“إذًا، منذ البداية كان شرط زواجكَ من فلورا…..لا، من زوجة أبي الجديدة، هو حماية حياتي؟”
لم تستطع سيلينا استيعاب الأمر.
‘إذًا، ما ذلك العذاب كله الذي تعرّضت له.…؟’
“كنتُ أستطيع أن أتخيّل تمامًا كيف أساء فلورا وبراندون معاملتكِ في غيابي. لكنكِ في ذلك الوقت كنتِ صغيرةً جدًا لتفهمي ما كان يجري. و أمكِ رحلت عن هذا العالم مبكرًا جدًا.”
تحدّث الكونت آرسين أخيرًا عمّا كان يحتفظ به في قلبه طوال تلك السنوات.
“كانت أسرة آرسين صغيرة، لكنها أسرةٌ ذات شأن. ومع توسّع التجارة في عهدي، ازداد عدد العائلات التي دخلت في خدمتنا طمعًا بالمكاسب. وفي ذلك الوقت، خلا منصب زوجة الكونت. ولم أكن أعلم أيّ نوعٍ من الأشخاص قد يشغل ذلك المكان.”
كانت والدة سيلينا ضعيفة الجسد. تدهورت صحتها بشدةٍ بعد الولادة، ومنذ ذلك الحين وحتى بلغت سيلينا السادسة، كانت حالتها تتحسّن ثم تسوء مرارًا.
ومع ذلك، وقبيل وفاتها، بدت بصحةٍ جيدة نسبيًا. و قال الناس أن ذلك كان توهّجًا أخيرًا للحياة قبل الموت.
لم يكن من السهل على الكونت آرسين الشاب أن يربّي سيلينا وحده. ثم إن سيلينا كانت فتاة.
“لا تتصوّرين كم مرّةً سمعتُ كلامًا يطالبني بأن أتزوّج امرأةً جديدة لتنجب لي ابنًا.”
حتى قبل أن يبرد التابوت بعد الجنازة، بدأ الطامعون يدفعون ببناتهم أو أخواتهم أو قريباتهم إلى الواجهة.
“كان كلامًا قاسيًا بحقكِ، لكنني حينها أردتُ أن أترك كل شيءٍ وأهرب. فبعد أن فقدتُ المرأة التي أحببتها، لم يكن لديّ أي قدرةٍ على رعايتكِ.”
كانت تلك المرأة هي من رافقته في أصعب أيامه، حين تخلّى عن حلمه كفارس وأصبح ربًّا للتجارة.
من كانت تمنحه الشجاعة والثقة دومًا.
وفقدان شخصٍ كهذا، مع قلبٍ تائه، قاده في النهاية إلى اختيارٍ تجاوز حدود المنطق.
“مهما حدث، ستحمي حياتكِ أنتِ فقط. هذا هو الشرط الذي وضعته. لو تزوّجتُ امرأةً أخرى، شعرتُ أنني قد لا أستطيع حتى الوفاء بذلك. لقد عقدتُ صفقةً مع فلورا. لا أكثر.”
فجمعت سيلينا دهشتها وسألت بهدوء.
“وماذا عن سباستيان؟”
ارتسمت على وجه الكونت آرسين ملامح بؤسٍ عميق. فلم يكن يتوقّع أن يضطر لشرح هذا لابنته.
“كانت ليلةً واحدة فقط. مرّ أكثر من عام على زواجنا ونحن ننام في غرفٍ منفصلة، وكانت تقول أن الخدم سيحتقرونها إن علموا بذلك. لذا سمحتُ بتلك الليلة الواحدة. وهكذا وُلد سيباستيان. لم أستطع أن أطلب منها ألّا تنجبه. قلتُ لها إن أرادت فلتنجبه.”
بدأت الأشياء التي لم تفهمها سيلينا من قبل تتّضح قطعةً بعد أخرى.
‘منذ أن وُلد سباستيان بدأ الاضطهاد. قبل ذلك، كانوا يعتبرونني مجرد شوكةٍ في العين، ولم يحاولوا إيذائي حقًا.’
كان الطفل ضعيفًا. كائنًا لا يستطيع فعل شيء دون الاعتماد على أحد.
لو حدث لسيلينا مكروهٌ أثناء غياب الكونت آرسين عن المنزل، لكان اختيار الوريث سيتم تلقائيًا من أحد فروع العائلة الجانبية.
لكن بزواج الكونت من جديد، تغيّر الوضع.
عارض أفراد أسرة آرسين زواجه من فلورا بشدة، حتى إن بعضهم اقترح أن يتخذها محظيةً بدلًا من زوجة.
لكن إرادة الكونت آرسين كانت حازمة. ومع ولادة سباستيان، أصبح احتمال انتقال ثروة الأسرة إلى خارج الخطّ المباشر أقلّ من ذي قبل.
ومع تراجع عدد أولئك الذين ينظرون إلى العائلة بعين الطمع، شعر الكونت بشيءٍ من الاطمئنان.
“وجود فلورا بحد ذاته منحنا وقتًا حتى تكبري. آمل ألّا تقسي عليها أكثر من اللازم.”
لم تكن علاقةً قائمة على الحب، لكنها كانت امرأةً عاش معها عشر سنوات تحت سقف واحد كعائلة.
حتى تكبر سيلينا، وتشتدّ قوتها، وتتسلّم منصب سيدة العائلة. كان ذلك هو المخطط، لكنه امتدّ حتى اليوم.
بعد أن عرفت سيلينا ما كان والدها يخفيه، لم تعرف ماذا يجب أن تقول.
الأشخاص الذين ظنّت أنها يجب أن تطردهم بأيّ ثمن، كانوا في الحقيقة جزءًا من خطة والدها. وكانوا، من حيث لا تدري، يحمونها من الضغوط الخارجية.
“لم أكن أعلم أن نية أبي كانت كذلك. لطالما قلتَ لي أن زواجك كان بدافع الحب.”
“كنتُ أتحدّث عن أمكِ.”
قال الكونت ذلك ثم أطلق زفرةً طويلة.
“ولأنها كانت تعرف ذلك جيدًا، يبدو أنها هربت دون تردّد. لماذا غادرت المنزل فجأة؟ والأهم، كيف سنعثر عليهم؟ شخصٌ احترق موطنه بالكامل ولم يعد له أصل.”
“قلتَ أنكَ مكثتَ في قرية إتران نحو ثلاثة أيام، أليس كذلك؟ أيّ قريةٍ كانت تلك؟ وهل يمكنكَ أن تخبرني ما هو سرّ القرية الذي تحدّثت عنه زوجة أبي؟”
“أعتقد أنه يجب أن تعرفي هذا السرّ أنتِ أيضًا. فقد أصبحتِ الآن زوجة الوريث.”
“وبخصوص ذلك، لديّ أيضًا ما أودّ قوله لكَ يا أبي.”
لم تكن سيلينا قد شرحت بعد للكونت آرسين السبب الحقيقي الذي جعلها تقرّر الزواج من زينوس.
بعد عودتها بعد الزواج، كانت تنوي أن تعلن أن رفيقة وريثة العرش الحقيقية هي نفسها، لكنها على غير المتوقع لم تتمكن حتى من لقاء الكونت آرسين، بل انتهى بها الأمر محتجزةً في الجناح الشرقي.
“أنا.…”
ترددت سيلينا وهي تهمّ بالكلام ثم توقفت.
‘هناك من ظهر بوصفه الرفيق الحقيقي.’
شخصٌ يمتلك قوةً طاغية، شخص قادرٌ على إنقاذ زينوس.
هل يمكنها، بوجود شخصٍ كهذا، أن تتقدم وتعلن نفسها رفيقة؟
“سيلينا. هل تثقين بي؟”
ثم تذكرت عينَيه الحمراوين. وتذكرت دفء حرارته، ولمساته التي كانت تقترب منها بحذرٍ دائمًا خوفًا من أن تؤذيها قوته المفرطة.
“الآن فقط فهمت ما قصده جلالته، وأدركت أن اختياركما كان صائبًا. لعل هذا أيضًا قدر.”
“قدر؟”
اكتسى وجه الكونت آرسين بملامح جديّة عميقة.
“سيلينا، اسمعي جيدًا. قرية إتران هي قريةٌ تخدم التنانين. منذ زمن بعيد وهي تلتزم بالتقاليد دون إخلال، وتؤدي دور الوسيط بين عالم البشر وعالم التنانين.”
“التنانين تخرج إلى عالم البشر؟ أليست تعيش فقط في أرض التنانين؟”
“فلورا قالت ذلك. قالت أن التنانين حين تعيش في عالم البشر تتعلّم وتتهيأ في أماكن مثل قرية إتران.”
“أماكن مثل إتران؟ هل هذا يعني أن هناك قرى أخرى كهذه؟”
“قالت أن في القارة قريةً أو اثنتين من هذا النوع. فالتنانين طويلة العمر، وهي تتابع تغيّرات عالم البشر وتتعامل معها عبر تلك القرى.”
وعندما سمعت سيلينا كلام الكونت آرسين، تذكرت إنغريد.
‘قالوا أن أحدًا رآها قرب تلك القرية. فلورا كانت تعرف إنغريد، ولهذا هربت فور رؤيتها.’
وعند هذا الحد، أدركت سيلينا أن هناك ما لا يستقيم.
‘لكن حين خرجت فلورا وبراندون احترقت القرية بالكامل. لا يمكن أن يكون هناك من وُلد فيها بعد ذلك. ولو كانت إنغريد من القرية نفسها فلن يتوافق عمرها. فهي، مهما نظرتُ إليها، لا تبدو إلا في مثل سني.’
تدفقت في ذهن سيلينا كل المعلومات التي جمعتها حتى الآن، مع ما قاله لها الكونت آرسين قبل قليل.
‘هذا افتراضٌ لا يُعقل حقًا.’
هزّت رأسها ثم سألت الكونت آرسين لتتأكد.
“أبي، قلتَ أن شيخ قرية إتران وحده يستطيع أن يضع بركة التنين على التعويذة، أليس كذلك؟ لماذا كان الشيخ قادرًا على ذلك؟”
“فلورا أخبرتني بالأمر. قالت أن السبب هو أن شيخ القرية من نسل التنين.”
“من نسل التنين؟ نسل تنينٍ يعيش كبشر؟”
“قالت بدقة أنه نسل تنين وساحرة. ومع تعاقب الأجيال تلاشى دم التنين حتى لم يبقَ سوى قوةٍ تكفي لوضع البركة على التعويذة.”
التعليقات لهذا الفصل " 68"