استمتعوا
“هاهاهاهاها!”
ضحكة كاثرين الصاخبة ملأت أرجاء الغرفة.
“ذلك الوجه الغبي!”
تمدّدت على السرير،
تهزّ ساقيها من شدّة الضحك وكأنها على وشك الجنون.
“هل رأيت، إكليبت؟“
“نعم.”
“كل هذا بفضلك.”
نهضت كاثرين فجأة من السرير وحدّقت بإكليبت،
وكانت ابتسامة رضا ترتسم على شفتيها.
“لكن…”
بدت الحيرة على وجه كاثرين الذي كان يبتسم طوال الوقت.
“ما الذي تريده مني؟“
“أنا؟“
قهقه إكليبت ساخرًا، وكأن السؤال لا يستحق الرد.
لم يكن من الممكن أن يرغب بشيء من بشر تافهين.
كل ما في الأمر أنه يبحث عن المتعة…
وأراد أن يُذوّق رويري، ذلك الوغد، طعم اليأس حين يدرك أن لا شيء يمكن استعادته حتى لو عاد به الزمن.
يا له من أمر ممتع لو كرّر الماضي ذاته مرارًا.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة،
وكأنّ الفكرة وحدها تدعو للضحك.
“كاثرين!”
وقبل أن تجيب كاثرين، فُتح باب غرفتها فجأة.
تجمّدت ملامح كاثرين التي كانت تضحك قبل قليل،
لكنها سرعان ما استدارت بابتسامة ساخرة.
“يا له من تصرّف وقح.”
“وقاحة؟“
تقدّمت آيسيل نحوها بخطى واسعة.
“الوقاحة هي أن تجرؤي على تسميم ضيفي،
تلك هي الوقاحة الحقيقية.”
همست آيسيل بصوت منخفض كزمجرة وحش،
وكانت نظراتها حادة وكأنها ستنقضّ على كاثرين في أي لحظة.
“ما الذي تهذين به؟ السم من أطعمها كان أنتِ يا أختي.”
“توقّفي عن هذا التمثيل السخيف، كاثرين.”
اختفت الابتسامة الساخرة عن شفتي كاثرين إثر كلمات آيسيل القاسية.
“أتظنين أنني أرغب في أداء هذا التمثيل؟ مع فتاة وضيعة مثلك؟“
صرّت آيسيل على أسنانها.
كلمة ‘وضيعة‘ اصبحت تثير اشمئزازها كلما سمعتها من كاثرين.
والحقيقة أن من سيُطرد قريبًا من هذا القصر ليست الابنة الشرعية آيسيل، بل الابنة غير الشرعية كاثرين.
هزّت آيسيل رأسها ببرود، وقالت بنبرة قاطعة:
“الخادمة التي لعبت دورك.”
ارتجفت كتفا كاثرين فجأة.
“لقد اعترفت لي بكل شيء، ايتها الحمقاء.”
انقلبت الموازين.
والآن من كانت تبتسم هي آيسيل، لا كاثرين.
“سمعت أن الدوقة قد وصلت، وأنا ذاهبة إليها الآن.”
“ماذا…؟!”
تذبذبت عينا كاثرين البنفسجيتان.
الوضيعات! لم يستطعن كتمان السر حتى هذه اللحظة؟!
شهقت كاثرين نفسًا عنيفًا، وبدأت تتمتم بخوف:
“انـ، انتظري لحظة فقط…”
“إلى اللقاء.”
قالتها آيسيل بابتسامة مشرقة وخرجت من الغرفة،
بينما بقيت كاثرين تحدق في الباب الفارغ بعينين مشوّشتين،
ثم بلعت ريقها الجاف.
ماذا عليّ أن أفعل…؟!
بدأ عقل كاثرين يعمل بسرعة،
لكن مهما فكّرت، فإن وجود شاهدة يجعل قلب الموازين مستحيلًا.
“إكليبت!”
وفي النهاية، لم تجد إلا إكليبت.
خرج إكليبت من الظلال مجددًا بعدما اختفى إثر دخول آيسيل.
يا لها من فتاة مزعجة،
لكن لا يمكن التخلّي عنها ما دامت ذات فائدة.
“سأحاول إيقافها.”
قال ذلك قبل أن يختفي وسط دخان أسود، وقد برزت أنيابه الحادة.
***
“أمي، لقد وجدت الشاهدة! أ…!”
“مرحبًا بعودتك، انستي.”
التقت آيسيل التي دخلت الغرفة مع سيرينا،
بسيرينا التي كانت تستعد للخروج.
اقتربت آيسيل من الدوقة بخجل وهي تلقي نظرة قلقة على وجهها.
“أنا آسفة، سموكِ. كان خطأي أن دعوت الأمير…”
لم تستطع رفع رأسها.
فرغم أن الفتى تناول الترياق،
إلا أنه كان قد فقد الوعي بسبب السم.
ومن الصعب توقّع أنها ستحصل على المغفرة.
لقد جاء إلى هذا القصر بدعوة منها،
وتعرّض لأمر ما كان يجب أن يمرّ به.
انخفضت كتفا آيسيل، وبدت على وشك البكاء.
اقتربت سيرينا منها بوجه جاد.
أغمضت آيسيل عينيها بشدة،
مستعدّة لتلقي صفعة إن قررت الدوقة أن تعاقبها.
لكن، ما فعلته الدوقة لم يكن متوقعًا على الإطلاق.
“سموكِ…؟“
“لا بد أن الأمر كان صعبًا عليك.”
ضمّت سيرينا آيسيل إلى صدرها.
اتسعت عينا آيسيل دهشة، لم تكن تتوقع شيئًا كهذا.
لقد كان ماضي هذه الفتاة مأساويًا، لا يمكن وصفه إلا بالقسوة.
فُرض عليها العيش كظل في رفوف الكتب مثل شجرة ذابلة،
دون أن تعرف أنها ابنة دوقة، رغم ولادتها كنبيلة.
وفي النهاية، ماتت بيد والدها.
أرادت سيرينا أن تمنح قلبها الجريح القليل من الدفء،
حتى لو بلمسة.
“لا تقلقي. قال الطبيب إن سوير سيستفيق خلال يوم أو يومين.
لا حاجة لأن تشعري بالذنب، انستي.”
كانت بعمر ابنها.
ظنّت دائمًا أن سوير عانى الكثير رغم صغر سنّه.
لكن، مقارنة بآيسيل؟ لم يكن شيئًا يُذكر.
“سموكِ…”
قالتها آيسيل بصوت متهدّج وهي تتشبّث بحضن سيرينا.
“لكن، لا يمكنني التغاضي عمّا حدث.”
“نعم؟“
“إن كنتِ تشعرين بالذنب، فهناك طلب أودّ منكِ تحقيقه.”
“طلب؟“
أمالت آيسيل رأسها باستغراب،
فقالت سيرينا بنبرة دافئة، وبشيء من الدعابة:
“عيشي سعيدة.”
قالتها بكل صدق،
وهي تمرر يدها برفق على خصلات آيسيل البلاتينية.
“كوني، أسعد من أي أحد آخر.”
لم تستطع آيسيل الرد فورًا، بل أطبقت شفتيها بقوة.
كان حلقها مختنقًا، ولم تستطع إخراج صوت.
أومأت ديانا برأسها خلف سيرينا وهي تنظر إلى آيسيل.
وفي النهاية، انهمرت دموع آيسيل.
منذ عودتها بالزمن، لم تسترح يومًا.
كانت خائفة من أن يعود الماضي المروع إذا توقفت،
أو إن لم تتطور.
كان هدفها النهائي هو الانتقام.
الانتقام من أليشيا وكاثرين اللتين جعلتاها خادمة وعذّبتاها،
ومن كاليبسو الذي قتلها ووالدتها.
لم تفكر يومًا بما قد يأتي بعد ذلك.
لكن كلمات سيرينا جعلت صدرها يمتلئ بمشاعر لم تعرفها من قبل.
ارتمت آيسيل في حضن ديانا وهي تبكي، ثم
سألت بصوت مرتجف:
“أمي… هل حقًا… يمكنني أن أكون سعيدة؟“
“…طبعًا، بالتأكيد.”
ردّت ديانا بصعوبة، تكتم شهقاتها.
ظلّت آيسيل تنتحب في حضنها،
كأن كل الآلام التي كتمتها طوال حياتها انفجرت دفعة واحدة.
كانت ديانا تحتضنها بقوة،
متألمة من أن هذه الطفلة تعلّمت كتمان البكاء في سنّ مبكرة.
حتى سيرينا التي كانت تراقب المشهد أخرجت منديلها لتمسح دموعها.
كانت تحدّق فيهن بعينيها الذهبيتين اللامعتين،
وتدعو من أعماق قلبها بأن تكون الأيام القادمة لهؤلاء اللاتي واجهن مآسي لا توصف، مليئة بالضياء والهناء.
***
“فهمت…”
قالت آيسيل بعد رحيل سيرينا،
حين أخبرتها ديانا بتفاصيل ما دار بينهما.
كان القرار هو تأجيل معاقبة كاثرين.
كما أوضحت آيسيل كيف تمكّنت من العثور على الشاهدة،
وكيف حصلت كاثرين على السم.
فقالت ديانا بوجه عابس:
“يبدو أن لديها حقًا من يعاونها.”
“معاون؟“
لم ترد ديانا أن تخيف آيسيل،
لذا لم تخبرها عن وجود كيان شيطاني خلف كاثرين.
تردّدت قليلًا، ثم أكملت حديثها.
“السبب الذي يجعل كاثرين قادرة على استخدام السحر… هو أن هناك شيطانًا بجانبها.”
“شيطان، إذًا…”
شعرت بالقشعريرة تسري في جسدها.
لقد كانت تتساءل مؤخرًا عن غرابة ملامح كاثرين،
فهل كان ذلك بسبب تأثير الشيطان؟
“علينا أن نجد طريقة للتعامل مع ذلك الشيطان أولًا…”
“إذًا، لمَ لا تسألين رويري؟“
تحدثت آيسيل بخفة،
متطلعة إلى رد فعل ديانا بينما تطرح اسم رويري.
لم تكن تملك تفسيرًا واضحًا،
لكن آيسيل كانت تُكنّ مشاعر طيبة لرويري.
لدرجة أنها فكّرت أنه لو قررت والدتها الزواج مجددًا،
فستود أن يكون هو الزوج.
لكن بعد مهرجان السحر، بدأت ديانا تتصرف بغرابة؛
إذ غيّرت معلم آيسيل في السحر،
وطلب منها رويري أن تُبقي أمر مجيئه سرًا عن ديانا.
وبدت الأجواء بين الاثنين متوترة،
وكأنهما يسيران على حبل مشدود.
حدقت آيسيل في وجه ديانا المتجمد بدهشة.
“…لم نعد نستطيع رؤية رويري بعد الآن.”
“لماذا؟“
سألت آيسيل ببراءة صافية، فاكتفت ديانا بابتسامة حزينة مريرة.
واجتاحها الشوق له كمدٍّ من الحنين.
“أمي.”
“نعم؟“
“قبل قليل، تلك السيدة قالت لي، عيشي بسعادة.”
اتجهت عينا آيسيل المستديرتان نحو ديانا.
لم تفهم ديانا مغزى كلماتها، فأجابت ببساطة.
“صحيح.”
“هذا ينطبق عليكِ أنتِ أيضًا، أمي.”
“…ماذا؟“
اتسعت عينا ديانا،
ونظرت إلى آيسيل التي اقتربت منها وأمسكت بيدها بقوة.
“أمي، هل تحبين رويري؟“
كان سؤالًا صريحًا يصعب على الكبار طرحه،
لكن الطفلة سألته ببساطة نابعة من براءتها.
ارتبكت ديانا وفتحت فمها، غير قادرة على الرد.
“آيسيل، أنا…”
“أن تحبي شخصًا، هذا ليس خطأ، أليس كذلك؟“
“…لكن،“
“من خانكِ أولًا هو كاليبسو.”
تألقت عينا آيسيل وهي تستحضر خيانة كاليبسو.
“حتى لو أحببتِ رويري،
فأنتِ لم تفعلي شيئًا خاطئًا. من حقكِ أن تحبيه بكل فخر.”
غاصت ديانا في تفكير عميق، ولم تنطق بكلمة.
هل تملك حقًّا أن تحب لويري؟ هل تملك الحق لتبوح له بذلك؟
أغلقت عينيها بإحكام.
“…صحيح.”
حين تنتهي كل انتقاماتها، حين تنفصل عن كاليبسو،
حين تستطيع الوقوف شامخة أمام قوانين الإمبراطورية…
عندها ستخبره.
ستقول له إنها تحبه.
وأنه كان شخصًا عزيزًا إلى درجة أنها لم تجد سبيلًا آخر سوى إبعاده من أجل سعادته.
“نعم… يجب أن أفعل ذلك. أنا أيضًا… أريد أن أكون سعيدة.”
كادت آيسيل أن تنفجر بالبكاء،
لكنها قاومت دموعها وهي تعانق والدتها بشفقة.
كانت تشفق على أمها كثيرًا.
تمنّت من أعماقها أن يظهر في حياتها شخص يستطيع أن يملأ قلبها دفئًا.
قلبها الذي فرغ بسبب الخيانات المتكررة،
لم يكن بإمكان آيسيل وحدها أن تملأه.
تلاقت عينا آيسيل وديانا.
عينا المرآة المتطابقتان انحنتا برقة في آنٍ واحد.
وفي تلك اللحظة، بدأت طاقة مظلمة تنبعث من جسد ديانا.
“هاه…؟“
“أمي!”
رغم دهشتها، دفعت ديانا آيسيل بقوة بعيدًا عنها.
وسرعان ما أصبحت ذلك الدخان السوداء أكثر كثافة.
“آه…”
سقطت آيسيل على الأرض،
لكنها قفزت فورًا نحو الدخان محاولة إنقاذ والدتها.
لكن بمجرد أن دخلت آيسيل إلى الدخان،
اختفت ديانا تمامًا مع الضباب.
“أمي!”
لم يبقَ في الغرفة الخالية سوى صرخة آيسيل الحادة تمزق الصمت.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter.
التعليقات لهذا الفصل " 95"