تصرّف كل من الأب وابنته بطريقته الخاصة. كانت تصرفات الأب هي التي أصبحت مرئية أولاً.

“صاحب السعادة الماركيز فالديسار، الكاردينال دي مير يرغب في رؤيتكَ.”

“أنا؟”

كان رافائيل، الذي استدعاه الكاردينال دي مير إلى كاتدرائية القديس إركولي، مضطربًا للغاية.

“لماذا أراد صاحب السيادة الكاردينال رؤيتي…؟”

على الرغم من أن رافائيل كان طالبًا في اللاهوت وعضوًا في الجمعية اللاهوتية التي جمعت أعضاء المستقبل الواعدين لكنيسة الكرسي الرسولي، إلّا أنه كان صغيرًا جدًا على عقد اجتماع حصري مع الكاردينال دي مير، ممثل الأبرشية الأترورية بأكملها.

في النهاية، توصّل رافائيل إلى استنتاج مفاده أن الكاردينال لا بد أنه اتصل به بسبب شيء كان لديه إلى جانب إنجازاته الخاصة، مثل كونه عضوًا في عائلة الماركيز فالديسار أو صداقته مع ابنة الكاردينال. 

ونظر رافائيل إلى الأمام خطوة واحدة من هناك: “لو كان الأمر متعلقًا بعائلتنا، لتحدثتَ من خلال والدي. لذا، في النهاية، الأمر متعلق بآري.”

وكان تنبؤ رافائيل مُصيبًا.

“لذا، أود منكَ مساعدتي في إقناع ابنتي.”

“نعم؟”

لكن القصة التي رواها الكاردينال دي مير كانت أبعد ما يكون عن توقعات رافائيل.

“ستُخبرها بالزواج من الدوق سيزار.”

داعبَ الكاردينال دي مير لحيته وهو يجلس أمام الشاب بوجه شاحب.

“هذا…”

بذل الشاب ذو الشعر الفضي، رافائيل دي فالديسار، جهدًا كبيرًا لضبط تعبير وجهه.

لكن في نظر الكاردينال دي مير العجوز، كان من الواضح أن الشاب يُريد رفض عرضه.

“لا أنوي تزويج ابنتي لأي شخص سوى العائلة المالكة.”

تحدّث الكاردينال كما لو كان يُدق إسفينًا في الأرض.

“هذه الطفلة لا تُصغي إليّ إطلاقًا. ألستَ مُقرّبًا من آري؟ اذهب وأقنعها.”

كان رافائيل في عذاب داخلي.

على الرغم من أن أريادن لم تكن تعلم، إلّا أن رافائيل كان يُعرف سرًا في الطبقة الراقية بمنقار الرعب. وينطبق هذا بشكل خاص على أقرانه الذكور، الذين ينطقون بألفاظ قاسية دون مراعاة للسياق. لو كان الكاردينال دي مير صديقًا في مثل عمره، لكان رافائيل قد صرخ في وجهه وقال: “كفى هراءً.” كان هناك الكثير مما يستحق الشتائم لدرجة أن راحتي رافائيل كانتا تتعرقان ترقبًا، لا يدري من أين يبدأ. لكن الشخص الآخر هو والد أريادن. ليس فقط والد المرأة التي يُحبّها، والتي يجب أن يبدو وسيمًا ليتزوجها، بل هو أيضًا شخصية بارزة تُعيق طريق رافائيل نحو النجاح إذا ما نفّذ خطة حياته الأصلية، التي أصبحت الآن الخطة البديلة. أيًا كانت الطريقة التي يختارها، فليس من السهل معارضة رأيه. 

ارتجفت شفتا رافائيل.

نظر الكاردينال إلى رافائيل، الذي لم يتمكن من الإجابة، وكان سعيدًا سرًا لأن حدسه كان صحيحًا. من وجهة نظر الكاردينال، كان لدى الشاب بوضوح نوايا شريرة تجاه ابنته. وابنته الثانية أيضًا كان لديها بعض المودة الإنسانية تجاهه. كان الكاردينال ينوي أن يقول لرافائيل، لن تتمكن من وضع إصبعك على ابنتي، لذا اخرج من هنا.

“لقد جهزتُ عربتي الآن. إذا ذهبتَ إلى منزلي، فسأسمح لكَ بالدخول على الفور. أريادن في المنزل. اصعد وتحدّث معها على الفور.”

خفض رافائيل رأسه في النهاية. في الواقع، اعتقد أنه يجب أن يجيب شفهيًا، لكن فمه لم يفتح.

بدا الكاردينال راضيًا حتى عن هذا المستوى من الخضوع. كان دائمًا من النوع الذي يسعى فقط لتحقيق النتائج التي يصبو إليها بكفاءة، ولم يكن يستمتع بإذلال الآخرين في سبيل ذلك. لكنه كان بحاجة إلى إخبار خصمه بما يملك من أوراق. 

سأل الكاردينال عابرًا.

“حسنًا. سمعتُ أن نتائجكَ في اختبار القراءة كانت ممتازة.”

خضع الطلاب الذين تخرجوا من المعهد اللاهوتي في بادوفا لامتحان منصب القارئ في الكرسي الرسولي فور تخرجهم. كانت خدمة القارئ هي القدرة على قراءة الكتاب المقدس أثناء القداس، وكانت الخطوة الأولى نحو التعيين كاهنًا.

“شكرًا لكَ.”

لم يكن الأمر شيئًا يعرفه شخص رفيع المستوى كالكاردينال بالتفصيل. لقد بحث في الأمر عمدًا بشأن رافائيل دي فالديسار.

“هل يعلم والديكَ أنكَ خضعتَ للاختبار؟”

كان سؤالًا طرحه وهو يعلم تمامًا أن رافائيل أصبح الآن الابن الوحيد لعائلة فالديسار بعد وفاة أخيه الأكبر. إذا أصبح رافائيل كاهنًا، فسيتم نقل العائلة إلى فرع تابع، لذا لو كان الزوجان الماركيز فالديسار على علم بذلك، لما سمحا بحدوثه أبدًا. 

أجاب رافائيل بصوت مرتجف.

“ربما لا يعرفون بعد.”

تحدّث الكاردينال برقة ولطف.

“نعم، قد يكون الأمر كذلك. إن طريق البحث عن الحقيقة شاق، والآباء، بغض النظر عن صدق إيمانهم، لا يرحبون أحيانًا بسلوك أبنائهم هذا الطريق.”

وأضاف الكاردينال مبتسمًا.

“لكنه طريق يستحق العناء.”

تمتم الكاردينال في نفسه: “لذا، أرجوك، أسرع بالعودة إلى الأمة المقدسة وابتعد عن ابنتي. لن أخبر والديكَ.”

بعد أن قال الكاردينال كل ما لديه، أصدر أمرًا لرافائيل.

“إذًا اخرج. الخيول تنتظر.”

“نعم.”

جلس رافائيل في العربة، متسائلاً عما سيقوله لأريادن عندما يقابلها: “أود أن تتزوجي من الدوق سيزار؟!”

كانت قصة لم يرغب رافائيل في سردها على الرغم من تمزق فمه. كان من المثير للاشمئزاز في حد ذاته تشجيع امرأة يُحبّها على الزواج من رجل آخر، ولكن الأمر كان أسوأ عندما يكون هذا الشخص هو سيزار. 

تمتم رافائيل في نفسه: “كان سيزار زير نساء صارخًا ووغدًا لا يكترث بالعواقب.” 

كان رافائيل، الذي عرف سيزار منذ أن كان طفلاً، يعلم أن معظم الآراء المتداولة عنه في المجتمع الراقي كانت صحيحة. 

تمتم رافائيل في نفسه: “كان سيزار سريع الغضب وليس لديه إيمان. أي نوع من الأب في العالم سيزوج ابنته لرجل مثل هذا؟”

“تفضل بالدخول.”

عندما قادته رئيسة الخادمات إلى غرفة أريادن، توصّل رافائيل إلى استنتاج أنه لا يمكنه فعل ما أخبره به الكاردينال دي مير.

قرّر رافائيل التحدّث بصراحة: “طلب مني والدكِ إقناعكِ. لكنني لا أعتقد أن هذا صحيح. نعم، كان هذا هو الحال.”

طرق رافائيل بهدوء على باب غرفة دراسة أريادن. ولكن لم يكن هناك رد من الداخل. طرق الباب مرة أخرى. ولكن لم يكن هناك رد من صاحبة الغرفة حتى بعد إصدار صوت آخر.

في النهاية، قرر رافائيل فتح الباب المفتوح قليلاً ودعوة نفسه إلى غرفة دراسة أريادن.

“أري…؟”

كانت أريادن نائمةً. هبّت نسمة صيف مبكرة برفق عبر النافذة المفتوحة، مما أدى إلى هز الستائر الكتانية، وكانت فتاة نحيفة مستلقية ووجهها لأسفل على المكتب الخشبي الضخم أمامه مباشرة، مستخدمةً ذراعيها كوسادة. لقد كانت لحظة خلابة.

ابتسم رافائيل. عاد خلف مكتب أريادن وأغلق النافذة المفتوحة.

“إذًا ستصابين بنزلة برد.”

لم يكن أحد يستمع، لكن رافائيل تحدّث بهدوء. 

“النوم ووجهكِ لأسفل ليس جيدًا أيضًا لصحة الرقبة والكتفين.”

كان رافائيل ينوي إيقاظ أريادن بالذهاب إلى الأريكة. هزّها برفق على ظهرها.

“آري، آري. استيقظي.”

لكن يبدو أنها كانت في نوم عميق ولم تتحرك على الإطلاق. أطلق ذراعيها اللتين كانتا مستلقيتين كوسادة.

“انهضي واذهبي إلى الأريكة للنوم.”

أمسك رافائيل بيدها اليسرى وسحبها نحوه. ولأنها كانت نائمة ووجهها لأسفل، كانت قفازاتها مرتفعة قليلاً إلى أطراف أصابعها، كانت قفازاتها الحريرية الرقيقة من منتصف الموسم زلقة بسبب القماش. كانت أريادن محمولة بيد رافائيل، وانزلقت القفازات التي كانت ترتديها وسقطت من تلقاء نفسها.

نظر رافائيل إلى أريادن بدهشة. كانت المنطقة أسفل مرفقها الأيسر حمراء للغاية لدرجة أنه ظن أنها قد غُمست للتو في دم طازج. كانت كما لو كان الدم يتساقط، كانت يدها اليسرى بأكملها ملطخة ببقع ذات درجات لونية متفاوتة، ومتشابكة في المناطق المرتفعة والمنخفضة، كما لو كانت قد عانت من حرق رهيب. كلما نظر رافائيل إلى مرفقها، بدا الأمر وكأنه حروق جديدة، وكلما كانت الجروح أعمق وأكثر تقيحًا تبدو وكأنها حروق قديمة تجاه أطراف أصابعها. وفوجئ رافائيل مرة أخرى.

كانت أريادن، التي استيقظت للتو، تُحدّق في وجه رافائيل غير المتحكم به والخائف تمامًا، مذهولةً.

“آري…”

التقط رافائيل الصورة شارد الذهن.

“لا، ليس هذا ما كنتُ أحاول رؤيته…”

انتزعت أريادن القفازات من يدي رافائيل بسرعة وركضت إلى زاوية من المكتب. كانت يدها اليسرى مخفية خلف ظهرها. امتلأت عيناها الزمرديتان الكبيرتان بالدموع.

“آري، أنا آسف.”

لوّح رافائيل بيديه في حرج.

“دخلتُ فجأةً… لأن الكاردينال أرسلني إلى هنا، لكنني لم أدخل الغرفة دون أن أسمع ردّكِ.”

اعتذر رافائيل عن كل شيء بفوضى.

انطلقت كلمات أريادن الأولى، بالكاد قادرة على فتح فمها، نحو رافائيل وصدمته.

“أوه، هذا ليس مُعديًا…”

لم يكن يعرف السبب، لكن هذه الكلمات جعلت قلب رافائيل يؤلمه أكثر من أي وقت مضى.

“يا إلهي.”

غطى رافائيل وجهه بكلتا يديه. أراد أن يذهب ويعانق أريادن.

“ليس هذا هو الأمر.”

كان من الأقرب إلى الحقيقة أن يقول إنه فوجئ للحظة فقط، لكن النظرة المؤلمة على وجه أريادن جعلت من المستحيل عليه حتى أن يقول ذلك. كان صحيحًا أن رافائيل فوجئ عندما رأى يدها، وبصراحة، كان صحيحًا أيضًا أنه اعتقد أنها مثيرة للاشمئزاز.

“تلك اليد… كيف حدث ذلك؟”

يمكن لرافائيل وأريادن مشاركة معظم الأسرار، ولكن ليس هذا السر. ظلت أريادن صامتة.

شعر رافائيل بالذنب لمجرد السؤال.

“آسف… إذا كان هذا يجعلكِ غير مرتاحة، فلن أسأل.”

ساد الصمت بينهما. بدا أن الهواء الثقيل الرطب يرمز إلى المحيط الذي كان على رافائيل السباحة عبره للوصول إلى أريادن.

بعد صمت طويل، كانت أريادن هي من تحدثت أولاً.

“سر… ستحتفظ به، صحيح؟”

كان وجه أريادن مزيجًا من الجدية والحزن. أومأ رافائيل بحماس.

“بالتأكيد.”

كان هذا كل ما يمكن لرافائيل فعله.

“لن أخبر أحدًا عن يدكِ حتى يوم وفاتي.”

حقًا، كان تعبيرًا صادقًا من أعماق قلب رافائيل. 

ابتسمت أريادن ابتسامة خفيفة، ربما شعرت بمشاعر رافائيل.

“سأُصدّقكَ.”

ابتسم رافائيل بارتياح. 

احنت أريادن رأسها قليلاً. كل ما يمكنها فعله الآن هو التصديق. 

كرهت أريادن أن تعهد بحياتها لشخص آخر أكثر من الموت. لم تستطع أن تثق بخطيبها من حياتها السابقة، ولا بأبيها.

فكرت أريادن: “هل يمكنني أن أثق برافائيل؟ الوقت وحده كفيل بإثبات ذلك.”

“تعالي إلى هنا، تعالي إلى هنا.”

تحدّث رافائيل بحذر إلى أريادن، التي كانت لا تزال واقفة في إحدى زوايا المكتب.

“اجلسي براحة. لا تكوني هكذا في غرفتكٓ. أنا مثل مالكة الغرفة.”

أومأت أريادن برأسها.

كان رافائيل في حالة ذهول لدرجة أنه نسي تمامًا المهمة التي أرسله إليها الكاردينال دي مير. 

في تلك اللحظة، كان هناك ضجيج خارج مكتبها. فزعت أريادن ووضعت القفاز على يدها اليسرى. ولكن في عجلة من أمرها، لم يكن القفاز مناسبًا تمامًا ليدها. تحركت اليد اليسرى، التي بدت وكأنها ندبة حرق حمراء أو مرض جلدي.

جادل رافائيل فيما إذا كان ينبغي أن ينظر إلى شكلها، وما إذا كان سيكون من المريح لها أن يُدير رأسه بعيدًا، أو ما إذا كان سيؤذيها بالفعل.

“آنسة.”

ولكن لحسن الحظ، كانت صاحبة الصوت هي سانشا. 

توقفت أريادن عن محاولة ارتداء قفازاتها على عجل وأجابت بصوت مرتاح.

“ما الخطب يا سانشا؟”

كان هناك لمحة من القلق في صوت سانشا.

“آنسة. يجب أن تخرجي.”

سألت أريادن ردًا.

“الآن؟”

“نعم. وصلت وثيقة من جلالة الملك إلى الطابق الأول. لم تُقرأ بصوت عالٍ كما في المرة السابقة، بل رسالة، لذا أعتقد أن عليكِ استلامها شخصيًا.”

كان هذا أمرًا لا يُحتمل التأخير. ارتدت أريادن قفازاتها ورتّبت نفسها، ونزلت إلى الطابق السفلي، وتبعها رافائيل. في الطابق الأول، وجدا خادم الملك يحمل ظرفًا من الرق، كبير الحجم ومزخرف لدرجة أنه لا يُصلح أن يكون رسالة، ومطرزًا بكثافة بورق الذهب. 

سلّم خادم الملك رسالة جلالة الملك إليها وفقًا لآداب البلاط، وبعد أن استلمت أريادن الرسالة في الوقت المناسب، كسرت الختم وأخرجت محتوياتها. بالمقارنة مع مظهرها البراق، كان محتواها بسيطًا للغاية. بداخلها ورقة واحدة من الرق، مكتوب عليها سطرين فقط.

(أقبل طلب الكونتيسة دي مير وأسمح بفسخ الخطوبة. ليو الثالث.)

وأثمرت أفعال أريادن خلف الكواليس أيضًا.