اختفى مشهد ساحة المعركة التي ماتت فيها والدته، وحلّ مكانه جناح الشرق المفعم بعطر سيلينا.
“زينوس، ماذا رأيتَ؟ ماذا رأيتَ بالضبط حتى تذرف كل هذه الدموع، ها؟”
“هذا….ما هذا؟ هل يمكنني أن أراه مجددًا؟ مرةً أخرى؟”
وقبل أن تتمكن سيلينا من منعه، غرس زينوس دبوس البروش بعمقٍ في إصبعه.
“توقف، زينوس. آه، توقف! أنتَ تنزف، زينوس!”
مهما حاول أن يطعن إصبعه ويمسك بالجوهرة، لم يظهر مشهد والدته الذي رآه قبل قليل.
“لقد حاولتُ أنا أيضًا عدة مرات، لكن بلا جدوى. يبدو أن الأمر لا يحدث إلا مرةً واحدة فقط.”
عندها انهار زينوس وجلس على الأرض. فسارعت سيلينا و لفّت إصبعه الجريح بمنديل.
“ماذا رأيتَ حتى إلى هذا الحد….مجرد النظر إليكَ يؤلمني. لا تتصرف بطيشٍ هكذا مرةً أخرى.”
“أعتذر. لكنني أردتُ إيقافه. أردتُ أن أعود وأكون أنا، أنا من.…”
“رينوس.”
احتضنت سيلينا زينوس.
“فلنخبر بعضنا البعض بكل ما رأيناه بصدق، حسنًا؟”
بعد أن انتهت القصة الطويلة، خيّم الصمت.
وخلال استماعها إلى قصة كريستا، بكت سيلينا بألمٍ أشد من زينوس.
“لم أتخيل أبدًا أن تكون نهاية السيدة كريستا على هذا النحو. لطالما سمعتُ فقط أنها سقطت في ساحة الحرب. هل أنتَ متأكد؟ هل حقًا ارتكب الماركيز تشيرني الحالي ذلك الفعل؟”
“رأيتُ ذلك بعينيّ الاثنتين. رأيتُ كيف قيّد أمي بالسلاسل وقتلها بوحشية!”
كانت عينا زينوس تتوهجان بالغضب، وكأن شرارةً عظيمة ستنفجر عند أدنى تماس.
وبرغم أنها شعرت بذلك الغضب على مقربةٍ شديدة، لم تفكر سيلينا في كبحه.
“جلالة الإمبراطورة حافظت على مكانتها بثباتٍ حتى الآن. لم تستطع أي زوجة إمبراطور ولا أي أمير أن يهدد موقعها. كنتُ أظن أن السبب هو وجود إيريك، ولي العهد الشرعي، لكن يبدو أن الأمر لم يكن هذا وحده.”
واصلت سيلينا الحديث محاولةً تهدئة غضب زينوس ولو قليلًا.
“زينوس، علينا أولًا أن نتحقق مما إذا كان ما رأيناه قد حدث بالفعل. لا يمكننا التسرع. أنت تعرف قوة جلالة الإمبراطور الراحل.”
“….كانت رؤى.”
الرؤى. قوةٌ تُظهر الأوهام. قد تُري أكثر ما يخشاه المرء، أو تُعيد أمامه ماضيًا مؤلمًا.
“علينا أن نتأكد أولًا مما إذا كان ما رأيناه حقيقة.”
***
“نحيّي شمس الإمبراطورية العظمى والوحيدة، جلالة الإمبراطور.”
“ارفعا رأسيكما.”
في اليوم التالي مباشرة، تلقى الكونت آرسين وسيلينا استدعاءً من الإمبراطور.
“سيلينا، أهنئكِ على فوزك في الياقوتة الحمراء. سارت الأمور تمامًا كما رسمتِها.”
شعرت سيلينا بالاختناق، لكنها كتمت ما في صدرها.
‘حتى لو قتلتني إنغريد علنًا عند إعلان نتائج الجولة النهائية، لوقف إلى جانبها.’
وبينما كانت سيلينا تبتسم ابتسامةً هادئة، فتح الإمبراطور باب الحديث.
“بما أن سمعتكِ قد ارتفعت بهذه المناسبة، فعلينا تنفيذ الأمر الذي وعدتُ به.”
جاء لوس، وكأنه كان ينتظر هذه اللحظة، حاملاً عقد ما قبل الزواج.
“كونت آرسين، اقرأه أولًا ووقّع. ما إن توافق بصفتكَ الأب، فلن يكون بمقدور سيلينا الرفض بعد ذلك.”
“هذا غير وارد، يا جلالة الإمبراطور. كيف يكون رفضًا؟”
تظاهر الكونت آرسين بقراءة العقد بعناية، بينما تولّت سيلينا قول ما كان ينبغي على والدها قوله.
“لم نفعل سوى انتظار الوقت الأنسب. والآن لا يمكن القول أن الوقت مناسب.”
“ماذا؟ إلى متى ستواصلين تأجيل الزواج بهذه الحيل السطحية؟ إن لم تقدمي سببًا واضحًا لعدم زواجكِ، فسأحاكمكِ بتهمة إهانة العائلة الإمبراطورية.”
هذه المرة، لم يتراجع الإمبراطور. كان عليه أن ينفذ ما قالته إنغريد في أسرع وقت ليعرف كيف يسيطر على القوة.
‘قالت بوضوح أنها ستخبرني بكيفية الحصول على القوة بمجرد أن تتزوج من الدوق الأكبر.’
لم يكن على الإمبراطور سوى فصل سيلينا، شريكة زينوس، عنه.
سواءً جلبها إلى القصر الإمبراطوري أو قتلها، ما دامَت سيلينا قد اختفت، فستتحرك إنغريد كما تشاء، و سيحصل هو على القوة.
‘ولابتلاع ثروة بيت الكونت آرسين، من الأفضل جلبها إلى العائلة الإمبراطورية.’
إن لم تتحرك سيلينا، فسيُحرّك الكونت آرسين بدلًا عنها.
لم يكن لدى الإمبراطور سببٌ للانتظار أكثر.
“وقّع، أيها الكونت آرسين.”
“لا، أبي.”
“أحقًا لا تدركين أن من يقف أمامكِ هو الإمبراطور؟! من أين لكِ الجرأة لتتفوهين بمثل هذا الكلام! لوس، ماذا تفعل واقفًا هناك!”
فتدخل لوس، واضعًا سيفه عند عنق الكونت آرسين ليجبره على التوقيع.
“لوس.”
“تجاهل كلام ابنتكَ ووقّع.”
تبادل الكونت آرسين النظر بين الإمبراطور ولوس، ثم أنزل رأسه،
“لا أستطيع.”
“لوس، ماذا قال الكونت آرسين الآن؟ يبدو أن سمعي قد ضعف في الآونة الأخيرة.”
“هل فقدتَ صوابكَ؟ هذا أمرٌ إمبراطوري. أفق!”
“لا، لوس. حقًا لا أستطيع التوقيع على هذه الورقة.”
ألقى الكونت آرسين القلم الملطخ بالحبر، ثم ركع فورًا أمام الإمبراطور.
“لقد قصّرت في تربية ابنتي، لذا فلتقع العقوبة عليّ وحدي.”
“كونت آرسين، لا، ديل آرسين. عليكَ أن تجيب إجابةً واضحة. ما معنى ما قلتَه للتو؟”
قبضت سيلينا على طرف فستانها بقوة، قلقةً من أن يقدم لوس على مهاجمة والدها.
‘الوقت قد حان للوصول.’
الشخص الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر لم يصل بعد. و كان عليها وعلى والدها أن يكسبا مزيدًا من الوقت مهما كلف الأمر.
“ألا تسمعني؟ اشرح فورًا! ما معنى الكلام الذي تفوهت به الآن!”
“سأشرح أنا….”
“اصمتِ أيتها الوقحة! دللتكِ أكثر من اللازم حتى لم تعودي تميزين متى تتكلمين ومتى تصمتين. كونت آرسين، أنتَ من سيتكلم. ما معنى هذا الكلام بالضبط!”
“وما عساه أن يكون معناه؟ مع وجود مرشحٍ أفضل ليكون صهرًا، لا يمكنه تسليم إبنته إلى سمو ولي العهد، هذا كل ما في الأمر.”
ما إن دوّى الصوت الذي كانت تنتظره حتى التفتت سيلينا إليه دون وعي.
دخل رجلٌ طويل القامة يرتدي درعًا، بخطواتٍ واثقة، ثم أدى التحية للإمبراطور بلياقة.
لكن الإمبراطور حدّق في زينوس الذي دخل دون إذن وراح يصرخ بأعلى صوته.
“أتجرؤ مرةً أخرى على اقتحام هذا المكان دون إذن؟ أتنوي هذه المرة أيضًا استخدام قدرتكَ المزعومة؟ حسنًا، جرّبها! اليوم لن أترك الأمر يمر أبدًا!”
“جلالتك، ماذا فعلتُ حتى تقول مثل هذا الكلام؟ قدرتي المزعومة؟ أتعني قدرتي على الانتصار في ساحات القتال؟”
و راوغ زينوس بالكلام متصنعًا البراءة.
“هذا الوغد يتجرأ….”
حادثة تنويم الإمبراطور كان لوس قد تكفل بكتمها، لذلك لم يكن كثيرون على علم بها.
وكان ازدياد عدد من يعرفون ماهية القوة التي يملكها زينوس أمرًا بالغ الخطورة على الإمبراطور، لذا لم يستطع أن يصرّح صراحةً بأنها “قدرةٌ على التنويم”.
“ألم ترسل بنفسكَ أوامر إلى بيت الدوق الأكبر تطلب حضوري إلى القصر الإمبراطوري؟ وقلتَ أنكَ ستمنحني آخر ما توصلتَ إليه من معلوماتٍ عن الشريكة، وتكافئني على النصر. عليّ أن أتسلّم ذلك سريعًا حتى أعود إلى ساحة الحرب.”
“أتعني أنك ستخرج إلى الحرب فورًا إن أمرتكَ بذلك؟”
“نعم، جلالتك. وكيف لي أن أرفض أمرًا إمبراطوريًا؟”
نظر الإمبراطور إلى زينوس الذي كان يجيب بطاعة، ثم ردّ،
“حسنًا، ماذا تريد كمكافأةٍ على النصر؟”
وحين همّ زينوس بالإجابة، أكمل الإمبراطور بسرعة.
“لكن زواجك من الآنسة آرسين غير مسموح به. سيلينا آرسين قد تقرر بالفعل زواجها من إيريك.”
رفع الإمبراطور ذقنه بتعجرف.
“باستثناء الزواج من الآنسة آرسين، تفضل، قل ما الذي تريده كمكافأة.”
“أيّ شيء سوى الزواج من الآنسة آرسين؟”
شحذ زينوس نظره وهو ينظر إلى الإمبراطور.
و أمام نية القتل العارية التي كشف عنها دون مواربة، توتر لوس بشدة وبدأ يقدّر متى يستدعي الحرس الإمبراطوري.
لكن الإمبراطور لم يتراجع قيد أنملة. بل تحدّث ساخرًا من زينوس الذي أظهر عداءه.
التعليقات لهذا الفصل " 81"