19. أحبّها
‘قال إنّه لا يحبّها….’
كان طرف نظر سكالين مثبتًا على زهرة النسيان التي رأيناها معًا من قبل.
وكانت عيناه في تلك اللحظة تحملان حزنًا خفيًا.
‘أيّ سرّ تحمله هذه الزهرة حتى يظلّ يحدّق فيها هكذا؟’
كنت أتأمل عينيه الشاردتين، فلم أجرؤ أن أناديه.
هل يجوز لي الاقتراب؟
وبينما كنت أتردّد وأتعثّر في مكاني، التقت عيناي بعينيه فجأة.
لقد التفت إليّ وكأنّه أحسّ بوجودي.
‘هل يعني هذا أنّ بوسعي الاقتراب؟’
أدار سكالين بصره ببطء بعيدًا، ثم أعاده مرة أخرى.
وقد بدا ذلك لي إشارةً مبطّنة تسمح لي بالاقتراب.
تقدّمت بخطوات حذرة حتى جلست القرفصاء بجانبه.
لكنّه ظلّ ساكنًا، كأنّ وجودي لا يعني شيئًا. ساد الصمت طويلًا، حتى وجدت نفسي أحدّق بالزهرة نفسها.
“في الحقيقة… أحبّها.”
كلماته المفاجئة جعلتني ألتفت إليه بسرعة. غير أنّه لم يزل ينظر إلى زهرة النسيان.
“هذه الزهرة.”
“آه…”
‘إذًا عليّ أن أصغي حتى النهاية قبل أن أسيء الفهم’.
أومأت برأسي خجلًا.
“لذلك…”
نطق مجددًا ببطء على غير عادته، فانتظرت في هدوء.
“يوم عرفتُ عن هذه الزهرة… كنت سعيدًا جدًّا.”
آه…
كانت كلماته أشبه بلغز، لكنه لم يكن عسير الحل.
‘رغم أنّ مظهرها ضعيف وصغير، إلا أنّها تنمو حتى بين شقوق الصخور.’
‘أن تزهر زهرة صغيرة كهذه في أي مكان… أليس ذلك شيئًا رائعًا وجميلًا؟’
كانت تلك كلماتي أنا التي قلتها له من قبل عن زهرة النسيان.
هل أعجبته كلماتي إلى هذا الحد؟
“ولِمَ… أعجبتكَ هكذا؟”
سألته بخفوت، وهو ما يزال يحدّق في الزهرة.
كنت فضولية، فقد لاحظت أنّه يتأثر بها دون سائر الأزهار.
مع أنّ في القصر أزهارًا كثيرة، بينها النادر والثمين…
فلماذا هذه بالذات؟
لم تكن سوى رغبة في الفهم.
“..…”
لكنه لم يجب.
‘هل طرحتُ سؤالًا ثقيلًا؟’
“إن لم ترغب في الكلام… فلا بأس.”
“أمّي…”
“…..”
“كانت تحبّها.”
تبدّل وجه سكالين للحظة، وغشاه ظلّ حزين.
“آه….”
تذكّرت ما قرأت في الرواية عن أمّه، الإمبراطورة الراحلة.
كانت أميرة من إمبراطورية أوتوتيا، تزوجت الإمبراطور وأنجبت سكالين، لكنّها توفّيت باكرًا لسبب غامض.
لم يرد عنها إلا إشارات قليلة في الرواية، غالبًا بسبب إصرار الإمبراطور على حفظ ذكراها.
أما سكالين في الرواية، فلم يذكرها إلا بجملة واحدة دائمًا:
‘لقد مضى وقت طويل… لا أذكر جيدًا.’
وكان يقولها وهو يرسم ابتسامة باهتة، كما لو أنّه يتحدث عن غريبة.
ذلك هو سكالين الذي عرفته… فتى لا يحمل أيّ ذكرى عن أمّه.
أما الآن…
“حين فارقت أمي الحياة… وضعت هذه الزهرة في يدي.”
ربما كان صغيرًا في تلك اللحظة بما يكفي ليذكر الأمر بوضوح.
“كنت أتساءل دومًا: لماذا هذه الزهرة بالذات؟ لكنني لم أنل الإجابة قط.”
كان صوته هادئًا رتيبًا، فعضضت شفتَي كي لا أبكي.
‘إن لم يبكِ هو، فكيف أبكي أنا؟’
كانت عيناه المعلقتان بالزهرة باردة السطح، بلا دموع ولا رعشة.
لو كان هارين مكانه، لملأ المكان شهيقا وبكاءًا.
لم أعرف إن كان يكبح نفسه، أم أنّه حقًّا لم يعد يشعر بشيء.
“لكن الآن… أظنّ أنّي فهمت قليلًا.”
رفع بصره إليّ.
“كزهرة النسيان، التي تنمو مستقيمة حيثما زُرعت… لعلها كانت تقول لي: كن مستقيمًا أينما كنت.”
“..…”
“… فأنا أمير إمبراطورية سيران.”
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مرّة.
“بغضلكِ زال بعض فضولي.”
كان صوته جافًّا خاليًا من أي شائبة حنين أو دموع.
ولكن… لماذا أشعر أنا بالضيق في صدري وأنا أستمع؟
من الآن فصاعداً، سيبدأ سكالين شيئاً فشيئاً في محو صورة والدته من قلبه.
لقد أحبّها بعمق، إلى درجة أنه تردّد سنوات عديدة من أجل زهرة واحدة… لكن بعد عشر سنوات، قد يختفي حتى أثر هذا الشعور تماماً.
“…لا.”
ولكن، أليس ذلك قاسياً جداً على سكالين الآن؟
“ربما كانت والدتكِ تفكر بطريقة مغايرة لما أفكر فيه.”
وضعتُ كفّي فوق يده. كان ظهر يده الصغير والدافئ يلامس راحة يدي.
“هناك أمر لم أخبرك به في ذلك الوقت…”
رفع سكالين رأسه ونظر إليّ مباشرة، بعدما كان يحدّق في أيدينا المتشابكة.
وعيناه الحمراوان، لسببٍ ما، بدتا لي هذا اليوم أكثر إشفاقاً من أي وقت مضى.
“لكل زهرة معنى يرمز إليها.”
“معنى؟”
قال سكالين متعجباً وهو يقطّب حاجبيه.
“المعنى هو: لا تنساني.”
أخذت نفساً عميقاً في صدري، ثم أغمضت عيني ببطء وفتحتهما من جديد.
“هذا هو المعنى الذي تحمله هذه الزهرة.”
“..…”
“جلالتها الإمبراطورة الراحلة… لم تكن لترغب أن ينساها سمو الأمير، تماماً كما تقول هذه الزهرة.”
لكن، في الحقيقة، كان من المحتمل أن يكون هذا مجرد تفسير زائد مني. فقد لا يكون لمفهوم “لغة الأزهار” وجود أصلاً في هذا العالم.
ثم، والأهم من ذلك، أن الأم التي تحب ابنها ربما كانت ستفضّل أن ينساها ليعيش سعيداً.
نعم… لقد كان هذا مجرّد تطفّل أناني مني. أمنيتي الصغيرة ألا يتلاشى شعور سكالين بهذه السرعة، وأن يبقى عالقاً في قلبه وقتاً أطول.
“…أترى؟”
“..…”
“حتى لو لم أصبح الأمير المستقيم الرائع الذي تمنته… هل كانت ستظل راغبة في أن أتذكرها؟”
لكن هل هي أمنيتي وحدي فعلاً؟ سؤاله بدا وكأنه يرجو مني جواباً بالإيجاب.
“طبعاً.”
وأنا كنت مستعدة تماماً أن أمنحه الجواب الذي يرغب فيه.
“جلالتها لم تكن تحب الأمير المثالي، بل كانت تحب ابنها سكالين نفسه.”
مع كلماتي الحازمة، اتسعت عينا سكالين الكبيرتان أكثر، ثم سرعان ما…
امتلأت عيناه الحمراوان بالدموع الشفافة.
تدفّقت قطرات على خديه ببطء، فأدار وجهه على عجل لئلا أراه.
كنت أود أن أربّت على رأسه… لكنني أدركت أنه لا يرغب بذلك.
“…حتى وإن كنا متباعدين جسداً.”
رنّ صوته المبلل بالدموع في المكان.
“هل يمكن أن أستمر في تذكرها؟”
لم أجرؤ على الإجابة بسرعة.
فالإمبراطورة توفيت منذ زمن بعيد، قبل أن يبلغ سكالين حتى هذا العمر.
بعد عشر سنوات… ربما لن يتذكّر حتى ملامح وجهها.
ومع ذلك، لم أستطع إلا أن أقول.
“بالتأكيد!”
رفعت صوتي عمداً بمرح أكبر.
“الذكريات تزهر في أحضان الماضي. وهذه الزهرة الآن هي ذكرى تجمع بين سموّ الأمير وجلالتها الراحلة.”
حينها، التقت عيناي بعيني سكالين الذي التفت إليّ فجأة.
أطال النظر إليّ مليّاً، ثم أطلق ضحكة خافتة كأنها نفس متسرب.
‘هل بالغتُ كثيراً…؟’
بدت ردّة فعله وكأنه يسخر مني، فخجلت وحككت مؤخرة رأسي… ثم ضحكت بدوري.
على أية حال، ما دام قد ضحك… فهذا يكفيني!
“أميرة، هل أنتِ هنا؟”
حينها دوّى صوت كبير الخدم من مدخل الممر الأول وهو يناديني.
“آه، ليس الآن بالضبط…!”
نظرتُ بحيرة بين سكالين الذي ما زال يمسح دموعه وبين صوت القادم من المدخل.
لو رآه كبير الخدم هكذا، فسيطالبني حتماً أن أشرح له سبب بكاء الأمير…
وأنا أعلم أن سكالين لن يرضى بموقف كهذا.
وأنا مترددة لا أتحرك، إذ بـ سكالين ينكزني بخفة.
“سيليا.”
رفعت بصري إليه مع سماع اسمي.
“أراكِ لاحقاً.”
قالها بابتسامة مشرقة لم أرها من قبل.
***
“يا آنسة، لقد بحثت عنكِ طويلاً. حين تدخلين الحديقة الداخلية يجب أن أرافقكِ دائماً، فهي مكان يسهل الضياع فيه.”
“…الابتسامة تجعله حقاً جميلاً.”
“عفواً؟”
“آه… لا، ماذا قلتَ للتو؟”
لقد تكلم مطوّلاً، لكنني لم أسمع شيئاً… كنت ما أزال غارقة في وجه سكالين الأخير.
ابتسمت بخجل وسألته، فتنهد كبير الخدم وهز رأسه.
“لا شيء… هيا بنا. إنّ السيد هارين بانتظاركِ.”
“آآآه!”
“ها؟ ما الأمر مرة أخرى…؟”
بمجرد أن سمعت اسم هارين يخرج من فمه، صرخت بلا وعي.
آه… في النهاية، لم أسأله بعد عن إشاعة الزواج تلك.
التعليقات لهذا الفصل " 19"