“يا للهول، يبدو أنكم لم تسمعوا بعد، لقد قرّرت جلالة الإمبراطورة إحياء ذلك التقليد الذي كان قد اندثر في الماضي.”
“تقصدين أيّ تقليد.…؟”
“تلك المسابقة العريقة التي يتحدّى فيها كل من تُعدّ زهرة للمجتمع الراقي.”
“الـ”الياقوتة الحمراء”؟”
سألت سيدةٌ نبيلة في سنّ متقدمة بدهشة.
“نعم، الـ”الياقوتة الحمراء”، يُقال أنها ستُقام من جديد بدءًا من هذه الدورة، وستبدأ في سيفايا حرب الزهور من جديد.”
“لكن تلك المسابقة كانت قد حُرّمت سابقًا على يد الأميرة كريستا.….”
تردّدت السيدة النبيلة متسائلةً عمّا إذا كان في هذا الأمر مخالفةً لإرادة الوريثة.
لكن كونتيسة سوليدو، مقرّبةٌ من جلالة الإمبراطورة، والتي كانت أول من فتح الحديث عن هذا الموضوع، واصلت الشرح وكأن الأمر لا يستحق القلق.
“كان ذلك لأن ضحيةً سقطت في الدورة السابقة، إذ إنّ إحدى النبيلات كانت تعاني أصلًا من مرضٍ نفسي، وبعد أن أُقصيت من المسابقة اتخذت قرارًا مؤسفًا في سنّ مبكرة، ولهذا السبب تقرّر هذه المرة اختيار نبيلاتٍ سليمات نفسيًا فقط كمرشحات، مع تغيير نظام المنافسة قليلًا.”
“إذاً مجرّد المشاركة في المسابقة سيُعدّ شرفًا عظيمًا بحد ذاته.”
“بالضبط، يخططن هذه المرة لتشديد عملية اختيار المشاركات من الأساس، حقًا حين تتدخل جلالة الإمبراطورة يكون كل شيءٍ مختلفًا.”
وهكذا استطاعت كونتيسة سوليدو، باعتبارها من خاصّة الإمبراطورة، أن تنشر في حفلة الشاي اليوم أيضًا الإشاعات التي أمرتها جلالتها بنشرها.
***
وفي منزل الكونت آرسين، كان صوت نحيب فلورا يدوّي اليوم أيضًا.
“جلالتك، لا يمكنكَ أن تفعل هذا بنا، جلالتك، كيف تُنزِل عقوبةً مروّعةً كهذه بنائب سيد أسرةٍ واحدة؟ ماذا فعل ابني ليستحق كل هذا، جلالتك؟”
كان براندون يجد بكاء فلورا الصاخب وهي تنتحب مزعجًا إلى حد لا يُطاق.
وفي النهاية، وهو ممدّدٌ يتأوّه، رفع رأسه،
“أمي، إن كنتِ ستبكين فابكي في الخارج، فحتى لو بكيتِ هنا سيلينا لن تسمعكِ، وكل ما يحدث أن أذني تُصاب بالألم!”
“يا بني، ألا تعلم كم يتألّم قلبي الآن؟ يا إلهي، منذ دخلتَ هذا البيت ربّيتكَ بلا خدشٍ واحد، فإذا بكَ تعود وظهرك مغطى بالدماء، أيُعقل هذا؟”
“لقد خلعتُ القميص الملطّخ بالدماء منذ وقتٍ طويل، وأنا أضع الدواء جيدًا الآن، بدل هذا العويل اذهبي وعرقلي سيلينا، فهي التي استولت مجددًا على منصب نائبة سيد الأسرة، واتّخذتُ من مرضي عذرًا لذلك!”
قال براندون ذلك بنبرة مظلومة.
‘في الحقيقة، جلالة الإمبراطور أمر سيلينا بأن تصبح نائبة سيد الأسرة وتمثّل عائلة آرسين في الـ”الياوقوتة الحمراء”، لكن أمي تجهل هذا.’
تألّم ظهر براندون فزمّ شفتيه وهو يفكّر.
‘الإمبراطور كذلك لن يعلم إن كنتُ أطيع هذا الأمر في البيت أم لا، أليس كافيًا أن تُرسل سيلينا إلى الفعاليات الخارجية فقط؟ أما في المنزل فيمكنني أن أظلّ نائب سيد الأسرة كما كنتُ من قبل.’
فلورا، التي لم تكن تعلم شيئًا عن الأمر الإمبراطوري، انتفضت واقفةً عند سماعها كلام براندون،
“حسنًا، سأذهب أنا وأمنع تلك السيلينا من ذلك، وسأجعلهم يعيدون لكَ منصب نائب سيد الأسرة.”
“نعم، أمي، أرجوكِ افعلي.”
‘لا يمكننا أن نسمح لتلك السيلينا بأن تنتزع ما هو لنا.’
وبهذه الفكرة في رأسها، خرجت فلورا وهي تدقّ الأرض بقدميها غضبًا. عندها فقط شعر براندون أنه سيتمكن من الراحة، فأعاد دفن وجهه في الوسادة.
لكن سرعان ما اشتدّ لهيب ظهره، فاستدعى خادمةً لتهتم بجراحه وأمرها بأن تعيد وضع الدواء حتى لا تلتهب.
وما إن أتت الخادمة ذات الملامح الجميلة وراحت تمسح ظهره بعناية لبضع لحظات، حتى اقتربت يد براندون بنظرةٍ مشتعلة بالرغبة.
“لا….لا يجوز هذا، يا سيّدي الشاب.”
وهربت الخادمة على عجل ورأسها منكّس، بينما ظلّ براندون يلعن جسده الذي لا يستطيع حتى مطاردتها، ثم دفن رأسه من جديد في الوسادة.
‘متى ما صرتُ نائب سيد الأسرة من جديد، ستأتي مثل هذه الخادمات لإغرائي أولًا، وليس هذا فحسب، بل سأستطيع أن أتزوج فتاةً من عائلةٍ مرموقة أيضًا، فلأصبر قليلًا بعد، قليلًا فقط، يكفي أن أُزيح سيلينا من طريقي.’
***
في اليوم التالي لعودتها من القصر الإمبراطوري، دخلت سيلينا مكتب سيد الأسرة ومسحت بهدوء سطح مكتب والدها بيدها.
ثم استدعت كبير الخدم المكلّف بالمكتب وأمرت،
“ابدأوا بتهوية هذه الغرفة من جديد، وامنعوا أيّ شخصٍ من دخول هذا المكتب غير سيد الأسرة ونائب سيد الأسرة، أنت تعلم أنني منذ يوم أمس عدتُ إلى منصبي كنائبة سيد الأسرة بأمر من جلالة الإمبراطور، أليس كذلك؟”
كان ذلك تأكيدًا على إعادة ترسيخ خريطة النفوذ داخل قصر آرسين في الأذهان.
كما كان يعني أيضًا أن الخدم الذين تراخت انضباطيتهم خلال الأسبوعين اللذين تصرّف فيهما فلورا وبراندون وكأن القصر ملكٌ لهما بعد غياب الكونت، لا ينبغي أن يبقوا في القصر.
“نعم، آنستي، لا، سأنفّذ أوامر نائبة سيد الأسرة.”
وحين سمعت سيلينا هذا الجواب، ارتسمت على شفتيها ابتسامة رضا.
وأثناء إعادة ترتيب المكتب، خرجت سيلينا إلى حديقة المبنى الرئيسي لتتعرّض لأشعة الشمس وتستنشق الهواء الطلق بعد طول غياب.
ثم ذهبت بنفسها إلى الجناح الشرقي، وكتبت في مكتبها ما ستطلبه من زينوس، وتركته على حافة النافذة حيث كانت كاشي تضع الرسائل عادة، ثم جمعت حاجياتها البسيطة وعادت إلى المبنى الرئيسي.
بعد أن نقلت سيلينا أمتعتها إلى غرفة المبنى الرئيسي، باشرت على الفور مباشرةً مهامها كنائبة سيد الأسرة بشكلٍ جاد.
أما فلورا التي جاءت وهي تغلي غضبًا لإثارة الفوضى، فلم تتمكن حتى من رؤية سيلينا وهي تصدر في مكتبها تعليماتٍ تتعلق بإدارة التجارة وأوامر تخص شؤون العائلة.
ومهما صرخت فلورا وانهالت بأقذر الشتائم، لم تؤلم سوى آذان الخدم الذين كانوا يوقفونها كآلات، بينما لم يصل إلى سيلينا حتى ظلّ فلورا.
***
[أرجو أن تُعلَن نية اختيار الدوقة الكبرى من بين المشاركات في تصفيات “الياقوتة الحمراء” هذه المرة، كما أرجو إحكام من الأشخاص الذين تولّوا حراستنا كتمان خبر زواجنا أنا وسموّه.]
أطلق زينوس زفرةً عميقة وهو يقرأ رسالة سيلينا.
‘طلبتُ منها أن تعتمد علي، فإذا بها تطلب مني مثل هذا الطلب، ماذا عساي أن أفعل بكِ؟’
كان زينوس قد نقل عبر كاشي إليها أنها لا ينبغي أن تتحمّل كل الأعباء وحدها، وأن بإمكانها أن تعتمد على زوجها كذلك.
أما فيليب، الذي كان إلى جانبه، فقد اسودّ وجهه هو الآخر.
‘إحياء “الياقوتة الحمراء” خطوةٌ عبقرية بحق، فلا أحد في المجتمع الراقي سيجرؤ على وصم الفائزة فيه بالشريرة، ولكن المنافسة داخل المسابقة ليست سهلةً أيضًا، وقد سمعتُ أنهم سيفرضون قيودًا هذه المرة على المشاركة؟’
وبعد لحظة تفكير، ضرب فيليب كفّه على ركبته فجأة.
“كما توقعت، زوجة ابني ذكيةٌ حقًا.”
ثم أخذ فيليب يشرح الوضع لزينوس الذي بدا عليه الارتباك بمزيدٍ من التفصيل.
“في الأصل، كانت “الياقوتة الحمراء” مسابقةٌ يمكن لأي نبيلة غير متزوجة ظهرت في المجتمع الراقي أن تشارك فيها.”
“ومع ذلك لا يتم اختيار سوى فائزةٍ واحدة؟”
“وهذا يعني أن الفائزة تكون محلّ اعتراف الجميع، إلى درجة أن حتى كثرة المنافسات يكتفين بالإيماء موافقة، آخر من فازت بـ”الياقوتة الحمراء ” كانت والدتكَ.”
“أمي كانت….”
“نعم، لكنها هذه المرة ستكون مختلفة، فالمغزى الذي من أجله ألغت والدتكَ هذه المسابقة كان واضحًا، ولا يمكن إحياؤها مع تشويهه.”
“وكيف ستختلف؟”
ابتسم فيليب وهو يبدو فخورًا بسيلينا،
“سيُطلب من كل عائلة أن ترسل ممثلةً واحدة فقط عنها.”
“واحدةٌ فقط؟”
“بمجرد أن تصبح مُشاركة، سيكون قد أُعترف بها كممثلةٍ رسمية لعائلتها، وهذا بحد ذاته شرفٌ عظيم، صحيحٌ أن بعض النبيلات قد يطمعن في الفوز، لكن خيبة الأمل بعد الإقصاء لن تكون كبيرة، وسيتكوّن بين ممثلات العائلات نوعٌ من شبكة العلاقات، وسيكون المكان أقرب إلى ساحة تواصل اجتماعي لبنات الأسر الكبرى أكثر منه ساحة منافسة.”
فهم زينوس مقصد سيلينا وأومأ برأسه موافقًا.
“بالفعل فكرةٌ مبدعة، وسيلينا بما أنها الابنة الشرعية الوحيدة لبيت الكونت آرسين، ستشارك بطبيعة الحال دون أي منافسة داخل العائلة.”
“في الوقت الحالي لنتحرك حسب ما قالت سيلينا، لا بد أن لزوجة ابني خطةٌ أخرى في ذهنها، وسأستعين فورًا بقوة بيوت عائلتنا لنشر خبر أنه سيتم اختيار الدوقة الكبرى من بين المشاركات في هذه الدورة.”
ثم غادر فيليب لينفّذ ذلك بنفسه. لكن تعابير الضيق لم تفارق وجه رينوس.
‘انتظار الأمور هكذا ليس من طبعي.’
استنشق بعمق عبير سيلينا العالق بالرسالة، ثم انتظر حلول الليل وتوجّه بعدها إلى قصر الكونت.
التعليقات لهذا الفصل " 36"