بفضل الطقس المعتدل ووفرة المحاصيل، كانت هذه المنطقة بمثابة مخزن الحبوب للإمبراطوريّة، لكنّها دُمّرت بشكل مروّع عندما اجتاحتها حرب ضدّ جحافل الوحوش.
ونتيجة لذلك، اجتاحت الإمبراطوريّة مجاعة كبيرة في النصف الثاني من القصّة.
بالطبع، حاولت عائلة كاستراين، من منطلق إنسانيّ، توزيع المخزونات الغذائيّة التي كانت تحتفظ بها، وجمعت الموارد من خارج الإمبراطوريّة بكلّ الوسائل الممكنة.
لكن حتّى عائلة كاستراين، مهما كانت قويّة، لم تستطع تحمّل مسؤوليّة الجميع في ظلّ فقدان ثلثي الأراضي الزراعيّة وتحوّل معظم الفلاحين إلى لاجئين. في الأصل، كانت معظم أراضي كاستراين في الشمال.
كان الجنوب غنيًا جدًا، وكانت هجمات الوحوش فيه نادرة مقارنة بالمناطق الأخرى، ممّا جعل الدمار فيه أكثر إيلامًا.
لذا، مهما بدا الجنوب الآن مزدهرًا وجميلًا، لم أكن أشعر براحة البال للتجوّل والاستمتاع بالمناظر.
“وهذا إقليم الكونت كورتيز، أليس كذلك؟”
“تعرفين جيّدًا.”
“الكونت الحاليّ ربّما يكون في العاصمة، لكن سمعتُ أنّ الكونت الشاب، الذي يكبرني بثلاث سنوات تقريبًا، موجود في هذه المدينة.”
مدينة أرتولا، مدينة الزهور المتألّقة، إحدى المدن الكبرى في الجنوب التي تحتوي على نفق تنقّل فضائيّ.
إنّها مدينة تجاريّة بارزة، ومعقل التجّار. لقد أوكل الكونت إدارة المدينة بالكامل إلى ابنه لتعليمه كيف يكون خليفة المستقبل.
كان ذكيًا بشكل لا يتناسب مع عمره، سريع البديهة، ويتمتّع بحدس قويّ. في القصّة، بعد أن دُمّر الجنوب بالكامل، تمكّن بطريقة ما من البقاء على قيد الحياة، وذهب إلى بيبي، راكعًا يطلب منها إعادة إعمار الجنوب.
بالطبع، في تلك الفترة من القصّة، كانت الإمبراطوريّة بأكملها تعاني من مشاكل، خاصّة مع اندلاع الحرب الأهليّة.
لذا، ردّت بيبي ببرود، قائلة إنّها لا تستطيع مراعاة الظروف في الوقت الحالي، لكنّها أعلنت.
“ساعدني بجانبي، واغتنم الفرصة لإعادة بناء الجنوب!”
كان معناها: سأجعلك تابعًا لي، فاستخدم مهاراتك لمساعدتي، واستغلّني لتحقيق ما تستطيع.
عمل الكونت الشاب بجدّ إلى جانب بيبي، وعندما استقرّت الإمبراطوريّة لاحقًا، حصل على إقليم الجنوب بالكامل لإعادة إعماره بعد الحرب.
بالطبع، نظرًا للتوقيت، فإنّه من السابق لأوانه أن يُظهر الجديّة والنضج والخبرة التي أظهرها في القصّة.
لقد كان مدلّلاً بحبّ والديه، ويُظهر مواهبه الوفيرة في بيئة مثاليّة، لذا ربّما كان مغرورًا بعض الشيء.
ابتسمتُ بمرح.
“لكنه، على الرغم من علمه بوصولي اليوم، لم يأتِ لتحيّتي؟”
بعبارة أخرى، إنّه شخص يتجاهل تمامًا أميرة تُشتهر بأنّها “جميلة الوجه ولكن فارغة العقل”.
بل إنّه تجاهلني بالفعل!
مهما كانت سمعتي سيئة، ومهما كنتُ بدون دعم قويّ، أنا أميرة.
لو كان الأمير الأوّل أو الثاني من جاء، لكان قد انتظر منذ ثلاث ساعات قبل موعد الوصول لتحيّتهم.
ربّما كان سيبتسم ويقترح.
“هل ترغبون في التجوّل قليلاً؟”
حتّى لو كنتُ سأرفض بسبب جدول طقس التكريس المزدحم، فإنّ تقديم العرض أو عدمه يُحدث فرقًا.
أن يتجاهلني تمامًا بموقف مثل: “تلك الأميرة الحمقاء، سواء جاءت أم لا!”، هذا أمر آخر!
مالت ديبي رأسها كأنّها لا تفهم.
“أليس الكونت كورتيز شخصًا عاديًا؟ لا أفهم كيف يجرؤ الكونت الشاب على تجاهل صاحبة السموّ.”
من وجهة نظر أحد أتباع عائلة كاستراين، قد يبدو الكونت كورتيز تافهًا. لكن بالنسبة لي، ليس كذلك.
“حسنًا… الشائعات عنه جيّدة. يقولون إنّه مميّز بين أقرانه. وسيم، ذكيّ، وماهر، وسمعته منتشرة بالفعل، ويتلقّى تدريبًا عمليًا كخليفة. ربّما أبدو كأميرة حمقاء بالنسبة له! وأيضًا، الإمبراطورة الاولى كليو مهووسة بالرفاهية، لذا من وجهة نظر الكونت كورتيز، زعيم التجّار، قد يكون التقرّب منّي محرجًا!”
عبست باربرا.
“سمعتُ أنّه شابّ يتمتّع بشعبيّة كبيرة في الأوساط الاجتماعيّة. حتّى صاحبة الجلالة الإمبراطورة وصفته بالموهوب. لكن قيل إنّ الكونت الشاب هو الابن الوحيد، لذا يُدلّل بشكل خاصّ في عائلة الكونت…”
لكن، الكونت الشاب لا يزال صغيرًا أيضًا. أن يتجاهلني فقط لأنّه “لا يريد الانحناء لأميرة يُشاع عنها أنّها حمقاء”، أليس هذا مبالغًا فيه؟
أليس التواصل الاجتماعيّ للوالدين مختلفًا عن أبنائهم؟
صراحة، الكونت كورتيز الحاليّ قد يتجاهلني، فهو ليس في موقف يتطلّب الانحناء لي.
لكن إرسال ابنه لكسب ودّي لن تعترض عليه الإمبراطورة. علاوة على ذلك، مع انتشار شائعات تحسّن علاقتي بعائلة كاستراين، كان ينبغي أن يلتقي بي للتحقّق من الأمر بنفسه…
بينما كنتُ أتأمّل المشهد العاديّ، باستثناء النظرات الخفيّة من العامّة البعيدين، اقترب منّي كاهن أنهى حديثه مع غريغوري.
“أحيّي صاحبة السموّ الأميرة تيتانيا. أنا الكاهن كرون، المسؤول العام عن معبد الجنوب.”
كان وجهه يبدو لطيفًا. لكن مجرّد أنّه تحدّث مع غريغوري قبل تحيّتي يعني أنّه لا يمكن الوثوق به تمامًا.
“لقد كانت الرحلة طويلة ومرهقة، أليس كذلك؟ لكن لا يزال هناك بعض الطريق إلى المعبد. إذا سمحتِ، اركبي العربة مجدّدًا.”
“حسنًا.”
أومأتُ بهدوء وصعدتُ إلى العربة. اقترب ريسيانثوس، الذي كان يتجوّل في المنطقة، من حصانه بجانب عربتي وهو يتمتم.
“هذا المكان مملّ في كلّ مرّة أزوره.”
“هل زرته كثيرًا؟”
“بضع مرّات.”
“سمعتُ أنّ عائلة كاستراين تهتمّ بطقس التكريس، لكن لم أكن أعلم أنّهم يهتمّون بالجنوب أيضًا.”
“قبل عامين، عانت الجنوب من جفاف شديد، فكاد المعبد ألا يتمكّن من إقامة طقس التكريس وأثار ضجّة.”
حاولتُ استرجاع ذكرياتي الضبابيّة. كان وجه ريسيانثوس، الظاهر من نافذة العربة المفتوحة، هادئًا.
“في تلك السنة، كأنّ شيئًا ما أصاب الطقس. في الشمال، تساقط البَرَد في منتصف الصيف، وفي الجنوب استمرّ الجفاف. لحسن الحظّ، كانت المنطقة الوسطى حيث العاصمة بخير نسبيًا، لكنّني كنتُ هنا أيضًا.”
“…في طقس التكريس تلك السنة، هل شارك الأمير بريان؟”
“نعم. لكنّه كان كمن لم يفعل شيئًا.”
آه، الآن تذكّرتُ.
في تلك الفترة، تسبّب الأمير بريان والإمبراطورة الاولى كليو في فوضى عارمة.
لم يكن القصر الإمبراطوريّ يهتمّ بطقس الجنوب أو الشمال بعيدًا عن العاصمة.
لكن الإمبراطورة الاولى كليو كانت تأمل أنّه إذا هدأ الطقس الغريب في القارّة بعد مشاركة ابنها في طقس التكريس، فإنّ ذلك سيحسّن سمعته.
لكن، بمحض المصادفة، بعد أن أجرى بريان الطقس في ذلك الصيف، ساء الطقس أكثر.
عانت العاصمة من فيضانات بسبب أمطار غزيرة غير موسميّة.
حتّى تيتانيا، التي كانت تقبع في القصر، تفاجأت قائلة: “لماذا الطقس هكذا هذه الأيام؟”، فما بالك بالآخرين.
وكأنّ ذلك لم يكن كافيًا، بدأت جحافل الوحوش في التحرّك.
فوضى عارمة!
حاولت عائلة كاستراين جاهدة السيطرة على الوضع. على الرغم من أنّ الجنوب والعاصمة ليستا ضمن أراضيها المباشرة، كان عليها التدخّل من الشمال.
حتّى لو تمكّن الشمال من صدّ الوحوش، فإنّ المناطق الأخرى فشلت في ذلك، بل إنّ الوحوش بدأت تتدفّق نحو الشمال…
لذا، تدخّل دوق كاستراين بنفسه. تفاوض مع الإمبراطور، وحصل على سلطة مؤقّتة لتهدئة الإمبراطوريّة المضطربة وطرد الوحوش.
فجأة، اجتاحتني ذكرى مؤلمة، فنظرتُ إلى الفراغ.
في تلك الفترة، كان رايموند، الذي كان يقدّم تقارير إلى القصر، ويتعامل مع الأمور الإداريّة تحت إمرة الدوق، مشغولاً للغاية. كان يدخل القصر كثيرًا، وكانت تيتانيا تتذمّر منه لأنّه لا يزورها…
أن تتذمّر من شخص ينام ثلاث ساعات فقط في اليوم ويعمل ليل نهار، قائلة: “لماذا لا تأتي لرؤيتي؟”، كان قلّة حياء.
“لم يرسلوا الأمير بريان بمفرده، بل مع عشرين خادمًا وأكثر من ثلاثين عربة أمتعة. الإمبراطورة الاولى كليو رافقته بنفسها، رافضة أن تُلوّث يد أمير نبيل بالدماء، فاستبدلوا دماء الحيوانات بدماء الأمراء المطلوبة.”
“أم… ليس عليّ الاعتذار، لكنّني آسفة… على الرغم من ذلك، يتحدّث الكاهن كرون مع السير غريغوري أوّلاً؟”
“الجنوب مليء بالنبلاء الأثرياء، لذا فإنّ فصيل الكاهن الأعلى مارجيد كثير هنا.”
“وفي الشمال، فصيل الكاهن الأعلى إيليان هو الأكثر حضورًا؟”
“هناك… بما أنّ الناس يُقتلون كثيرًا بسبب الوحوش، فبدلاً من هراء مثل ‘فقط النبلاء المختارون يستحقّون العلاج’، هناك من يقول: ‘دعونا نحاول إنقاذ الناس الذين يموتون أوّلاً’.”
عندما يتوفّى الإمبراطور المقدّس، يصبح أحد الكهنة الأعلى الحاليين الإمبراطور المقدّس.
كان الكاهن الأعلى مارجيد، الذي دعم الإمبراطورة الاولى، قريبًا من فصيل النبلاء، بينما كان إيليا، الذي دعم عائلة كاستراين، من فصيل العامّة.
بالأحرى، كان من أنصار “علاج الجميع بغض النظر عن الطبقة، أليس هذا تعليم حاكم؟”.
“بما أنّه بجوار الحاجز وفي المعبد، فهجمات الوحوش نادرة.”
التعليقات لهذا الفصل " 55"