حين رأى الكونت آرسين أفراد عائلة باتيل يخرجون بوجوهٍ مقطّبة وكأنهم مضغوا شيئًا مرًّا، شعر في داخله ببعض الارتياح.
لكن القلق ساوره في الوقت نفسه، فالتفت إلى ابنته وسأل،
“سيلينا، كيف تنوين حلّ ما وعدتِ بحله؟ لا، إن كان لديكِ حلٌ سريع كهذا، لماذا لم تستخدميه منذ البداية؟ سمعتكِ الآن بالفعل..…”
“لم تعد تُطاق، نعم، لا تُطاق على الإطلاق.”
ما إن غادر الناس حتى ظهرت فلورا ومعها ولداها.
‘لا بد أنها افترضت أنني تلقيت صفعةً كبيرة، فجاءت مع براندون وسيباستيان لتشهد ذلك. واضحٌ جدًا.’
وقفت سيلينا خلف فلورا وهي تنظر إلى براندون الذي رفع زاوية شفتيه شماتة.
طوله الفارع الذي لم يعد يُذكّر بطفولته القصيرة، مظهره الوسيم نسبيًا رغم أنه لا يشبه الكونت آرسين…..كل ذلك يدل على أن والد براندون الراحل كان أيضًا من فئة الرجال الوسيمين.
‘لو كان يعرف كيف يكتفي بما لديه…..’
لو اكتفيا ـ هو وأمه ـ بالعرفان للبيت الذي آواهما وعاشا فيه بهدوء، لما اضطرت سيلينا إلى اتخاذ قرار بإبعادهما يومًا ما.
وحين ابتسمت سيلينا بهدوء، تجمّد وجه فلورا. و لم يدرك براندون ذلك، فدفع يد أمه التي كانت تمنعه وتقدم للأمام،
“سيدي الكونت، بل…..أبي. الآن بعد أن فسدت علاقتنا مع عائلة باتيل، يجب أن نشك في كفاءة الوكيلة التي تدير شؤون العائلة.”
“أظن أن الحكم بذلك ما يزال مبكرًا بعض الشيء.”
صرخ براندون وهو يحدق في سيلينا بنظرةٍ تكاد تقتل،
“من يسمح لعار العائلة بأن يتدخل، ها؟ ما زلتِ تظنين نفسكِ وكيلة هذه العائلة؟”
“يا أخي.”
كانت سيلينا دائمًا تتجنب استفزاز براندون أمام الجميع. وأحيانًا، مثل الآن، كانت تناديه بلقب “أخي” عمدًا.
وكانت تعلم جيدًا كم يكره ذلك، لذا كانت تتعمد قوله أمام الجميع.
وبينما كان ينظر إليها بتقزز، أكملت سيلينا،
“قبل أن تقلق بشأن زواجي، عليكَ القلق بشأن زواجكَ أولًا. فحسب العمر، أليس من الطبيعي أن تكون خطبتكَ أنت قبل خطبتي؟ عليكَ أن تبحث جيدًا عن عائلة مناسبة ترتبط بعائلتنا لسنواتٍ طويلة.”
وراءهما، مزّقت فلورا منديلها بين أصابعها.
‘هذه الوضيعة..…!’
كل ما قالته سيلينا كان صحيحًا. فعمر براندون تسعة عشر عامًا، أي أكبر من سيلينا بسنتين.
ومنذ الرابعة عشرة، كانت سيلينا مخطوبةً بحسب رغبة العائلة، بينما هو ما يزال بلا خطيبة، وهو أمرٌ غير معتاد حتى بين نبلاء سيفايا.
وطبعًا، لم يكن يُعد زوجًا مناسبًا في نظر أي عائلة نبيلة. حتى فلورا —التي كانت مجرد فتاة من العامة وارتقت بزواجها من نبيل ثري— كانت تُحتقر في مجتمع النبلاء، مما جعل براندون يبتعد عنهم جميعًا.
ولأنه لم يحضر أي مناسبةٍ اجتماعية، لم تُتح لأي فتاة نبيلة فرصةٌ لرؤية مظهره والإعجاب به.
لهذا كانت فلورا وبراندون يطمعان في منصب وكيل العائلة. فهما مقتنعان أنه إن أصبحت سيلينا هي الوكيلة قبل أن يصبح سباستيان —الابن الوحيد الحقيقي للكونت—سيد العائلة، فسيتم طردهما يومًا ما.
فسباستيان صاحب دم العائلة، بينما هما يفقدان الحق في البقاء فور وفاة الكونت آرسين.
وبرغم أن فلورا تعلم أنها بلا أي شرعية، كانت تأمل أن يصبح براندون وكيلًا للعائلة، وأن يتزوج من عائلة قوية ليكسب حق البقاء قرب سباستيان ويساعده في الوصول لمنصب سيد العائلة.
أما براندون فكان يصدق ببلاهة أنه هو من يستحق أن يصبح سيد العائلة. فهو الابن الأكبر المسجّل رسميًا في شجرة العائلة، حتى وإن دخل البيت بزواج أمه.
“بالفعل، بما أن براندون أصبح كبيرًا، علينا التفكير بخطبةٍ مناسبة له.”
التفت الكونت آرسين إلى فلورا بملامح محرجة. فردّت بسرعة،
“سيدي الكونت، براندون يفضّل العلاقات الحرة. وسنجلب لكَ قريبًا شريكةً مناسبة، فلا تقلق.”
‘نواياكم واضحةٌ جداً.’
سخرت سيلينا في داخلها.
‘كل ما تريدونه هو منصب الوكالة. سيظل بلا زواج حتى يموت وحيدًا.’
“لكن بما أن علاقتنا مع عائلة باتيل انهارت، لا بد لأحدٍ أن يتحمل المسؤولية.”
قالت فلورا ذلك وهي تحدق في سيلينا بكره. فأكمل الكونت آرسين،
“بما أنكِ زوجة هذا البيت، يجب أن تعلمي. نعم، لقد انفصلت سيلينا اليوم عن عائلة باتيل. لكنّها وعدت بخطوبةٍ جديدة تفيد العائلة، وأن تعيد سمعتها خلال ثلاثة أشهر. فلنثق بها وننتظر.”
عجزت فلورا عن الرد، وبقيت تعصر منديلها فقط.
‘كيف ستصلح سمعتها خلال ثلاثة أشهر؟ لو كان ذلك ممكنًا، أكنتُ أعيش مذلولةً في المجتمع كل هذا الوقت؟’
هدأت نفسها بصعوبة، مقتنعةً بأن سيلينا ستفشل في النهاية.
***
“ما الذي وصلنا؟”
“لقد وصل خطابٌ إلى السيد.”
حتى زينوس، الذي كان برفقة الدوق في مكتب العمل، حدّق بدهشة وكأنه يجد صعوبةً في تصديق ما سمعه.
فالجميع يعلم أن قصر الدوق في العاصمة غالبًا ما يكون خاليًا، وهذا يجعل وصول الرسائل إليه أمرًا نادرًا.
“مَن هو المرسِل؟”
“كم مرةً قلت لكَ أن تحرق كل رسالةٍ تأتي من القصر الإمبراطوري!”
“سيدي، نحن نستعمل الرسائل الإمبراطورية كحطبٍ جيد بالفعل. أما رسالة اليوم، فهما اثنتان. إحداهما من سموّ أميرة فورون، أما الأخرى فهي….”
“والأخرى؟”
“هي….من الآنسة سيلينا…..من بيت الكونت آرسين.….”
لم يُكمل الخادم كلماته، إذ أفلت الرسالة على الطاولة وفرّ مسرعًا إلى خلف الباب، هاربًا من الرجلين الضخمين اللذين كادا ينقضان عليه.
“قيل لي أن أُوصلها إلى السيد شخصيًا، فاقرأها بنفسكَ!”
لم يُعر أحدٌ انتباهًا لكلمات الخادم التي ارتفعت من خلف الباب، أما زينوس فكان ينظر إلى الرسالة بعينين يملؤهما التأثر.
“أبي.”
“زينوس، يبدو أن قلب المرأة لا يمكن فهمه أبدًا. ألم تقل أنها رفضت عرض زواجكَ حينها وأبدت كرهًا واضحًا؟”
ظلّ زينوس صامتًا وهو يحدّق في الرسالة فوق الطاولة، ثم رفعها بحذر واستنشق رائحتها.
“نعم…..هي نفسها. ما زالت رائحتها—ولو خفيفةً—عالقةً هنا. يبدو أنها كتبتها بيدها.”
فردّ فيليب بفرح وهو يرى ابنه يستنشق الرائحة مرةً أخرى بحذر.
“لعلها قد وقعت في حبكَ من النظرة الأولى أيضًا، بما أنها قدركَ. جيد…..الآن أستطيع أن أتنفس الصعداء.”
كلما فكّر في احتمال أن يموت ابنه الوحيد صغيرًا لأنه لم يرتبط بقرينته، كان يشعر وكأن شيئًا يغلي في صدره.
أي قوةٍ تلك التي تُسمّى قوة التنانين؟ أهي قوةٌ يُفترض به أن يخسر بسببها زوجته وطفله؟
بالنسبة لفيليب، الذي كان حلمه الأوحد هو حماية عائلته والعيش من أجلها، لم يكن في الدنيا ما هو أقسى من ذلك.
‘حبيبتي كريستا…..يبدو أن طفلنا سيتمكن أخيرًا من أن يعيش بسلام.’
وفيما كان فيليب يرمش بعينيه وقد بللتهما الدموع من شدّة التأثر، كان زينوس يشقّ الظرف بعنايةٍ بسكين الرسائل، ثم فتح الرسالة.
[إلى الدوق زينوس مينيرفا يوستيا المحترم]
بمجرد أن قرأ السطر الأول المكتوب بخطٍ منظم، زفر زينوس بصوتٍ خافت، ثم وضع الرسالة برفق ليلتقط أنفاسه.
“ما بالكَ يا بني؟”
“حتى خط يدها جميلٌ للغاية…..لدرجة أن أنفاسي انقطعت لحظة.”
هزّ فيليب رأسه بهدوء وهو يرى حال ابنه.
‘صحيح…..لقد شعرتُ بمثل ما يشعر به الآن عندما تلقيت أول رسالةٍ من كريستا.’
وبعد لحظات، بدأت حدقتا زينوس ترتجفان وكأن زلزالاً ضربهما. فتساءل فيليب وقد أثار الأمر فضوله،
“هل لي أن أرى الرسالة للحظة؟”
“أرجو منكَ أن ترتدي القفازات قبل لمسها.”
ومع هذا الطلب المهذّب، ارتدى فيليب قفازيه ببطءٍ ثم فتح الرسالة بعناية.
وبينما كان ينظر تارةً إلى الرسالة وتارةً إلى زينوس، وقد اتسعت عيناه، سأله زينوس،
“إذاً لم أكن مخطئًا في القراءة، صحيح؟”
“نعم يا بني.”
[أتمنى ألا تكون قد تفاجأتَ كثيرًا برسالتي المفاجئة.
إن كان وقتكَ يسمح، يشرفني أن أستقبلكَ غدًا في تمام الثالثة مساءً في مقهى «تييِن» الذي أديره.]
“إذاً…..إنها تطلب لقاءكَ غدًا.”
________________________
ياعمري هو كل ذاه عشان رساله😭😭😭😭😭😭 يجننن طايع على راسه بقوه
التعليقات لهذا الفصل " 10"