استمتعوا
مرّ يومٌ آخر. دخلت كاثرين إلى غرفة ديانا في الموعد المحدد،
على خلاف ما حدث البارحة.
بعد ثلاث ساعاتٍ طويلة من القراءة الصباحية مع كاثرين،
تلقت ديانا تقريرًا من شين يُفيد بانتهاء توظيف الخدم الجدد.
“لقد تمّ الأمر، سموك.”
“شكرًا لك، شين.”
بهذا، أصبح من الممكن استبدال الخدم الموالين لأليشيا بخدمٍ موالين لها هي.
طلبت ديانا من شين أن تجمعهم جميعًا في مكان واحد.
ثمّ توجهت إلى حيث كانوا مجتمعين.
“مرحبًا بكم.”
نظرت ديانا ببطء إلى الخادمات والخدم الواقفين أمامها،
ثم حيّتهم بصوتٍ رقيق ووجهٍ ودود.
ارتجفت أكتافهم من وقع تحية السيدة النبيلة.
فالنبلاء الذين يعرفونهم، إما متغطرسون أو متكبرون،
أو يمارسون نفاقًا مبطّنًا تحت ستار الأدب.
لكن ديانا كانت مختلفة.
ابتسمت بلطف، وانحنت قليلاً بصوتٍ نقي كخرير الماء.
أمرٌ لا يحدث مع الخدم أبدًا.
فأحنى الجميع رؤوسهم وانحنوا بتحية مرتبكة مندهشة.
قالت ديانا مبتسمة:
“هل يمكنكم جميعًا أن تمدّوا أيديكم؟”
ظنّوا أن التوظيف قد تأكد، لكن يبدو أنه لم يكن كذلك بعد.
مدّوا راحاتهم بخوفٍ وتوتر.
وبما أن معظمهم جاؤوا من وظائف مختلفة،
فقد كانت أيديهم خشنة ومتّسخة.
أخرجت ديانا أكياسًا كانت قد أعدّتها مسبقًا.
وأعطت كلّ واحدٍ منهم كيسًا صغيرًا، وهي تمسك بأيديهم بنفسها.
تسلّموا الأكياس الجلدية المليئة بشيءٍ مجهول يُصدر صوتًا معدنياً، ولم يجرؤ أحدٌ منهم على فتحها، بل راحوا يتبادلون النظرات بحذر.
“افتحوها، جميعكم.”
قالت ديانا وهي تبتسم ابتسامة مشرقة.
عندها فقط سارعوا إلى فكّ الأربطة المحكمة.
وكانت الأكياس مليئة بأحجارٍ كريمةٍ ملوّنة صغيرة.
عمّت المفاجأة، وترددت أصوات الهمس والدهشة.
بدا وكأنها رواتب ثلاث سنوات، لا شهر واحد.
“هذه هي رواتبكم لشهرٍ واحد فقط.”
فُغرت أفواههم من الصدمة.
هذا المبلغ الضخم مقابل شهرٍ واحد؟ لم يصدقوا ذلك.
لكن ديانا أكملت حديثها بصوتٍ مفعم بالهيبة:
“طوال فترة عملكم في هذا القصر، سأعاملكم باحترامٍ يفوق الجميع. سأعتبركم ثمينين، كالأحجار التي في تلك الأكياس.”
اهتزّت نظرات الخدم.
لم يكن هناك أي نبيل تحدّث إليهم بهذه الطريقة من قبل.
“ولن أستغلكم كالحيوانات لمجرد أنكم خدم،
كما يفعل النبلاء عادة.”
في عالمٍ لا يملكون فيه لا المال ولا المكانة،
لم يُعتَبَروا إلا كحيواناتٍ حقيرة.
“ما يهمني هو أخلاقكم وقلوبكم.”
لكن المرأة التي ستكون سيدتهم الآن،
قالت إن ما يهمها هو أخلاقهم وقلوبهم.
“ربما، في لحظات ضعفٍ وضيق،
قد تشعرون برغبة في الانجراف نحو الإغراء.”
حتى وإن استبدلت ديانا جميع الخدم،
كانت أليشيا ستبذل جهدًا لإفسادهم مجددًا.
ولا تملك أليشيا سوى المال كوسيلة للرشوة.
وكان عليهم ألّا يتأثروا ببضع عملات ذهبية.
“وإذا… جاءكم أحدٌ ما،
يحمل المال ويحاول أن يطلب منكم شيئًا…”
ومضت عينا ديانا الخفيّتان من خلف القناع.
“حينها، عودوا إليّ. سأمنحكم أكثر مما عرض عليكم.”
تصلّبت نظرات الخدم.
لم يكونوا قد بدأوا العمل بعد، ولم يعرفوا الكثير عن ديانا.
لكن الشيء المؤكد الوحيد،
هو أن صوتها وحديثها منحهم ثقة غير مبرّرة، لكنها حقيقية.
ابتسمت ديانا برضًا وهي تنظر إلى تعابير وجوههم.
“أنا بحاجة إلى من يكون مخلصًا لي بالكامل. وأتمنى من كل قلبي ألّا تفقدوا قلوبكم من أجل بعض القطع الذهبية.”
“نعم، سموكِ!”
أجابوا جميعًا بحماس، يحملون في أعينهم تطلعاتٍ مختلفة.
صَفّقت ديانا بمرح.
“حسنًا، فلتفرغوا حقائبكم الآن. ما زال بعض الخدم القدامى موجودين حتى اليوم، سنلتقي غدًا مجددًا.”
حان وقت طرد خدم أليشيا.
“لنعد إلى الغرف، شين.”
“امركِ، سموك.”
تمسكت ديانا بذراع شين، متظاهرة بأنها لا ترى،
وتوجهت نحو سكن الخدم.
كان أولئك الذين أُمروا بالمغادرة يجمعون أمتعتهم ببطء.
“أوه، سموك!”
ما إن رأتها الخادمات حتى ركعن أمامها وهنّ يمسكن بطرف فستانها، ثم انفجرن بالبكاء.
نظرت إليهن ديانا بعينين باردتين.
“ما هذا الذي تفعلونه؟”
“ماذا فعلنا لتطردينا جميعًا؟!”
تسألون ما الخطأ الذي ارتكبتموه؟
كم هو مدهش مدى وقاحة البشر.
باعوا ولاءهم لقاء بضع عملات،
وخططوا لأفعال دنيئة ضد من وثقت بهم…
كادت ديانا أن تضحك من شدّة الاستهزاء.
“تسألون ماذا فعلتم؟”
ردّت ديانا بنبرة باردة، فتوقفت نحيبهم تدريجيًا.
لم يستطيعوا إنكار الأمر.
“ولماذا تسألونني أنا؟”
رغبت في فضحهم فورًا، لكن لم يكن ذلك ممكنًا.
لو كشفت أفعالهم، لأسرعوا إلى أليشيا وأعلموها بكل شيء.
أمام برود ديانا، تخلّى الخدم عن توسلاتهم،
وأخذوا حقائبهم وغادروا.
“سموكِ، ماذا عن جوليا؟”
سألت شين وهي تتفقد المكان، بعد أن رحل الخدم جميعًا.
لم تكن جوليا قد جمعت أغراضها،
ربما كانت غائبة لحظة، أو ربما ذهبت إلى أليشيا.
“اتركيها الآن. مؤقتًا فقط.”
“فهمت، سموك.”
رئيسة الخادمات، جوليا.
حتى وإن كان الخدم الآخرون يجهلون،
إلا أنها بلا شك كانت على علم بمؤامرات أليشيا.
ما زالت ورقة مفيدة.
بالنسبة إلى ديانا، كانت جوليا كخزنة أسرار وجب كسرها.
مدّت ديانا جسدها، ثم قالت:
“حسنًا، حان وقت زيارة أستاذي.”
“أستاذك؟”
“نعم.”
ابتسمت ديانا نحو شين.
كان اليوم أول يوم دراسي اتفقت عليه مع رويري.
تذكّرت اللحظة التي التقت به أول مرة،
تحت السماء المرصعة بالنجوم، وشعره الأحمر المتطاير.
وتذكّرت صوته العذب الذي كأنه يهمس في أذنها،
فابتسمت لا إراديًا.
كانت شين تراقبها بصمت، ثم قالت:
“سأكون عند المدخل، سموك.”
“شكرًا، بليندا.”
وصلت بليندا بعد أن أنهت تدريبها،
فقالت كلماتها وهي تقف بجانب ديانا.
توجّهت ديانا إلى الحديقة التي تُرى مباشرة من شرفة غرفتها.
أمام الشرفة كانت هناك ساحةٌ واسعة قبل دخول حديقة الورود.
مكانٌ مثالي لتعلم السحر.
رفعت ديانا ساعةً ذهبية لتتحقق من الوقت.
هذه المرة، لن أُفاجأ، قالت لنفسها وابتلعت ريقها.
وفور أن التقت العقارب على الرقم 12،
ظهر رويري فجأة في الهواء.
“مرحبًا، نونا؟”
“مرحبًا، رويري.”
كان وجهه مبتهجًا كعادته.
بل أكثر، بدا وكأنه في قمة السعادة.
ما الذي يجعله سعيدًا بهذا الشكل؟
يبدو أنه متحمس للدروس معها.
“كنت أنتظر هذا اليوم.”
غمز رويري بعينه، وكأنه قرأ أفكارها.
“نعم؟ ماذا؟”
“هذه أول مرة أدرّس فيها أحدًا.
وأنتِ أول تلميذة لي. أليس شرفًا؟”
ضحكت ديانا من جرأته.
لم تضحك بهذا الشكل منذ عودتها بالزمن.
“شرفٌ كبير، حقًا.”
ردّت عليه بضحكة صافية.
“حسنًا، فلنبدأ الدرس. إلى أين وصلتِ؟”
فكّرت ديانا وهي تلمس ذقنها.
مضى وقتٌ طويل منذ آخر مرة استخدمت فيها السحر،
حتى أنها لا تذكر شيئًا تقريبًا.
“أظن… يجب أن أبدأ من جديد.”
قالتها بخجل. لاحظ رويري انحناء كتفيها.
ربّت بلطف على كتفها، وهو يبتسم:
“لا بأس، لا بأس. نبدأ من الآن. هيا، نونا! ارفعي كتفيك!”
“…حسنًا.”
رغم انعدام الثقة، فردت ظهرها كما قال.
“لنبدأ بتفريغ المانا. أمرٌ بسيط جدًا.”
فتح راحة يده. وظهرت فيها شعلة صغيرة بلون شعره الأحمر.
ارتفعت اللهب الصغيرة متراقصة على راحة يده،
مضيئة بلون المانا الأحمر.
“تعلمين أن لكل مانا خصائص، صحيح؟ أنا من خصائص النار.”
السحرة نادرون في الإمبراطورية، فقلة يولدون بهذه الموهبة.
ولكل مانا خاصية فطرية،
لا يمكن استخدامها سوى في نوعٍ محدد من السحر.
تذكّرت ديانا ماضيها.
في طفولتها، كانت خاصية المانا لديها هي الجليد.
والآن بعد أن فكرت بالأمر،
فقد كانت الجليد مناسبة تمامًا لها، بما تحمله من برودٍ وهمٍّ دفين.
غاصت في التفكير بصمت، قبل أن تدرك أن رويري كان يحدّق بها، ففزعت وأجابت بصوتٍ خافت:
“آه، نعم. أنا… كنت من خصائص الجليد.”
“جميل. إذن لنجرّب.”
أخذت ديانا نفسًا عميقًا، كانت قلقة من النتيجة.
فتحت يدها بترقب، وأغمضت عينيها.
شعرت باهتزازٍ خفيف.
وفجأة، فتحت عينيها…
“هم؟”
وسقطت على راحة يدها قطعة جليدية بحجم ظفر طفل صغير.
“…هاه.”
لم تتوقع أن تكون ضعيفة إلى هذا الحد.
احمرّ وجهها خجلًا كالتفاحة المتّقدة.
“ممم. هيا، نونا. دعيني أرى يدك.”
أمال رويري رأسه وهو يتفحص حالتها، ثم أمسك يدها.
“أرخي يدك، ثم عندما تشعرين بالطاقة،
افتحيها بسرعة! هل تفهمين؟”
أراها بوضوح كيف يمد يده بالتوقيت المناسب.
بدأت تفهم الشعور قليلًا. أومأت بتركيز.
ثم أغمضت عينيها مجددًا.
شعرت بتدفق المانا في جسدها.
وعندما صعدت الطاقة، فتحت يدها بقوة.
“واو! نجحتِ، نونا!”
ارتفع عمودٌ بلوريٌّ من الجليد من يد ديانا،
محاطًا بضوء مانا أزرق.
توهّجت حافة الجليد كعيني رويري.
ابتسم رويري كأن النجاح كان له هو.
ومن شدّة الفرح، أمسكت ديانا بيديه وبدأت تهزّهما بحماس.
“…عزيزتي.”
ما زالت تمسك بيد رويري حين التفتت نحو مصدر الصوت.
وهناك، كان كالِيبسو واقفاً، بنظرةٍ لا تصدق ما تراه.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 9"