كان السير برناردينو، الذي كان صامتًا، يكاد يسأل: “ماذا تقول يا صاحب السمو؟”

كاد أن يقول هذه الكلمات لو لم يركله السير مانفريدي بكعبه، إذ شعر باهتزازه. لحسن حظ اللورد برناردينو، تجاوز سيده هذه المحنة بسلام. 

“لم يُتأكد بعد لمن ينتمي سيف كاليدبوه المقدس.”

استُعيد سيف كاليدبوه المقدس من دير غراناتا. كان من الواضح أن ألفونسو، قائد الطليعة آنذاك، هو من قاد القوات بنفسه وحصل على السيف. إلّا أن الحملة الصليبية الثالثة مرّت بعملية تسليم جميع الغنائم للقائد العام ثم إعادة توزيعها. بعد تقديم سيف كاليدبوه المقدس إلى دوق يولدينبورغ الأكبر، كان من المقرّر أن يعود إما إلى الأمير ألفونسو، حسب قراره، أو أن يجد له سيدًا آخر. 

“كان عليّ تقديمه للقائد العام، لكن لم تُتح لي الفرصة قط.”

 أُصيب دوق يولدينبورغ الأكبر في معركة دير غراناتا عندما سقط من على حصانه وكسر مفصل وركه. ومنذ ذلك الحين، واصل ألفونسو الركض حول الخطوط الأمامية، حيث تمَّت ترقيته بالتتابع إلى مناصب قائد الطليعة، وقائد الفيلق المركزي، والقائد العام بالإنابة، بينما كان دوق يولدينبورغ الأكبر يحرس المعسكر الرئيسي، ولكن عندما ساءت حالته، تراجع إلى مدينة ساحلية خلفية للتعافي هناك. وبمجرد الإعلان عن انتصار يساك، تنهد بارتياح وصعد على متن أول سفينة تغادر إلى وطنه. لم يتمكن الأمير ألفونسو، الذي انتهى لتوه من تنظيف آثار يساك قبل صعود السفينة المتجهة إلى القارة الوسطى، من مقابلة دوق يولدينبورغ الأكبر شخصيًا منذ معركة دير غراناتا. 

“ماذا؟ ماذا تقصد، لم يوزع القائد العام الغنائم بعد؟” 

أُرسلت الغنائم الأخرى إلى المؤخرة ووُزِّعت بعد أن أكَّدها القائد العام. تكمن المشكلة في أنه لم يسبق لأحدٍ غير الأمير ألفونسو استخدام السيف المقدس كاليدبوه. 

أجاب الأمير ألفونسو بإيجاز بدلاً من الشرح المُفصَّل.

“لقد حدث ذلك.”

لو رأى الدوق الأكبر السيف المقدس كاليدبوه، لكان من المُرجَّح جدًا أن يُسلِّم ملكيته للأمير ألفونسو. لكن لم تُتح الفرصة للدوق الأكبر للقيام بذلك بعد. 

أجاب الأمير ألفونسو ليو الثالث دون أن يُشَوِّه عضلةً في وجهه:.

“سأخبركَ عندما أملك القدرة على التصرّف فيه.”

 لم يكن ذلك تعبيرًا عن خيبة أمل في والده ولا تعبيرًا عن سروره بمضايقته. لقد كان مجرد تعبيرٍ كتدفق نهر.

على عكس هدوء ابنه، عبّس ليو الثالث علانية، غير مدرك أن دوق يولدينبورغ الأكبر سيسلّم السيف إلى الأمير ألفونسو ما لم تكن هناك ظروف خاصة. اشتكى ليو الثالث لفترة طويلة من القائد العام الذي يدّعي ملكية قطعة أثرية لم يجمعها، ثم سأل فجأة كما لو أن فكرة قد حدثت له.

“هذا صحيح. كان لدى دوق يولدينبورغ الأكبر ابنة صغيرة؟”

أدرك السير برناردينو، الذي كان يسجد خلف الأمير ألفونسو، على الفور سبب حديث الملك عن ابنة دوق يولدينبورغ الأكبر.

“كم من الوقت مضى منذ أن هربتَ من غاليكوس بحياتكَ على المحك وعدتَ!”

لا بد أن ليو الثالث كان يحسب أنه سيزوج ابنة دوق يولدينبورغ الأكبر للأمير ألفونسو ويحصل على السيف المقدس كاليدبوه كهدية زفاف أو مهر للدوقة الكبرى.

صرخ السير برناردينو داخليًا: “هذه الأميرة تبلغ من العمر ثلاث سنوات الآن!”

كان الماركيز فالديسار هو من أثار حكّة السير برناردينو، الذي لم يستطع أن يتحمل التحدث أمام الملك دون إذن.

“جلالتكَ، أفهم أن ابنة الدوق الأكبر ليولدينبورغ تبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط هذا العام.”

لا يعترض السياسيون ببساطة على الزيجات ذات فارق السن الكبير لأنها تُعتبر قبيحة المنظر. كان الماركيز فالديسار واحدًا منهم.

“إذا تزوج أميرة صغيرة جدًا، فهناك مشكلة وهي أن الأمر سيستغرق وقتًا طويلاً حتى يكون لديك وريث…”

“ما المشكلة في ذلك؟”

رفع ليو الثالث حاجبيه الأبيضين الكثيفين وقاطع الماركيز فالديسار. 

أغلق الماركيز فالديسار فمه على الفور. الكونت ماركوس، الذي كان يستمع إلى كلمات الملك، نقر لسانه في داخله.

الأمير ألفونسو هو الآن الأمير الشرعي الوحيد في سن الزواج والوريث المباشر الوحيد. في مثل هذه الحالات، ستكون الخلافة مستقرة فقط إذا وُلد ولي العهد في أسرع وقت ممكن. إذا ظل ولي العهد هو التالي في ترتيب ولاية العرش، فلن يكون هناك حافز للأعضاء الجانبيين، مثل الأعمام أو الأقارب البعيدين، للقيام بمحاولات غير ضرورية لزعزعة الأمير.

فكر الكونت ماركوس: “جلالة الملك لا يخفي حقيقة أنه ليس لديه نية لمنح القوة للأمير ألفونسو.”

لم يكتف ليو الثالث بإسكات الماركيز فالديسار، واستمر في الحديث كما لو كان لا يعرف شيئًا.

“إذا كان لديها نسب عظيم، فما أهمية العمر؟ إن دوق شتيرنهايم الأكبر هو عائلة ذات جذور عميقة، لذا سيكون تطابقًا مثاليًا لألفونسو.”

تمكن الكونت ماركوس من إدراك شيء آخر هنا. كانت دوقية شتيرنهايم دولة ضعيفة نسبيًا مقارنة بمملكة إتروسكان. كانت صغيرة الحجم والأراضي المتبقية إلى الشمال كانت قاحلة أيضًا.

فكر الكونت ماركوس: “جلالته يخشى أن يكون لسمو ولي العهد عائلة قوية من الأصهار. مهما بلغت قوتهم، لا يوجد آباء ولا أبناء…”

قاطع ليو الثالث تأملات الكونت ماركوس عندما أشار إليه وجعله يتكلّم.

“دعنا نرى يا ماركوس، من أين أبدأ البحث عن دوقية شتيرنهايم للزواج؟”

تابع خيال الملك الساحر.

“بما أنكَ قلتَ إنها في الثالثة من عمرها فقط، فلا أعتقد أننا بحاجة إلى التحقق مما إذا كانت هناك أي عروض زواج أخرى…” 

بحث الكونت ماركوس، الذي وقع في كمين، بجنون عن إجابة.

“أود أن أبدأ المراجعة، هاه…”

لم يكن من أنقذ الكونت الحائر سوى الأمير ألفونسو.

“يؤسفني إخباركَ.”

قاطع الأمير ألفونسو رغبات ليو الثالث بحزم.

“أعتقد أنه سيكون من الصعب أن يتم هذا الزواج.”

“ماذا؟”

ارتفع حاجبا ليو الثالث كما لو كانا على وشك الطيران. كان غاضبًا لأن ابنه تجرأ على عصيانه. 

لكن منذ أول لقاء لهما، لم يستطع رفع صوته. بالكاد كتم ليو الثالث صرخته التي كانت على وشك الانطلاق.

“ما السبب؟”

“لأنني متزوج بالفعل.”

أريادن، التي استيقظت في الصباح الباكر، استلقت في السرير لفترة طويلة وبالكاد تمكنت من النهوض من أردافها الثقيلة مع اقتراب الظهر. لم تكن تشعر بالرغبة في العمل على الإطلاق، لكن العمل هو العمل لأنه يجب عليها القيام به حتى عندما لا تشعر بذلك. كان اليوم هو اليوم للذهاب إلى حي كامبو دي سبيتسيا الفقير لتجنيد الطلاب.

“هل يجب أن أذهب لرؤيته؟”

ركبت أريادن في عربة أعدتها سانشا ورافقها جوزيبي إلى كامبو دي سبيتسيا. في الساحة المركزية في كامبو دي سبيتسيا، كانت الاستعدادات لجلسة معلومات تجنيد طلاب مدرسة غريتا على قدم وساق. نصب موظفو دار الإغاثة خيمة فوق طاولة خشبية طويلة وأعدوا وجبة بسيطة، بينما تناوب الطلاب الخريجون من مدرسة غريتا على تقديم العروض وصعدوا إلى المنصة الخشبية.

“الأطفال يبلون بلاءً حسنًا حقًا.”

همست سانشا.

اجتمع الحضور بسلاسة، وكان رد الفعل على العرض جيدًا. كان الفصل الأول من مدرسة غريتا ملتقىً لأطفال دار الإيواء الذين كانت لديهم رغبة قوية في تطوير أنفسهم. مهما طُلب منهم، كانوا يصرّون على أسنانهم ويؤدونها بإتقان.

“نعم؟”

“أنا فخورة جدًا.”

ارتسمت ابتسامة فخر على وجه سانشا. ابتسمت أريادن ابتسامة خفيفة وهي تنظر إلى وجه سانشا.

“سأذهب إلى مؤخرة المسرح للحظة. التالي إليانا، لكنها متوترة جدًا.”

“تعالي وأمسكي بيدي.”

أنهت أريادن، التي أصبحت الآن بمفردها بعد إرسال سانشا، مشاهدة العرض. كان طلاب السنة الأولى الذين يعلنون الآن يعرفون تمامًا ما يجب عليهم قوله لإقناع الآباء الفقراء الذين يرغبون في بيع عمل أبنائهم لتغطية نفقاتهم بإرسال أطفالهم إلى المدرسة. كان الأمر رائعًا ومحزنًا بعض الشيء في آن واحد. كانت تأمل ألّا يعلم الأطفال بذلك بحلول الوقت الذي يدخل فيه طلاب الصف العاشر والحادي عشر والثاني عشر إلى المدرسة..تمنت لو كبر هؤلاء الأطفال لفترة أطول وبسلاسة أكبر.

“مهلاً.”

لم تسمع أريادن، التي كانت تفكر في شيء آخر، الصوت الذي يناديها.

“مهلاً، أنتِ!”

طرقت عصا طويلة بقدميها. عندها فقط نظرت أريادن إلى الأمام في دهشة.

“لا أحد يُجيب حتى عندما ينادي الناس!”

“نعم؟ أنا؟”

الشخص الذي لمسها بالعصا كان امرأة عجوز ترتدي ملابس غريبة.

“موريسكية…”

موريسكية تعيش في أقصى الشرق. بشرتها أفتح من بشرة الموريسكيين النموذجية، بنية فاتحة، وملابسها مختلفة أيضًا. كانت في الأصل امرأة سمراء البشرة، نصف شعرها مغطى بالشيب، مما يجعل من الصعب تقدير عمرها، ولكن لسبب ما، بدت أكبر سنًا مما يوحي به بشرتها الناعمة وشعرها.

“قد تكون هذه هي المرة الأولى التي تريني فيها يا آنسة. لكن هذا ليس أول لقاء لنا.”

نظرت أريادن إلى الجدة الموريسكية بهدوء. كان من المبالغة وصفها بأنها مجنونة أو محتالة تحاول تقييدها.

قرّرت أريادن أن تثق بحدسها.

“هل هناك أي شيء يمكنني مساعدتكِ به؟”

“هاهاها!”

ضحكت العجوز بصوت عالٍ.

“من يساعد من!”

رسمت ثلاث دوائر على التراب أمام أريادن بعصاها.

“بعد ثلاث ليال. ذلك اليوم هو يوم ظهور القمر الجديد. تعالي إلى تل تولودو.”

سألت أريادن ردًا.

“تل تولودو؟ ما الوقت…؟”

“يجب أن أخبركِ بذلك أيضًا حتى تتمكنين من الفهم…!”

توقفت العجوز، التي كادت تفقد أعصابها، فجأة وقالت.

“آه.”

ثم همست العجوز لنفسها بصوت خافت.

“نعم، ربما لا تعرف هذه الشابة. بعد غروب الشمس تمامًا. سيكون ذلك حوالي الساعة التاسعة بتوقيتكِ.”

لو كانت سانشا أو جوزيبي هناك، لصاحا بها لفهم كلامهما. 

استطاعت أريادن أن ترى سانشا تقفز وتصرخ: “كيف تجرؤين على استدعاء سيدتنا في العاشرة مساءً!”

لكن الجدة الموريسكية تقدّمت خطوة أخرى.

“تعالي وحدكِ. إذا كنتِ لا تريدين رؤية الناس يموتون.”

على مشارف سان كارلو، كانت عربة مطلية باللون الأسود تسرع على طول الطريق الحجري المعبد بشكل خشن. كانت الرحلة فظيعة، لكن ركاب العربة لم يشتكوا. كان الشخص الموجود في العربة يرتدي قلنسوة سوداء ترتديها الراهبات.

“أين نحن؟”

رفعت الراكبة صوتها وسألت. 

كان صوتًا جميلًا وأنيقًا. لكن السائق تظاهر بعدم سماع سؤالها وتجاهله. كانت المرأة مستاءة سراً من عصيان السائق، لكنها لم تُظهر ذلك. 

“لم يكن الآن الوقت المناسب للقلق بشأن مثل هذه الأمور التافهة.”

على أي حال، بالنظر إلى المناظر المحيطة، شعرت وكأنها تعرف مكانها.

“هذه هي البوابة الشمالية لسان كارلو.”

تمتمَت بنشوة. 

دفعت العربة رسومًا صغيرة عند البوابة الشمالية ومرّت ببطء فوق الجسر المتحرك فوق الخندق الشمالي.

رفعت المرأة الستائر السوداء التي تُغطي نوافذ العربة السوداء ونظرت إلى الخارج. تدفقت أشعة شمس الربيع المبهرة عبر النافذة، مُشبعةً ملامح امرأة في منتصف العشرينيات. رمشت بنظرها على ضوء الشمس الذي انعكس على شعرها الأشقر الداكن وعينيها الإرجوانيتين. وبينما اعتادت عيناها على الضوء، ظهر شارع مألوف. جلست باستقامة أكبر لتُلقي نظرة أوضح على الخارج.

“هاه.”

شعرت بثقل في جسدها. وضعت يدها على بطنها الحامل والأخرى على الكرسي، بالكاد تمكنت من الجلوس بالقرب من النافذة كما أرادت. المدينة التي عاشت فيها طوال حياتها منذ أن كانت تتذكر. سان كارلو، زهرة القارة الوسطى، كانت مُمتدة أمامها مرة أخرى.

تحدّثت المرأة، إيزابيلا، إلى نفسها بابتسامة سعيدة على شفتيها.

“لقد عدتُ، سان كارلو.”