا أبي.”
“سيليا… أنتِ؟”
“نعم.”
انتقل بصره من هارين إليّ، ونظر إليّ بعينين تحملان تساؤلات صامتة، كأنه يريد أن يعرف السبب.
لكن هل أجرؤ على إخباره أنني فعلت ذلك لأجل مستقبل هارين ولأجل مصلحة عائلتنا؟
بينما أتلعثم محاوِلة إيجاد الكلمات، سبقني أبي بالجواب.
“أفهم.”
أومأ برأسه بهدوء، ثم حوّل نظره بعيدًا عني. هاه…؟ فقط هذا؟
“ألستَ… تريد أن تسألني لماذا منعته؟”
“هل يجب أن أسأل؟”
“عادةً، نعم!”
أحيانًا يجعلني أبي في حيرة: هل يهتم بنا فعلًا، أم أنه لا يكترث إطلاقًا؟
رفع رأسه ونظر إليّ مباشرة، فارتبكت من شدّة حدّته وابتلعت ريقي دون وعي.
“كانت تلك أول مرة يذهب فيها هارين إلى التدريب من تلقاء نفسه.”
“ماذا…؟”
“وكذلك كانت أول مرة تذهبين أنتِ إلى المكتبة بإرادتك.”
“……”
“كلاكما يفعل ذلك للمرة الأولى.”
أم…؟ ما الذي يقصده؟
“وهذا يعني أن هناك سببًا بالطبع.”
“……”
“ولا أرغب في التشكيك في كل تغيّر يصدر منكما.”
قال ذلك ثم نهض متجهًا إلى مكتبه، تاركًا إيّانا خلفه.
بقيت أنظر إليه مدهوشة غير قادرة على الحراك. لقد أصابني شيء من الذهول.
من كان يُظن به أنه أب بارد، غارق في أعماله، تبيّن أنه يُدرك كل التفاصيل الصغيرة… بل ويملك حسًّا مرهفًا أكثر مما توقعت.
التعليقات لهذا الفصل " 20"