شاهَد الكثيرون أكثر مما توقعت، حين تبِعَت إنغريد هايزل مباشرةً ولي العهد إيريك إلى الشرفة حيث ذهب ليستريح.
لايلا كانت مشغولةً بتلقي تهاني الضيوف فلم تلاحظ ذلك، لكن سيلينا التي خرجت من الصف بعد انتهاء مراسم التحية رأت بوضوحٍ إنغريد وهي تتجه إلى الشرفة.
كان واضحًا ما نوع الحديث الذي قد يدور بينهما.
‘تُرى متى سيخرجان؟ بماذا اعتذرت إنغريد هذه المرة؟ هل غلفت الأمر بقول أن والدها هو من قدّم لها الهدية؟’
لم تكن سيلينا تنوي ملاحقة إنغريد بشأن مسألة الحُلي هنا أيضًا. لكنها كانت واثقةً أن إنغريد ليست من النوع الذي سيعترف بصدقٍ بأن سيلينا هي من قدمت لها الهدية.
و تخيلت سيلينا وجه إيريك الساذج وهو يصدق بسهولة أن والد إنغريد هو صاحب الهدية، فابتسمت بمرارة.
“لِمَ تبتسمين هكذا؟”
سألها زينوس وهو يحدق بها وكأنه لا يمل من النظر إليها.
“لا شيء. لكن يا سمو الدوق، عليكَ أن تترك مسافةً بيننا. الناس ينظرون.”
زواج الاثنين كان سرًا لا يعرفه سوى قلةٌ من نبلاء فصيل الدوق. أما معظم الحاضرين فلم يعرفوا سوى شائعات سيئة عن سيلينا في المجتمع الراقي.
“هل حقًا لم يحدث شيءٌ بينكما في تلك الجبهة العسكرية التي قالوا أنكِ طاردته إليها؟”
“أظن أن الآنسة آرسن….لا تبدو مناسبةً لسمو الدوق.”
عند سماع هذا، ازداد قلق نبلاء فصيل الدوق الذين يعرفون الحقيقة أكثر من سيلينا نفسها.
‘ألن يؤدي هذا إلى تشويه سمعة الدوقة التي بالكاد بدأت تتحسن؟’
تبادلوا النظرات ثم بدأوا بالدفاع عن سيلينا.
“أنتم تقولون هذا لأنكم لا تعرفون الآنسة آرسين جيدًا. لم نرَ يومًا أي شخصٍ يعرفها ويتحدث عنها بسوء. لقد رأيتم الآنسة أندرسون قبل قليل، أليس كذلك؟ ألم تروا مدى متانة علاقتهما؟”
“صحيح، كما أننا حتى لا نعلم أصل تلك الشائعة السيئة. لا بد أنها مجرد سوء فهم.”
وفجأة انطلقت موسيقى الفالس.
“يبدو أن رقصة ولي العهد الأولى مع ابنة الماركيز أندرسون قد بدأت.”
“ماذا؟ لكن ابنة الماركيز ذهبت لتوها لتبديل ثوبها بعد انتهاء التحيات.”
“ربما انتهت من التزيين أسرع من المتوقع. لنذهب إلى مكانٍ نستطيع رؤية المنصة منه.”
تجمع الناس أمام المنصة المخصصة للرقصة الأولى. و الموسيقى عُزفت، لكن لم يظهر أحد.
وبينما خيمت الحيرة، دخل رجلٌ وامرأة يرقصان من جانب القاعة نحو وسط المنصة.
“تلك.…”
“لا يمكن….كيف حدث هذا.…”
الرجل الذي أمسك بيد إنغريد ووضع يده حول خصرها بقوة وظهر معها على المنصة هو….إيريك.
لم يهتم بصدمة الحاضرين، فكل نظره كان ثابتًا على عيني إنغريد الزرقاوين.
‘جلالة الإمبراطورة ستصرخ غضبًا مجددًا….أشعر وكأن صراخها يصل إلى هنا.’
هزت سيلينا رأسها وهي ترى إيريك يتسبب في كارثةٍ جديدة.
وفكرت بأن على الجميع توخي الحذر، فمهارة إنغريد في التلاعب أفضل مما توقعت.
وكان هناك شخصٌ آخر بقي فمه مفتوحًا من الصدمة حين رأى إنغريد.
“كيـ….كيف تكون هي هناك؟ هي.…”
تعثرت فلورا وهي تكاد لا تستطيع التنفس، فأمسكت بذراع براندون وسألته.
“من….من هذه الراقصة؟”
“أمي، ألا تتذكرين؟ قلتُ سابقًا أن هناك فتاة يجب مساعدتها لتصبح الإمبراطورة القادمة. إنها عشيقة ولي العهد غير الرسمية، الآنسة إنغريد هايزل. الابنة الثالثة لأسرة هايزل البارونية.”
‘مستحيل….كيف تكون تلك الفتاة ابنة بارون؟ لا….هذا خطأ.’
تماسكت فلورا بالكاد وتحدّثت،
“لنذهب حالًا. إلى المنزل. يجب أن نعود فورًا.”
ولم يستطع براندون الذي فقد تركيزه أن يعترض، فصعد إلى العربة وهو يُسحب من يد أمه المرتجفة.
أما خطتها العظيمة لتشويه صورة سيلينا أمام الجميع وتحويلها مجددًا إلى “الشريرة سيلينا”، فقد تبخرت تمامًا.
***
“من الذي يفعل ماذا؟”
“يُقال أن صاحب السمو ولي العهد — الشمس الصغير — يرقص الآن الرقصة الأولى اليوم مع الآنسة إنغريد هايزل.”
وجه لايلا ظل ثابتًا وهادئًا، بينما مربيتها انفجرت غيظًا وهي تعصر المنديل بيديها وتخطو بانفعال.
“ألا يكفي ما يفعله؟ مهما كان الشمس الصغير، لا يحق له هذا!”
“مُربّيتي، إن سمعكِ أحدٌ سيكون هذا مزعجًا. توقفي.”
كانت لايلا تبدو غير مبالية حقًا. وما دام الأمر كذلك، لم يكن باستطاعة المربية الصراخ أكثر، فاكتفت بالغضب المكبوت.
‘ربما هذا أفضل في الحقيقة؟’
هي لم تكن تطمح كثيرًا لمنصب ولية العهد.
لكن الجميع — والداها، صديقاتها، أقاربها — قالوا أن هذا المقعد هو مكانها الطبيعي، فظنت أنه كذلك.
لكن لقاءها الحقيقي مع ولي العهد كان مخيبًا. فهو سخيف، لا يسمع الكلام، ويتصرف بشكلٍ أرعن كما يفعل الآن.
‘لكن…..يجب أن يكون لكل شيء حدود. كيف يجرؤ على سرقة دور المضيفة في حفل عائلتنا؟ ثم ماذا ستفعل إنغريد هايزل بعد هذا؟’
كان إيريك هو وليّ العهد الوحيد لإمبراطورية سفايا. مهما ارتكب من حماقات، فالعائلة الإمبراطورية ستتولى إصلاح الأمر، ولن ينال أي عقابٍ يُذكر.
لكن إنغريد هايزل لم تكن كذلك.
هي الابنة الثالثة لعائلة بارونية متواضعة، ليست وريثة، ولا تملك سوى محاولة التشبث برجل واحد لتشق طريقها بالكاد داخل المجتمع الراقي.
ولم تتجاوز مكانتها هذا الحد.
‘يا ترى، هل ستتمكن إنغريد هايزل من عدم الندم على ما فعلته اليوم؟’
فسألت لايلا مربيتها بعد لحظة تفكير،
“متى قيل أن تلك الفتاة ظهرت لأول مرة في المجتمع؟”
“قبل ثلاث سنوات.”
“ومتى تقربت إلى سموّه؟”
“يبدو أن الأمر مضى عليه عامان.”
“إذاً هي لا تعرف بعد ما هو هذا المجتمع. لا تعرف أن الناس هنا ليسوا عامة شعب، بل نبلاء من عائلاتٍ عريقة.”
وقفت لايلا بعدما أنهت تزيينها، فسارعت خادمتان لتعديل ثوبها.
“إن كانت لا تعلم، فعلينا أن نُعلّمها.”
***
سيلينا كانت قلقةً على بايلا. فهذا هو يوم تقديمها للمجتمع، أول وآخر مرةٍ في حياتها.
وأن تُسلب منها الرقصة الأولى مع شريكها الرسمي يعني أن يُستخف بها لسنواتٍ في المجتمع الراقي.
‘بما أنها ابنة الماركيز أندرسون، فلن يجرؤ أحدٌ على مقاطعتها علنًا….لكن مع ذلك.…’
أن تُسرق الرقصة الأولى في حفل أُقيم في منزلهم نفسه؟ لا توجد فضيحةٌ أكبر من هذه.
سيلينا شعرت بأن إنغريد دمّرت مستقبل لايلا الاجتماعي تمامًا، ولم يعجبها هذا إطلاقًا.
وربما لهذا السبب شعرت بأن العقد المعلّق حول عنقها أصبح أثقل فجأة.
‘لماذا….لماذا يلمع هكذا؟’
كانت سيلينا تحمل في كيس جلدي حول عنقها “دليل الزواج” وخاتم الزواج اللذين حصلت عليهما من أرض التنانين.
والآن، كان ذلك الدليل يومض بالضوء، يسطع ثم يخبو، مرارًا.
‘أ….ألا يراه أحدٌ غيري؟’
ضغطت بيدها على الكيس تحت ثيابها خوفًا أن يراه أحد، لكن الحاضرين كانوا منشغلين بالتحديق بضيقٍ نحو الزوجين اللذين يحتلان منصة الرقصة.
“سيلينا، ما الأمر؟ هل حصل شيء؟”
و يبدو أن حتى زينوس، الواقف إلى جانبها، لم يكن يرى الضوء.
‘متى يسطع؟ ومتى يختفي؟ كيف لا يراه أحدٌ سواي؟ ما معنى هذا؟’
وحين حدقت فيه قليلًا، اتسعت عيناها فجأة.
‘إنغريد….كلما اقتربت إنغريد يزداد الضوء سطوعًا.’
في كل مرة كانت إنغريد تقترب منها خلال دورانها مع إيريك، كان الدليل يزداد لمعانًا. وكلما ابتعدت، خفت الضوء.
حتى بعد أن اختبرت الأمر بنفسها، تبين أن السبب ليس إيريك….بل إنغريد وحدها.
‘ما معنى هذا؟’
وما إن بدأت سيلينا تتحرك قليلًا حتى اقترب زينوس بقلق، محاولًا فهم تصرفها.
“سيلينا، هل أنتِ بخـ….آه!”
و فور أن أمسك بيدها وسأل إن كانت بخير، أصاب رأسيهما صداعٌ شديد كأنه سيشطر جمجمتيهما،
ثم لمع مشهدٌ واحد أمامهما.
<علينا أن نجدها. لأنها الحقيقية.>
كان المشهد في ذلك الغابة الخضراء الوارفة.
الصوت ذاته الذي سمعته في أرض التنانين—ليس صوتًا بشريًا، بل كأنه صوتٌ يحمله الهواء—ترك تلك الكلمات.
لم يتبقَ من الذكرى سوى ذلك المشهد الوحيد، مصحوبًا بصداعٍ طاعن.
التعليقات لهذا الفصل " 45"