“ما هذا؟” قبل أن أفتح فمي، غير قادرة على تحمّل الأجواء، تحدّث رايموند بهدوء.
“سأضع في اعتبارِي رغبة صاحبة السموّ الأميرة.”
“…نعم.”
“لكن الأمور المستقبليّة تبقى للمستقبل.”
توقّفت عينا رايموند للحظة على طرف تنّورتي الممزّق بفوضويّة.
دون تردّد، سحب العباءة التي كنتُ أرتديها على كتفيّ. كانت العباءة، كما هو معتاد، زخرفيّة بحتة بلا أيّة فائدة عمليّة، لكنّني كنتُ أرتديها لأنّني دخلتُ القصر لمقابلة الإمبراطور. على الرغم من أنّني كنتُ أرتدي بالفعل <شارة غلوريانا> كوشاح قصير ملفوف حول كتفيّ، إلّا أنّه لم يهتمّ ووضع عباءته فوق كتفيّ وربطها.
شعرتُ بإحساسٍ غريب مع ثقل القماش الخشن الملفوف حول كتفيّ.
“في الوقت الحالي، صاحبة السموّ الأميرة هي خطيبتي الوحيدة.”
“…”
لم يسأل رايموند عن السيف المشبوه الملطّخ بدم ريسيانثوس الذي كنتُ أحمله، ولا عن حالة يد ريسيانثوس الممزّقة.
لم يبدِ أيّ اهتمام أو يطرح أيّ سؤال.
“لذا، حمايتكِ والقلق عليكِ ليسا تفضّلًا زائدًا. هذا ليس بسبب العائلة، بل لأنّني، كخطيب، أقوم بذلك.”
“…”
كان وجود العباءة التي لفّتني، كأنّها تحميني من أعين الآخرين، محرجًا حقًا.
نعم. لقد كان دائمًا رجلًا يجسّد الواجب.
مهما تسبّبت تيتانيا بالفوضى، كان يأتي. لم يغضب أبدًا من الكلمات القاسية التي أُلقيت عليه.
حتّى مع الهدايا التي كانت أقرب إلى الإرهاب منها إلى الهدايا، أو رسائل العنف، لم ينطق بكلمة نابية واحدة.
لكن هذا جعل تيتانيا تتصرّف بمزيدٍ من الجنون لاستنفار ردّ فعلٍ حقيقيّ منه…
أعرف جيّدًا كيف يُسمّى هذا بطريقةٍ أخرى.
إنّه تعذيب الأمل.
بالنسبة لتيتانيا، كانت عيناه الذهبيّتان كالشمس التي تشرق عند أفق الفجر أو كضوء القمر الوحيد في ليلٍ حالك.
لو أنّه لن يتحمّل المسؤوليّة، ليتّه فقط لو كان قاسيًا جدًّا.
ماذا يحدث لحشرة ليليّة تدرك أنّ القمر والشمس ليسا لها؟
هل ستغرق وهي تحاول الإمساك بظلّ القمر المنعكس على الماء؟ أم ستحترق وهي تطير نحو الشمس في منتصف النهار؟ لو أنّها لم تطمع في ضوءٍ ليس لها، لكان من الأفضل لها أن تسرق الدفء من نار موقدة عابرة.
“أوه، حسنًا.”
ابتسمتُ بطريقةٍ محايدة، فجفل الرجل مرتين كأنّه تفاجأ.
ربّما توقّع ردًّا حادًّا مثل “تفضّلكَ الزائد يثقلني” أو “ما الذي يجعلكَ تتصرّف هكذا؟”.
حسنًا، لقد عبّرتُ عن رأيي بوضوح حتّى الآن.
الآن، لا يمكنهم اتهامي بأنّ أفعالي كانت “حيلة للاستيلاء على مكان بجانب الدوق الشاب رايموند”.
“سيكون لزوجة الدوق الشاب المستقبليّة حظّ وافر.”
بدلًا من نفي كلامي، أغمض الرجل عينيه وأغلق فمه.
كان وجهه غريبًا.
* * *
كانت رائحة الزهور كثيفة لدرجة أنّها تكاد تُخنق.
كانت دار ماركيز هابيليوس تقع في ضواحي العاصمة.
كان من المعتاد أن تمتلك العائلات النبيلة العريقة منذ بداية الإمبراطوريّة قصرًا فخمًا في قلب العاصمة. مقارنةً بذلك، كان موقع قصر هابيليوس متواضعًا إلى حدٍّ ما.
على الرغم من أنّها لا تضاهي عائلة دوق كاستراين، العائلة الدوقيّة الوحيدة في الإمبراطوريّة، إلّا أنّ هابيليوس كانت واحدة من عائلات الماركيز القليلة المتبقيّة.
باستثناء عائلة ماركيز لاكرتا، التي أُبيدت بتهمة التآمر للتمرّد قبل أجيال، كانت العائلات المتبقيّة هي إنتيغريا، لاند، وهابيليوس – ثلاث عائلات فقط.
بينما أنتجت عائلة إنتيغريا الإمبراطورة وعائلة لاند الإمبراطورة الاولى، كانت عائلة هابيليوس هادئة بشكلٍ ملحوظ وبلا حضور يُذكر.
حسنًا، كانت عائلة قليلة الأفراد، ليس لديها حتّى ابنة لإرسالها إلى العائلة الإمبراطوريّة. ولم تكن عائلة غنيّة.
تقع أراضيها في أقصى جنوب الإمبراطوريّة، وبالرغم من وفرة الطعام بفضل الطقس الجيّد، لم يكن لديها منتجات خاصّة تجلب المال.
عائلة راضية بالحفاظ على مكانتها الحاليّة، تعيش بهدوء وكأنّها تكتم أنفاسها. هذه كانت صورتها الخارجيّة.
الشيء الوحيد المميّز بعض الشيء هو أنّ الحديقة التي تُدار في قصر الماركيز كانت واسعة وجميلة بشكلٍ استثنائيّ.
“أبي.”
بين الأشجار التي نبتت بطول قامة الإنسان، ابتسمت فتاة بشعر أسود كالوردة السوداء، بملامح رقيقة ومحبّبة.
“أوه، لقد جئتِ، ليليوم.”
رفع ماركيز هابيليوس، المنهمك في عمله، رأسه ليستقبل ابنته. لو رآهما أحدهم دون معرفة، لظنّهما بستانيًّا وابنته، فقد كان مظهرهما بسيطًا للغاية.
كانا يرتديان ملابس خشنة قد يرتديها عامّة الناس، ومآزر ملطّخة بالبقع، وأوشحة حول أعناقهما. لكنّ الأب وابنته بديا مرتاحين لهذا المظهر.
“قالت فريم إنّ هذه زهور السيكلامين التي أزهرت اليوم.”
سلّمت ليليوم سلّة صغيرة إلى الماركيز. في الصندوق المصنوع من القش، كانت هناك كومة من زهور السيكلامين ذات البتلات الزرقاء الداكنة.
عندما فرّقت الزهور الطازجة، ظهرت بيضة سوداء في قاع السلّة، بقشرة رقيقة جدًّا تكاد تكون شفّافة، مع شقوق دقيقة وكأنّها على وشك الانكسار.
ضيّق الماركيز عينيه كأنّه يحاول رؤية محتوى البيضة. بينما كانت الفتاة تنظر إلى البيضة التي تُظهر لمحة من لونٍ أحمر خافت، تذمّرت بصوتٍ خفيف.
كان صوتها الناقم مرحًا كجرسٍ صغير.
“بذلنا جهدًا كبيرًا، لكنّها فشلت في الإنبات.”
“يبدو أنّ هناك حدودًا للوحوش الشيطانيّة الدنيا.”
“كنتُ آمل أن تبذل جلالة الإمبراطورة الاولى كليو جهدًا هذه المرّة، لكنّ الأمور سارت هكذا، وهذا مخيّب للآمال. ظننتُ أنّنا سنحصل على مادّة جيّدة.”
تنهّدت الفتاة وسحقت بتلة زرقاء من السيكلامين، فتساقط عصير أزرق وأسود من تحت أصابعها البيضاء.
اقتربت خنفساء، لعقت عصير الزهرة، وارتجفت. تحوّل ظهرها الأزرق إلى أسود داكن في لحظة.
كيك، كياك، كييياك، بدأت الحشرة تصدر أصواتًا مختنقة، ثمّ تحوّلت إلى اللون الأسود تمامًا، ودارت حول خدّ ليليوم بنعومة.
كانت كائنات صغيرة، قد تبدو كحشرات ليليّة أو فئران أو طيور طنانة، تخفي أجسادها بين الأوراق، وتومض بعيونٍ حمراء.
ضرب الماركيز على خصره كأنّه قلق وقال:
“هذا صحيح. لو سارت الأمور على ما يرام، لما احتجنا للقلق بشأن المواد لفترة. والأسوأ أنّ عائلة دوق كاستراين بدأت فجأة في تنظيم شؤونها الداخليّة، ممّا جعل من الصعب علينا العثور على مواد جيّدة…”
“ماذا عن الدعم للورشة، أبي؟”
“آه، ذلك العجوز المجنون.”
عبس الماركيز، كأنّه تذكّر شيئًا.
“كلّ مرّة يقول نفس الشيء: ‘إذا أحضرتَ لي قريبًا مباشرًا من عائلة كاستراين، يمكنني إظهار نتائج البحث فورًا.’ لكنّنا نحن من كدنا نقع في مشكلة بسبب أمرٍ متعلّق بالتجّارة. تصرّف بلا تفكير!”
“لكنّه عبقريّ، أليس كذلك؟ قالوا إنّنا لم نكن لننجح في تحسين زهرة أرلين دونه.”
“المشكلة هي تهوّره! كان يثير ضجّة بأنّه سيشتري عبيدًا لاستخدامهم. ظننتُ أنّه يستطيع تدبّر ذلك بنفسه، لكنّه، يا للأسف، لو تركناه لكان قد تسبّب بمشكلة أخرى! قال إنّه سيختطف شخصًا لأنّه لم يجد من يعجبه.”
“من كان يفكّر فيه؟”
“ابنة عائلة كاستراين الصغرى.”
قالت ليليوم بنبرةٍ متعجّبة.
“ألم تُتبنَ؟ ظننتُ أنّها ليست من دمهم.”
“أنا أيضًا ظننتُ ذلك، لكن يبدو أنّ الأمر ليس كذلك. كان يتأسّف كثيرًا لأنّه فاته فرصة الإمساك بها. أن أرى رجلًا في عمري يبكي، يا للمهزلة.”
قلّب الماركيز لسانه.
تشيك، تشيك، صوت فأرٍ، ثمّ ظهر فأرٌ أسود من مكانٍ ما، يلعق بقايا عصير الزهرة على الأرض.
اندفعت الخنفساء التي كانت تدور حول خدّ ليليوم نحو الفأر وعضّت ذيله.
تشييييك! تردّد صوت صراخ.
نظرت الفتاة الجميلة كزهرة وردٍ ناضجة إلى المشهد بلا مبالاة وقالت:
“عندما أفكّر في الأمر، إنّه حقًا أمرٌ مؤسف. عائلة كاستراين هم الأشخاص الذين يمكن أن يصبحوا مثاليّين لو أرادوا. من المؤسف أنّهم لا يشاركوننا مثاليّاتنا.”
“نحن بستانيّون، ليليوم. نقطع الأغصان، نضع السماد، ونصطاد الحشرات من أجل جني الثمار. كيف يمكننا أن نكون مثل أولئك الذين يريدون إحراق الشجرة فقط لأنّ ثمارها سامّة؟”
“كلامكَ صحيح، أبي.”
ابتسمت ليليوم بمرح.
“لكن من يدري، ربّما لن يكون من السيّئ أن نحاول. خاصّة أنّ لدينا ذريعة جيّدة هذه المرّة.”
“نعم.”
أجابت الفتاة بهدوء. كانت سعيدة.
كانت النسائم منعشة، والحديقة اليوم أيضًا جميلة، وكان والدها لطيفًا ومجتهدًا، وزهرة السيكلامين التي قدّمتها خادمتها المخلصة كانت جميلة. كان كلّ شيء كالبركة.
بركة.
نعم. لا توجد كلمة تناسب عائلة ماركيز هابيليوس أكثر من هذه.
كان سكّان أراضي هابيليوس يقولون لبعضهم إنّ العيش في هذه الأرض هو بركة بحدّ ذاتها.
وكان ذلك صحيحًا. كانت الشمس دافئة، والمياه وفيرة، وكان المناخ معتدلًا.
كانت النباتات والثمار وفيرة، والمواشي تكتسب الوزن بسهولة.
والأهم من ذلك، لم تتعرّض الأرض لغزو الوحوش الشيطانيّة.
حتّى الأراضي المجاورة كانت تعاني من غزوات متقطّعة للوحوش الشيطانيّة الدنيا، لكن أراضي هابيليوس لم ترَ ولو وحشًا واحدًا.
بشكلٍ غير طبيعيّ.
كما لو أنّ الوحوش تهرب بعيدًا، كما تفعل الحيوانات البريّة عندما تتجنّب عشّ عدوّ طبيعيّ…
التعليقات لهذا الفصل " 50"