كان براندون يفرك ذراعه التي أُبعدت بفضل لوس وهو يصرّ على أسنانه ويهمس لسيلينا وحدها،
“أنتِ، حين نعود، سترين.”
‘ما زال لا يفهم وضعه بعد.’
سخرت سيلينا في سرّها وهي تضحك باستخفاف.
ثم كما تفعل عند التعامل مع زبائن الرابطة التجارية، ابتسمت وتوجّهت إلى الإمبراطور بالحديث،
“جلالتك، بسبب ظروفٍ شخصية لم أتمكّن من زيارة القصر طوال هذه المدة، وبعد طول انقطاعٍ أتلقى نداء جلالتك فأحضر إلى قاعة المثول، فلا يسعني إلا أن أشعر بعظيم الشرف.”
“نعم، وأنتِ تعلمين سبب ذلك حتى دون أن أضطر لذكره صراحة.”
عردّت سيلينا بنبرةٍ يشوبها شيء من الظلم وهي تنظر إلى الإمبراطور الجالس على العرش يحدّق بها ببرود،
“جلالتك، أليس من الواجب أن تستمع إلى جانبي من القصة في ذلك الأمر؟ لقد كنتُ أنوي أن أشرح منذ ذلك اليوم.”
“كان عليكِ فقط أن توقّعي كما أمرتُكِ بدل أن تتذرعي بهذا وذاك.…”
وحين رأى الإمبراطور براندون يقف فارغ النظرات إلى جانب سيلينا، أغلق فمه. فقد كاد يبوح دون قصد كيف أن زينوس وسيلينا جعلاه كدمية قش ثم هربا.
‘أهذا الأحمق يقف هنا بلا أي إحساس بالموقف؟ هل آمر لوس أن يخرجه؟’
لكن سيلينا لم تأبه بذلك وشرعت فيما أعدّته من كلام.
“جلالتك، كان لديّ سببٌ يمنعني من الجرأة على التوقيع على ذلك العقد، والذنب الأكبر يقع عليّ لأنني لم أُحسن الإبلاغ في حينه، لم أكن أعرف فقط كيف ينبغي لي أن أعبّر عن ذلك.”
كان الإمبراطور ينتقي كلماته لأنه لا يعلم إلى أي حد يدرك براندون حقيقة هذا الوضع.
وبما أنه يعلم أن براندون وفلورا بارعان في اختلاق الإشاعات ونشرها لدرجة تشويه سيلينا وجعلها شريرة، لم يكن أمامه إلا الحذر.
‘إلى أي حد يعرف هذا الوغد؟ يبدو أنه لا يعلم أن الكونت آرسين وسيلينا شريكان، فذلك على الأقل لا يعرفه، أم أنه قد يكون حقق في الأمر وحده؟ طوال هذه المدة كان هذا العامي لا يفعل شيئًا في القصر سوى الأكل بنهم كالخنزير، لذا يصعب تقدير ما يعرفه، لا تقل لي أن هذا أيضًا جزءٌ من الخطة؟ هل كان يمدح زينوس أمامي وهو عالمٌ بكل شيء؟’
وحين حدّق الإمبراطور في براندون بنظرة ارتياب، تكلّمت سيلينا بكلمةٍ واحدة.
“جلالتك، أعلم أن العيون كثيرةٌ من حولنا، لكن بحكم موقعي الحالي لا أستطيع أن أُخرج نائب سيد الأسرة المؤقت.”
وعلى كلماتها، صوّب براندون إليها نظرةً كأنه سيقتلها بعينيه.
“منذ قليل لويتِ ذراعي أمام جلالته، والآن ماذا؟”
فنقر الإمبراطور بلسانه في داخله.
‘إنها تطلب علنًا أن يُعاد إليها منصب نائبة سيد الأسرة، تُرى ماذا ستفعل إن لم أستجب؟’
وكأنه يتحدّاها ردّ الإمبراطور،
“حسنًا، بما أن براندون هو نائب سيد أسرة الكونت آرسين حاليًا فله كامل الأحقية في الوجود هنا، فالمسألة التي سنناقشها الآن هي شأنٌ مصيري للأسرة لم نستطع حسمه في المرة الماضية.”
وعندما سارت الأمور في الاتجاه الذي تريده، ارتسمت على وجه سيلينا ابتسامة رضا،
“صحيح، يجب أن أشرح السبب الذي منعني من التوقيع على عقد الخطوبة مع سمو ولي العهد إيريك الذي تفضّل جلالتك بإصداره بنفسه.”
عند تلك الكلمات شهق براندون زافرًا أنفاسه.
‘عقد خطوبة؟ كان هناك شيءٌ كهذا أصلًا؟ إذاً هذا يعني أن سيلينا ستصبح ولية عهد؟ إذاً ما تنصّتت عليه أمي في ذلك الوقت كان صحيحًا؟ العائلة الإمبراطورية والدوقية اختارتها؟’
وحين تبيّن أن الأمر الذي استحال في نظره ممكنٌ بالفعل حقيقة، أصيب براندون بالاضطراب، لكنه سرعان ما استوعب الموقف.
‘هل ستصبح أسرة الكونت آرسين الآن ملكي حقًا؟’
وكان واضحًا في عيني سيلينا ما الذي يدور في رأس براندون. فنقرت بلسانها في سرّها وتابعت حديثها دون أن تلقي عليه حتى نظرة.
“أولًا، بما أنني ابنة أسرة الكُونت، فلا يمكنني أن أسبق الشابة الأخرى التي ستصبح جلالة الإمبراطورة مستقبلًا في كتابة عقد الخطوبة.”
“ذلك سأُدبّره بنفسي مع تلك الشابة، عليكِ فقط أن تدخلي العائلة الإمبراطورية قبلها بقليلٍ لتتعلّمي الأصول وتساندي إيريك، لا أكثر.”
“نعم، كنت واثقةً أن جلالتك ستُحسن تدبير مثل هذه الأمور، ولكن يا جلالتك، هناك مسألةٌ كبرى أخرى لا يمكن حلّها في الوقت الراهن.”
“وما هي؟”
“خلال هذه الفترة…..وللأسف، تورّطتُ في إشاعاتٍ خطيرة إلى حد أنني لم أعد أجرؤ على رفع وجهي بين الناس، وقد عانيتُ منها أشد المعاناة.”
“همم، أنا على علمٍ تام بتلك المسألة، لكنني أعلم أن الإشاعات ليست حقيقية، ألم أرَ بعيني كيف نشأتِ منذ صغركِ؟”
قال الإمبراطور ذلك متظاهرًا بالبراءة، رغم أنه كان من ساهم في تضخيم الإشاعات التي أطلقها براندون وفلورا.
أما سيلينا، فرغم علمها بكل شيء، لم تُظهر ذلك وتابعت ما أعدّته من كلام.
“وحين لم يتم كبح الإشاعات في وقتها، صار هناك من يناديني الآن بـ’الشريرة سيلينا’، فكيف سأدخل إلى العائلة الإمبراطورية وأنا بهذه السمعة القذرة؟ ماذا سيظن شعب الإمبراطورية حينها بالعائلة الإمبراطورية؟ لم أستطع أن أجرؤ على تحميلهم هذا العار!”
ورفعت سيلينا رأسها، وإذا بدموعٍ كحبات اللؤلؤ تنساب قطرةً بعد قطرة على وجنتيها.
وكان براندون ينظر إلى سيلينا التي تمثّل بكل ما أوتيت من قوة إلى جانبه، وفمه مفتوحٌ على مصراعيه كما لو أن فكه قد سقط.
‘ما الذي يفعله هذا الآن؟’
لم يستطع أن يغلق فمه وهو يرى وجه سيلينا الباكي لأول مرة في حياته.
حتى عندما كان الخدم يضايقونها ويسبّونها سرًا خشية أن يُبلغوا الكونت آرسين، لم يتغيّر ما كانت تُظهره سيلينا لبراندون قيد أنملة.
ذلك التعبير المميّز الذي يسخر وكأنها تقول “مثلكَ لا يستطيع أن يؤذيني”، وكان قد أقسم أن يرى ذلك الوجه وهو يبكي مهما كلّف الأمر.
لكن صدمة رؤيته دموع سيلينا عن قرب كانت أعظم مما تخيّل.
‘هـ….هي تبكي؟ الآن؟ ولماذا أصلًا؟ هل تبكي لأنها تريد دخول العائلة الإمبراطورية ولا تستطيع بسبب سوء سمعتها؟ أهذا سببٌ يدعو للبكاء؟’
كاد رأسه يفرغ من كل شيء، لكن براندون تمسّك بوعيه وحاول التفكير.
‘المهم الآن أن تدخل هي القصر الإمبراطوري، فهذا أفضل لي، وبذلك أستطيع أن أرث العائلة، آه، لا يهم، بما أننا أمام الإمبراطور فلنركع ونتوسّل أولًا.’
وفي تلك الأثناء، كان الإمبراطور ينظر إلى سيلينا المبلّلة بالدموع ويتذكّر امرأةً كان قد صادفها في القصر قبل زمن طويل.
‘أرى ملامح زوجة الكونت آرسين السابقة فيها، يبدو أن ذلك الدم لا يضيع سدى.’
في تلك اللحظة شقّ صوت براندون أفكار الإمبراطور.
“جلالتك، على الرغم من أن سمعتها قد تضرّرت، فإن سيلينا هي الابنة الشرعية الوحيدة لأسرة الكونت آرسين، أرجوكَ، مراعاةً للصداقة التي كانت بينكَ وبين والدي، تفضّل بالقبول بأن تكون سيلينا زوجةً لسمو ولي العهد، أتوسّل إليكَ بهذا بإخلاص.”
قال براندون ذلك دون أن يدرك مدى وقاحته في ما فعل.
‘يقولون أن الجهل يولّد الجرأة، وها هو مثالٌ حي، يجرؤ على إبداء رأيه أمام جلالة الإمبراطور فيما لم يُسأل عنه، بل ويقترح أحد أفراد عائلته زوجةً لولي العهد؟ إنه يستحق أن يُقطع رأسه في الحال.’
قبض لوس على قبضته بقوة.
كانت إمبراطورية سيفايا تميّز بوضوح بين الأبناء الشرعيين وغير الشرعيين بين طبقة النبلاء.
حتى أبناء النبلاء غير الشرعيين لم يكن يُسمح لهم بالكلام أولًا أمام الإمبراطور.
وإن كان من يحمل نصف دم نبيل يُعامل هكذا أمام الإمبراطور، فكيف بمن وُلد أصلًا من عامة الشعب مثل براندون؟
سخرت سيلينا في سرّها.
‘كما توقّعت منكَ تمامًا، لو لم أتدخّل بنفسي، وبهذا التصرّف، لكان رأسكَ قد طار مرارًا، كفاكَ شرفًا أنكَ صمدت أمام جلالته ثلاثة أيام.’
ومع ذلك، وبما أنه فردٌ من العائلة، لم يكن بوسعها أن تترك براندون يُعدم بسبب قلة أدبه أمام الإمبراطور.
“جلالتك، إن نقص آداب نائب سيد الأسرة المؤقت أدّى إلى إساءته لجلالتكَ، أرجو منكَ التكرّم بالعفو عنه.”
مسحت سيلينا وجهها المبتل بالدموع بمنديلها، ثم انحنت بأدبٍ كامل.
فقطّب الإمبراطور جبينه وأشار إلى سيلينا بيده،
“ارفعي رأسكِ، أما براندون، نائب سيد أسرة الكونت آرسين المؤقت، فاسحبوا منه منصبه في الحال، واقتادوه خارجًا، وأنزلوا به عشر جلدات.”
لم يستطع براندون حتى أن ينطق بعبارة “جلالتك، أرجو العفو”، إذ جاءت أيدي الخدم من حيث لا يدري وسحبته بعيدًا بلا حول.
‘استعدتُ واحدًا مما سُلب مني، وأنزلتُ ببراندون عقابًا بسيطًا، من قال له أن ينشر عني تلك الشائعات؟ حسنًا، فلننتقل إلى الهدف التالي.’
وبينما كان رأسها مطأطأً، أنهت سيلينا حساباتها بهدوء.
التعليقات لهذا الفصل " 34"