“أعتذر، لكن عليّ أن أتعامل على وجه السرعة مع شأنٍ يخص العائلة، لذا أستأذنكم اليوم هنا. سنحدد يومًا آخر لنتشارك فرحة اليوم معًا.”
ما إن انتهى حفل تسليم جائزة الفائز حتى قالت سيلينا تلك الكلمات للحاضرين، ثم أسرعت عائدةً إلى المنزل وهي تصطحب الكونت آرسين.
أولئك الذين كانوا يعلمون بما فعلته فلورا في المأدبة السابقة أومأوا برؤوسهم تفهمًا.
و كان الكونت آرسين قلقًا على فلورا وبراندون و سباستيان الموجودين في المنزل، فتبِعها دون اعتراض، لكنه ظل يسأل ابنته مرارًا داخل العربة عمّا يحدث، قلقًا من مظهرها القَلِق.
كانت سيلينا ترتجف جسدًا، تصلي وتتوسل أن يكون ذلك الماضي الذي رأته غير حقيقي.
فهي من ألحّت يومها على الذهاب إلى القصر الإمبراطوري مع والدتها.
‘إن كان ما حدث لأمي بسبب ذلك….’
كانت والدتها ضعيفة الجسد، لكنها كانت تستعيد صحتها تدريجيًا، وكان ذهابها معها إلى القصر الإمبراطوري دليلًا على تحسن حالتها.
لكن بعد ذلك اليوم، ضعفت صحتها بشكلٍ ملحوظ.
قال الناس أن ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى القصر الإمبراطوري كان اللحظة التي استنفدت فيها آخر ما تبقى لها من قوةٍ قبل الموت.
‘وإن لم يكن الأمر كذلك؟ ماذا لو كانوا قد دسّوا لها السم خفية؟’
حتى الإمبراطور نفسه كان يحتاج إلى مبررٍ ليقتل سيد أسرة أو يُفني عائلةً بأكملها، أما التخلص من كونتيسةٍ واحدة فكان أمرًا سهلًا.
“أبي، هل صحيحٌ أنه قبل وفاة أمي.…”
لم تستطع سيلينا أن تُكمل سؤالها. لأنها كانت قد رأت والدها قبل أيامٍ فقط وهو يتحدث عن فلورا، مستحضرًا والدتها بصدقٍ وحنين.
“سيلينا، ماذا تريدين أن تسألي؟ قبل وفاة أمكِ، ماذا؟”
سأل الكونت آرسين فوراً.
“كم تعرف عن وفاة أمي.…؟”
عندها قبض الكونت آرسين يده المرتجفة بقوةٍ وسأل.
“ما معنى هذا الكلام فجأة؟”
“دعنا نعود إلى المنزل أولًا ونجلس بهدوء لنتحدث. يبدو أن الحديث سيطول.”
وما إن وصلا إلى المنزل حتى همّا بالتوجه إلى مكتب سيد العائلة، لكنهما جلسا في صالون الاستقبال العائلي.
“أظن أنه من الأفضل أن نتحدث مع زوجة أبي أيضًا.”
“فلورا؟ ولماذا؟”
“ربما تكون تعرف شيئًا.”
فأحضر بين فلورا على الفور.
“أتمنى أن تكونا صريحين معي.”
“اشرحي أولًا ما الذي يحدث بهدوء، حتى نتمكن من الإجابة.”
“أبي، حين توفيت أمي….”
ترددت سيلينا قليلًا قبل أن تسأل.
“ألم تكن هناك هديةٌ أُرسلت من بيت الماركيز تشيرني؟”
***
قبل أن تطرق سيلينا باب الجناح الشرقي، فتح زينوس الباب على مصراعيه واحتضنها.
لو كان الأمر كالمعتاد لتراجعت سيلينا بخجل، لكنها اليوم شدّت ذراعيها حول خصر زينوس بقوةٍ أكبر.
“سيلينا؟”
شعر زينوس بشيءٍ غير طبيعي فأبعدها قليلًا.
“ما الذي حدث؟ لماذا تبكين هكذا؟”
ثم مسح زينوس دموع سيلينا على عجل.
“أليس اليوم يومًا سعيدًا لنا؟ لماذا أنتِ.…”
“زينوس.”
قالت سيلينا ذلك وهي تمسك بيده.
“لا أدري إن كانت هذه القوة ستعمل عليكَ أيضًا.”
وخزت سيلينا طرف إصبع زينوس بالدبوس، ثم لطّخت ذلك الدم بالميموريا. و في اللحظة نفسها، تشوه مجال رؤية زينوس.
<أأنت المالك الجديد للميموريا؟>
“لا.”
أجاب زينوس بصدق.
“أأنت من نسلي؟”
في تلك اللحظة، خطر لزينوس أن ذلك الصوت قد يكون صوت جده لأمه، الوريث الثالث.
“نعم.”
<هل هناك ذكرى ترغب في رؤيتها؟>
فتردد زينوس، لا يدري أي ذكرى ينبغي أن يطلب رؤيتها.
<وجدتُها.>
وبدأ الصوت يعرض الذكريات من تلقاء نفسه.
“أطلقوا!”
داهمه صوت من يصدر أمرًا، يتبعه صفير سهم يشق السماء.
شدّ زينوس نفسه بلا وعي، وكاد يقبض على سيفه. فقد كان المكان ساحة معركة.
“تفرقوا!”
و بدأت حجارةْ مشتعلة أطلقها سحرةٌ من السماء تتساقط.
“أترسلون مثل هذا بلا حساب؟!”
ثم ظهرت امرأةْ صغيرة البنية، وردّت الحجارة دفعةً واحدة نحو صفوف العدو.
“إنها الساحرة السوداء!”
“أمي.”
كانت كريستا، والدة زينوس، تلك التي لم يرها قط إلا في الرسومات.
لقد كانت كريستا تتحرك أمام عينيه، تستخدم قوتها، وتضحك بمرحٍ عالٍ.
“بهذه المهارة فقط ظننتم أنكم ستسقطون سيفايا؟ هذا محضُ وهم!”
فتعالت هتافات جيش سيفايا على كلمات كريستا. بينما كان جيش أوتم يتراجع دون توقف.
“ولا تفكروا مرةً أخرى حتى في تحدي جيش إمبراطوريتنا، أيها الأوغاد!”
وفي اللحظة التي استدارت فيها كريستا بعد أن راقبت تراجع جيش أوتم، انطلق سهمٌ مع صوتٍ حاد ثم توقف في الهواء.
وبينما حاولت كريستا أن ترى من أطلق السهم الذي أوقفته بشق الأنفس، التفّ حول جسدها ما يشبه السلاسل فقيّد حركتها.
“مستحيل….هل رسمتم دائرةً سحرية داخل هذا المكان؟”
كان الورثة يتمتعون بدرجةٍ من المقاومة ضد السحر.
“إن كان هذا يكفي لتقييدي، فلا بد أنه ليس سحرًا عاديًا.”
“صحيح، إنه سحرٌ أسود. عانينا كثيرًا للعثور على ساحرٍ بهذه الكفاءة، وقدمنا قرابين حيّةٍ أيضًا.”
“من أنتَ؟ أظهر نفسكَ.”
ثم ظهر الرجل وهو يزيح الغطاء عن رأسه.
“جئتُ بأمرٍ من جلالة الإمبراطور.”
“إذاً فهو الماركيز تشيرني.”
“كنتِ تعلمين أن هذه الجهة هي معسكر فرسان عائلتنا. كان عليكِ أن تأتي مستعدة.”
هزّت كريستا جسدها محاولةً الإفلات من القيود، لكن الأمر لم يكن سهلًا.
“أخي الأحمق….في النهاية اختار هذا الطريق.”
“نحن لا نفعل سوى تنفيذ إرادة جلالته، فلا تحمّلي علينا كثيرًا. سنحرص على أن تُروى قصصٌ طيبة عنكِ للأجيال القادمة. سنقول أنكِ سقطت ظلمًا على يد أوتم، وهذا سيرفع معنويات الجيش.”
“كفى.”
كان زينوس يردد في داخله أن هذا لا يمكن أن يكون حقيقيًا، ومع ذلك مدّ يده بلا وعي محاولًا الإمساك بسلاسل كريستا وتحطيمها.
لكنه لم يستطع لمسها.
‘لا.’
“من الآن فصاعدًا سنطلق هذه السهام. إنها سهام جيش أوتم المسمومة. قالوا أنهم سيتكفلون بالقضاء على الساحرة السوداء، فأرسلوا خمسة صناديق كاملة.”
رغم أن زينوس كان يهز رأسه إنكارًا، إلا أنه رأى بوضوحٍ وجوه أولئك الذين كانوا يضعون السهام على الأوتار.
“سنصوّب نحو ظهرها. سنجعل الأمر يبدو وكأن جيش أوتم وجّه الضربة القاضية حين أدارت الساحرة السوداء ظهرها بعد أن أيقنت النصر.”
“أتظن أن سهامكم يمكن أن تصيبني؟!”
“هذا ما سنعرفه بعد المحاولة، أليس كذلك؟ الجميع إلى مواقعهم، استعدوا.”
“لا تفعلوا!”
صرخ زينوس، لكن صراخه لم يجدِ نفعًا.
“أطلقوا!”
في تلك اللحظة، اندفع زينوس ليحتضن ظهر أمه المتجسدة في الرؤية.
و لم يهم إن لم يشعر بلمسها. فلم يكن قادرًا على مجرد الوقوف ومشاهدة موت أمه.
“لستُ سهلة المنال إلى هذا الحد.”
توقفت السهام الأولى كلها في الهواء ثم سقطت أرضًا. لكنهم لم ينتظروا، وانهمر وابل السهام الثاني مباشرة.
وقبل أن تتمكن من إسقاطها، تبعتها سهامٌ أخرى، ثم أخرى. وحين أصبحت السهام أسرع من قدرتها على استخدام قوتها، بدأ إيقاع إسقاطها يبطؤ.
طَخّ، ومع صوتٍ مكتوم اخترق سهمٌ خصرها.
“حتى درعي لم يسلم منكم.”
فشل الدرع في أداء وظيفته واخترقه السهم. فاندفع الدم من فم كريستا دفعةً واحدة.
“جيد، أصبناها بسهم! واصلوا الرمي!”
فأطلق زينوس نية القتل من عينيه المحتقنتين.
“سأقتلكم!”
لكن المؤسف أنه لم يستطع أن يمسك بعنق ذلك الرجل.
“واصلوا الرمي!”
وبأمر الماركيز تشيرني، انهمر وابل السهام مجددًا.
لم يعد زينوس قادرًا على الاحتمال، فصرخ وهو يتلوى ألمًا. وفي تلك اللحظة،
“زينوس.”
تلاقت عينا كريستا و زينوس لجزءٍ من الثانية.
“احمِهم.”
مع صوت فرقعةٍ متتابعة، اخترقت عدة سهامٍ درع كريستا.
“احمِ من تحب، واحمِ شعب هذه الإمبراطورية، كي لا يعيشوا في عذاب الحروب.”
“هل تتركين وصيتكِ؟”
اقترب الماركيز تشيرني بأذنه لأنه لم يسمع جيدًا، فعضّت كريستا أذنه.
“آه! أيتها الساحرة! ما زلتِ تقاومين إلى هذا الحد!”
“إن ترك أمثالكَ في عالم ابني هو ما يؤلمني.”
كان الماركيز تشيرني على وشك إصدار أمر بإطلاق المزيد من السهام، لكنه توقف.
ثم اختفت السلاسل التي كانت تطوق كريستا، وسقط جسدها على الأرض.
التعليقات لهذا الفصل " 80"