حتى عندما تزوّجت من الكونت آرسين بحسن حظها، لم تشعر بسعادة تضاهي هذه.
“كل هذا أصبح ملكنا.”
كان قلبها يخفق كلما قلّبت دفاتر الحسابات يوميًا.
اليوم من هنا، وغدًا من هناك، وكلما أحصت قطعةً من الممتلكات كانت تسمع في أذنيها رنّة عملاتٍ ذهبية تتصادم، وكأن عينيها قد تحوّلتا إلى علامة المال.
ولم تكتفِ بذلك، بل صارت تدخل مكتب سيد العائلة، الذي لم يكن يُسمح بدخوله طوال تلك المدة إلا لسيلينا و الكونت آرسين، ثلاث مراتٍ يوميًا، وتتلذذ بانتشار رائحة عطرها فيه.
‘نعم، كان ينبغي أن نعيش هكذا منذ زمنٍ بعيد، أن نحبس تلك الفتاة على هذا النحو وننعم نحن بكل هذا ونتباهى به. الآن فقط أشعر أن صدري قد انشرح فعلًا.’
وفي هذا اليوم أيضًا، بينما كانت فلورا تطوف أرجاء القصر لتفقد الأصول، سمعت أن براندون قد عاد من القصر الإمبراطوري، فهرعت إليه بفرح.
“يا ابني!”
وردّ براندون وهو يندفع إليها بوجهٍ ازداد إشراقًا كإشراق فلورا نفسها.
“أمي! لو سمعتِ ما حدث اليوم في القصر الإمبراطوري لدهشتِ حقًا.”
“لا داعي للاستعجال، هل تناولتَ العشاء؟”
“أمي، ألستِ قد أكلتِ بعد؟ أنا أكلتُ بالفعل، فقد أنعم عليّ جلالة الإمبراطور بعشاء من القصر الإمبراطوري نفسه.”
“ماذا؟ إذن أكلتَ وحدكَ مع الإمبراطور؟”
“للأسف كان جلالته مشغولًا جدًا فلم يتمكن من تناول العشاء معي. فالإمبراطورية واسعة، وجلالة الإمبراطور لديه الكثير ليتولى أمره، لذلك قال أن علينا أن نتناول العشاء كلٌّ على حدة.”
وبعد أن بدا عليه شيءٌ من الخيبة للحظة، استجمع براندون نفسه وتابع بصوتٍ مشرق كأن الأمر لا يهمه.
“وقال لي أن آتي إلى القصر الإمبراطوري غدًا أيضًا، وأن نتحدث مطولًا عن كل ما لم نتحدث عنه.”
فتحدّثت فلورا، مندهشة،
“ماذا؟ غدًا أيضًا؟ هل دعاكَ جلالته حقًا؟ بنفسه؟”
حينما لم يمضِ وقتٌ طويل على دخول الأم والابن إلى بيت الكونت آرسين، كان براندون قد زار القصر الإمبراطوري عدة مراتٍ برفقة سيلينا.
طفلٌ عاش يختبئ ويترقب في قرية ريفية، يذهب إلى القصر الإمبراطوري ويلتقي بجلالة الإمبراطور ويلعب مع ولي العهد.
كان مجرد تخيل ذلك كافيًا ليملأ صدر فلورا بالفخر. لكن براندون كان يعود من القصر الإمبراطوري باكيًا بحرقة ويقول لفلورا، “سُموّ ولي العهد لا يكلّمني حتى، يحتقرني لأنني من العامة ولا يلعب إلا مع سيلينا. لا أريد أن أذهب مرة أخرى!”
كانت تهدئه قائلةً إن هذا ليس هزيمةً أمام سيلينا، و أن ولي العهد فقط لا يعرفه جيدًا بعد، وأجبرته على الذهاب عدة مراتٍ أخرى، لكن بلا جدوى.
وفي النهاية، لم يعد يدخل القصر الإمبراطوري بعد ذلك سوى سيلينا وحدها.
ولهذا كان منظر ابنها اليوم، وهو يثرثر بوجه ملؤه الابتسامة عن أنواع أطباق مأدبة القصر وأيها كان ألذّها، مختلفًا تمامًا عمّا مضى.
فتأثرت فلورا حتى الدموع.
‘أن يتلقى ابني دعوة من الإمبراطور، ما إن صار نائب سيد العائلة حتى جاء مثل هذا اليوم. لقد وجد مكانه أخيرًا.’
وكان براندون إلى جانبها لا يدري أنها تمسح دموعها، بل لم يكن يتحدث إلا عن مدى روعة قاعة المثول بين يدي الإمبراطور.
***
“حتى آداب الطعام كانت فوضى.”
قال الإمبراطور ذلك وهو يدير قليلًا كأس الويسكي بيده.
الإمبراطور الذي يُقدّس النسب حتى نخاع عظامه ما كان ليجلس على مائدةٍ واحدة مع براندون، مهما صار نائباً لسيد عائلة آرسين.
كان قد راقب سرًا سلوك براندون أمام مأدبة القصر للحظة، ثم غادر عابسًا.
“لن يكون قد بدّد ممتلكاتنا كلها قبل أن تدخل إلينا، أليس كذلك؟”
“لم تُرصد بعد أي آثارٌ لتبذير المال، ولا توجد تحركاتٌ للاستثمار سرًا بعيدًا عن الخدم. وعائلة آرسين ليست سهلة، فحتى لو وصل العامّي إلى ذلك المنصب، فإن هناك قراراتٍ كثيرة لا يستطيع اتخاذها بسهولة، وسيحتاج وقتًا قبل أن يتمكن من تهريب الأموال.”
فهزّ الإمبراطور رأسه موافقًا على كلام لوس.
“صحيح، ثم رأيته قبل قليل يتعامل مع زينوس كأنه بطل، بل وامتدحه بلا خوفٍ أمامي.”
“لا تغضب يا جلالتك، فالعامة لا يعرفون من يكون الدوق الأكبر على الحقيقة، ولذلك يثرثرون بغير وعي.”
“وكيف لواحدٍ من أمثاله أن يكون نائب سيد عائلة آرسين أصلًا!”
ومع نبرة غضب الإمبراطور، أومأ لوس برأسه،
“يبدو أنه من الصواب إعادته إلى مكانه الحقيقي في أقرب وقتٍ ممكن.”
“لا بدّ من ذلك. لكن الأمر يغيظني حقًا. كيف تجرؤ سيلينا على رفض التوقيع أمامي ثم تستخدم القوة لتهرب؟ أيمكن أن أُعيد لمن هي مثلها منصب نائبة سيد العائلة؟”
“لكن ذاك…..أليس عامّيًا؟ إنه منصبٌ لا يليق بعامّيٍ أصلًا.”
الإمبراطور، الذي يضع نقاء الدم في المقام الأول فوق كل شيء، لم يُعارض كلام لوس.
وإذ قرأ لوس ما في نفس الإمبراطور، تابع،
“لقد آن الأوان ليعرف ذاك مكانه الحقيقي. كما أن إعادة منصب نائبة سيد العائلة إلى الآنسة آرسين ستمنحنا مبررًا واضحًا لاحقًا إن جلبنا الشركة التجارية على أنها مهر.”
وهذا الكلام وافق عليه الإمبراطور كذلك.
فلو أن شخصًا طُرد من منصب نائبة سيد العائلة ولم يكن بوسعه حتى لمس الشركة التجارية، ثم جلبها لاحقًا على أنها مهر، لانتشرت الأقاويل بأن الإمبراطور قد طمع فيها.
كان الإمبراطور قد لطّخ يديه بدماء عددٍ لا يُحصى من إخوته حين اعتلى هذا العرش، ولهذا صار الآن أكثر من أي وقت مضى يقدّس “المبرر”.
فبالمبرر فقط يمكنه إقناع النبلاء. والنبلاء لم يكونوا جماعةً ساذجة.
ولكي ينال دعمهم، كان على الإمبراطور، مهما بلغت سطوته، أن يُؤجِّل رغباته أحيانًا.
وكان الأمر أشدّ وطأةً في هذا الوقت الذي انقسم فيه النبلاء بين معسكر الدوق الأكبر ومعسكر الإمبراطور بدل أن يتوحدوا.
‘لو أن تلك القوة كانت لي فقط.’
كان الإمبراطور يؤمن أنه لو امتلك قوة التنين، فإن الجميع سيركعون أمامه.
ومع تراكم هذه الأفكار، ازدادت سيلينا في نظره إغاظةً وبغضًا.
كيف تجرؤ على مخالفة أمر الإمبراطور، وتقرر الزواج من الدوق الأكبر وتهرب معه؟
لقد منحها فرصةً لا تحلم بها حتى أعظم العائلات الوضيعة، فرصةُ أن تكون زوجة ولي العهد.
لكنها بدل أن تعرف قيمة ذلك، اختارت الهرب، ولهذا بدا له أن حياة الحبس التي تعيشها الآن تليق بها تمامًا.
“في النهاية، أليست هذه شؤون أسرة غيري؟ ليس من اللائق أن أتدخل أكثر مما ينبغي وأُملي الأوامر يمينًا ويسارًا. فلنراقب الأمر قليلًا بعد.”
وبما أن هذا كان رأي الإمبراطور، لم يعد لدى لوس ما يقوله.
‘يبدو أن الوقت لم يحن بعد. يا دايل، ابنتكَ ستواصل المعاناة قليلًا أكثر.’
و لم يفعل لوس سوى أن خفض رأسه وأطاع إرادة الإمبراطور.
“ماذا؟”
وبعد يومين فقط، ندم الإمبراطور على ما قاله.
تحطّم كأسٌ ذهبي كانت قد قُدِّمت حديثًا من شركة الكونت آرسين التجارية، وارتطم بالأرض مُحدِثًا صوتًا مدويًا.
“في أي وقتٍ نحن الآن حتى يجرؤوا على هذا؟ إن كانت مُعاقَبةً ومحبوسةً بسبب عائلتها، أفلا تعرف كيف تلزم حدّها؟ ها! ماذا فعلت أيضاً؟”
لم يتوقف الإمبراطور عن إطلاق الشتائم.
“أهكذا نشأت سيلينا، لا تعرف معنى الخزي والحياء؟ وهل كنتُ أنا من جعل فتاةً كهذه صديقةً لإيريك حتى اليوم؟ ماذا علّم الكونت آرسين ابنته بالضبط؟”
“بما أن الشائعات السيئة قد انتشرت إلى أقصى حد، فيبدو أنهم لم يعودوا يكترثون بنظرات الناس.”
“مهما يكن، ألهذا الحد؟ ألا يعرفون كم عدد العيون التي تراقبهم الآن؟ أليس هذا وكأن سيلينا تقول لي صراحة: ‘تفضّل وأبِد عائلتنا عن بكرة أبيها’؟”
لوس لم يجرؤ حتى على محاولة تهدئة الإمبراطور الذي كان يثور بسبب التقرير الذي رفعه له.
[إحدى وصيفات سيلينا خرجت من قصر الدوق الأكبر وتسلّقت سور قصر آرسين. و توجهت إلى الجناح الشرقي حيث تُحتجز سيلينا آرسين وقدمت لها هدية. وسط عددٍ كبير من الشهود. و الوصيفة عادت بعد ذلك إلى قصر الدوق الأكبر.]
لم يكن هناك سبيلٌ لتليين مضمون التقرير الذي تلقاه من المرؤوس المكلّف بمراقبة سيلينا.
“تكرار مثل هذه الأمور ليس في صالحنا. إذا علم الناس بأن الدوق الأكبر و الآنسه آرسين على هذا القدر من القرب، فإن إحضارها إلى القصر الإمبراطوري قد يصبح سُمًّا بدل أن يكون فائدة.”
“أعرف، وهل يجهل أحدٌ هذا؟”
لم يستطع الإمبراطور كبح جماح غضبه، فضرب مسندي الكرسي بقبضته مراتٍ عدة.
و انتظر لوس حتى هدأ الإمبراطور قليلًا، ثم تحدّث بهدوء،
“ألا يوجد…..حل؟”
ومن دون أن يُخفي عضلات وجنتيه المرتعشتين من الغضب، صرّ الإمبراطور على أسنانه وأصدر أمره،
“اذهبوا وأخرجوها.”
____________________
اظن ذي خطة ويل وكاشي مدري وش اسمها؟ عشان تطلع سيلينا✨
التعليقات لهذا الفصل " 31"