استمتعوا
امتدّ الضوء الأبيض المنبعث من يد الكاهن إلى داخل عيني أليشيا، منتزعًا منها وهجًا أحمر، وسرعان ما خيّم الظلام الدامس على عينيها.
نظرت ديانا إلى أليشيا وقد تلاشى النور من عينيها،
فارتسمت على جانب شفتيها ابتسامة باردة.
رمشت أليشيا بعينين خاليتين من الحياة،
تتحسّس وجهها وسط الظلام الكامل الذي غمرها.
صعد الضوء الأحمر المنبعث من عيني أليشيا إلى الهواء،
ثم انساب برفق إلى داخل عيني كاثرين.
“كيف حالكِ؟ هل ترين الآن، كاثرين؟“
سألت ديانا بصوت متوتر كما كانت تخشى طوال الوقت.
فتحت كاثرين عينيها ببطء ثم رمشت بسرعة.
وبمجرد أن ارتسم النور على وجهها، لم يكن من الضروري أن تتحدث، فكان واضحًا أن بصر أليشيا قد نُقل إليها.
“أستطيع أن أرى، أمي!”
قفزت كاثرين ممسكة بيد ديانا،
دون أن تفكر ولو للحظة بأن والدتها قد فقدت بصرها.
“هذا رائع حقًا.”
وسط تلك الأصوات المليئة بالفرح، تنهدت أليشيا براحة.
ما دامت كاثرين قد استعادت بصرها، فلا فرحة تفوق ذلك.
لكن في نفس الوقت، كانت مرارة لا تُحتمل تنخر قلبها.
بدا كما لو أنهم لا يبالون بمن فقدت بصرها لأجلهم.
“…يا لها من راحة، سموّ الأميرة. سمو الدوقة.”
أخيرًا، نطقت أليشيا.
ظلت راكعة وقالت بصوت خافت.
حينها فقط توجهت نظرات كاثرين إلى والدتها العمياء.
لكن لم يكن في وجهها أيّ شفقة، بل امتلأ احتقارًا فاضحًا.
لقد شعرت أن فقدان أليشيا لبصرها كان أمرًا جيدًا في الحقيقة.
لو رأت تلك النظرة في عيني كاثرين، لما استطاعت احتمالها أبدًا.
نظرت كاثرين إلى أليشيا كما لو كانت حشرة حقيرة.
رغم أنها كانت ترتعش وكأنها مسكينة،
إلا أنها لم تكن تستحق الشفقة.
فقد كانت هي من خلطت الدواء بشكل خاطئ من البداية.
لم تكن ترغب حتى في النظر إلى وجهها.
بل فكرت جديًّا أن تخبر ديانا حالًا عن علاقة أليشيا المشبوهة.
“أمي.”
“نعم؟“
“أريد أن أخبرك بشيء.”
توهّجت عينا كاثرين البنفسجيتان.
كانت تخطط أن تُري والدها الحقيقة بنفسها،
لكنها لاحظت أن قلبها بدأ بالفعل بالابتعاد عن أليشيا.
لكي تطردها تمامًا وتصبح ‘الابنة الحقيقية‘ لديها،
لم يكن أمامها سوى أن تكشف كل شيء بنفسها.
ابتلعت ريقها الجاف بتوتر.
“هل يمكنكِ المجيء قليلًا؟“
همست وهي تمسك بطرف فستان ديانا، حتى لا تسمع أليشيا.
خرجت كاثرين مع ديانا إلى خارج المعبد،
ثم تنهدت بعمق كما لو كانت قد اتخذت قرارًا.
“أمي.”
“نعم، كاثرين.
ما الذي كنتِ تريدين قوله حتى جئتِ بي إلى هنا…؟“
رغم أنها كانت تتوقع عمّا ستتحدث، تظاهرت ديانا بعدم المعرفة.
“هك… هئك…”
فجأة، بدأت دموع كاثرين تتساقط من عينيها بغزارة.
يا لها من مثيرة للاشمئزاز.
شعرت ديانا بالقرف.
هذه الطفلة التي تأكل والدتها المقرّبة لتحقيق رغباتها.
ربما كانت كاثرين أكثر وحشية حتى من أليشيا.
قرأت قصة مماثلة من قبل… عن سمكة السلمون.
صغار السلمون يفقسون ويأكلون لحم والدتهم لينموا.
وعندما يلتهمون جسدها بالكامل،
تموت الأم ولا يتبقى منها سوى العظام.
هل كانت تلك الأم تعرف أنها ستموت حين تمنح كل لحمها لصغارها؟
يبدو وكأنها قصة أليشيا الآن.
ضحّت ببصرها من أجل ابنتها،
لكن الابنة كانت تفعل المستحيل للتخلص من أمها.
نظرت ديانا إلى كاثرين التي كانت تجهش بالبكاء كمن تبكي بحرقة.
ربما كان ذلك بسبب أن أليشيا ورثت بصرها ذو الحدقتين الحمراوين، أو لأن قلب تلك الطفلة القاسي قد امتلأ تمامًا داخل عينيها، لكن بريقًا أحمر كالدم كان يغمر عينيها كما لو كانت شخصًا مدمنًا على شيء ما.
“ما بكِ، كاثرين؟“
سألتها ديانا بقلق وهي تمسح دموعها.
“أنا آسفة، أمي…”
“على ماذا تعتذرين؟ أنا سعيدة للغاية لأن عينيكِ بخير الآن.”
ما أكثر براءتكِ، يا ديانا… نظرت كاثرين إلى وجه والدتها المربك وضحكت في سرها.
ثم، كما لو كانت نادمة حقًا،
خفضت حاجبيها بشكل مبالغ فيه وأمسكت بيد ديانا بقوة.
“هناك شيء لم أستطع إخباركِ به.”
“…لي أنا؟“
أخيرًا… ها أنتِ تقتلين والدتكِ بلسانك.
نظرة ديانا إلى كاثرين أصبحت حادة وخافتة.
“في الحقيقة، لقد رأيت شيئًا.”
“وماذا رأيتِ؟“
“رأيت الطبيبة… تحاول إغواء أبي.”
فتحت ديانا فمها متظاهرة بالصدمة، وتنهدت بهدوء.
حدّقت طويلاً في كاثرين، ثم سألتها بصوت مرتجف.
“…ماذا؟ ما الذي تقولينه؟ إغواء؟“
“…رأيت كل شيء. في مكتب أبي.”
“ربما كنتِ مخطئة؟ أليشيا صديقتي المقرّبة.
لا يمكن أن تفعل شيئًا كهذا.”
هزّت ديانا رأسها غير مصدّقة.
“لا، أمي. كانت أليشيا تخلع فستانها، وأبي كان يرفضها!”
أضافت كاثرين كذبة أخرى.
لم تكن ترغب في أن يؤدي هذا إلى طلاق والديها،
لذا نسّقت كذبتها بعناية.
“هذا غير معقول…”
“لماذا أكذب في أمر كهذا؟ أعلم أنها منحتني بصرها،
وأنا ممتنة لذلك…”
وضعت كاثرين يديها بلطف على وجه ديانا المصدوم وخفضت رأسها بأسى، ثم نظرت في عينيها.
“لكن يجب طردها. لا بد من ذلك.”
توهّجت عينا كاثرين كوحش جائع.
وحش. تلك الكلمة كانت الأنسب لها.
تتفوّه بكلمات مسمومة لتحقيق رغباتها، دون ذرة من إنسانية.
“لقد خانت أمي، وحاولت إغواء أبي. إنها امرأة دنيئة لا تُغتفر!”
وأنتِ أيضًا خنتني، كاثرين.
كانت كاثرين تتحدث بأكاذيب متقنة تحاول من خلالها القضاء على أليشيا، دون أن تذكر نفسها في شيء.
صمتت ديانا طويلًا وكأنها غارقة في التفكير،
ثم فتحت شفتيها ببطء.
“…كاثرين، هل تسبقينني إلى العربة؟“
“هاه؟“
نظرت كاثرين إلى ديانا بعيون متسائلة.
بعد كل ما قالته، كان من المفترض أن تثور ديانا غضبًا… لكنها كانت هادئة وكأنها كانت تعرف مسبقًا.
“أظن أن لديّ ما أقوله لأليشيا. على انفراد.”
“…حسنًا. فهمت.”
استدارت ديانا بعيدًا عن كاثرين.
فنادتها كاثرين مرة أخرى وهي تنظر إلى ظهر والدتها المتجهة نحو المعبد.
“أرجوكِ، لا ترحميها. أمي.”
توقفت خطوات ديانا عند باب المعبد.
نعم. أنا أيضًا لن أرحمكِ.
استدارت برأسها فقط، وابتسمت ابتسامة رقيقة.
“فهمت، لا تقلقي.”
ثم تابعت طريقها داخل المعبد.
كان صوت كعب حذائها العالي يملأ الهدوء داخله.
يبدو أن الكاهن قد أنهى عمله وغادر.
وحدها أليشيا كانت جالسة وسط المعبد.
اقتربت ديانا منها ببطء.
“يبدو أنكِ كنتِ حقًا صادقة في رغبتكِ.”
استدارت أليشيا برأسها نحو صوت ديانا،
وهي كانت تحدّق في الفراغ.
كان في نبرة ديانا شيء ساخر وغريب.
لكن أليشيا تجاهلت ذلك وقالت:
“بالطبع! أنا حقًا… أحب الآنسة…”
“نعم. تحبين كاثرين. لا عجب.”
كان هناك شيء غير طبيعي.
توقّف صوت أليشيا وهي على وشك التعبير عن مدى حبها لكاثرين.
“ماذا…؟“
جلست ديانا أمامها، ومرّرت يدها برفق على شعرها،
ثم همست في أذنها.
كان صوت ديانا الناعم مثل السكين التي طعنت أليشيا في أعماق أذنها.
“لأنها ابنتكِ.”
اهتزّت عينا أليشيا المظلمتين بقلق.
لم تستطع إخفاء ارتجافها.
لم تكن تعلم فقط بشأن خيانتها،
بل عرفت أيضًا أن كاثرين هي ابنتها.
رغم أنها كانت ترتجف بشدة، إلا أنها تظاهرت بالجهل وصرخت:
“…ما الذي تعنينه؟“
“تتظاهرين بالجهل، ها؟“
نهضت ديانا بهدوء من مكانها.
“أكنتِ تظنين أنني لن أكتشف الأمر؟“
“سموكِ…! ما الذي…”
“يا لي من تعيسة.”
راحت تتفوه بكلماتها، وهي تحدّق إلى أليشيا ذات الوجه الوقح.
“أقرب صديقاتي تخونني مع زوجي، بل وتقوم بتبديل ابنتي!”
أليشيا كانت ترمش بعينيها، دون أن تفهم ما الذي يجري حولها.
“مع أن كاثرين لم تكن عمياء بالحقيقة، جعلتني أفقد بصري.”
“كيـ… كيف…؟“
“بل حاولتِ قتلي أيضاً،
حينما تحصل كاثرين على حق تشغيل المنجم.”
ديانا كانت تعرف كل شيء.
شعرت أليشيا وكأن حشرات تزحف على جسدها،
وقشعريرة تسري من رأسها حتى أخمص قدميها.
كل شيء كان مخططاً بعناية.
تحويلها إلى سخرية في الحفلة لتبعدها عن كاليبسو وكاثرين،
واستغلال كاثرين لسلب بصرها.
جسد أليشيا كان يرتجف كأوراق الشجر في العاصفة،
ووجهها يرتعش خوفًا. لم تستطع إلا أن تضحك ديانا بسخرية.
“هه…”
“سموكِ…!”
“أليست حمقاء؟“
كانت نفس العبارة التي تفوهت بها أليشيا ذات مرة تجاه ديانا عندما فقدت بصرها.
والآن، تعيدها ديانا إليها.
“كنت أعلم كل شيء منذ البداية.
لقد أعددت كل شيء بعناية. من أجل هذا اليوم.”
راحت ديانا تلف خصلة من شعر أليشيا البرتقالي بلطف وتضيف:
“لم يسبق لي أن فعلت شيئاً من أجلك دون أن أضع فيه مشاعري.”
ثم ابتسمت ببراءة لا تخلو من خبث.
“هل أعجبكِ، أليشيا؟“
تلك الحقيقة القاسية جعلت أليشيا تنهار تمامًا.
فمها كان مفتوحًا، ولم تستطع النطق بكلمة واحدة.
“أوه، صحيح. بخصوص ابنتك.”
قالت ديانا بصوت ناعم كالهمس، أشبه بوسوسة شيطان.
“هي من أخبرتني بخيانتكِ.
أنكِ حاولتِ إغواء كاليبسو، ذاك الحقير.”
كاثرين، في النهاية، تخلّت عنها.
الصدمة كانت أكبر من أن تحتمل،
ودموعها انهمرت كالسيل دون توقف.
لم تستطع قول شيء.
أن تتخلى عنها ابنتها كان أشد وقعاً من انتقام ديانا نفسه.
بل إنها قد أعطتها بصرها!
كيف يمكن…!
كل هذا بسبب ديانا.
لقد فرّقت بينها وبين كاثرين عمداً.
“ديانا!”
أليشيا اندفعت نحو الصوت الذي صدر عن ديانا،
ولكن الأخيرة تفادتها بخفة، وهي تضحك بسخرية.
“أن تتخلى عنكِ ابنتكِ الحقيقية، يا له من أمر بائس.”
ثم أضافت باستهزاء:
“أليشيا الحمقاء.”
‘ديانا الحمقاء‘
كان ذلك صوتها، ولكنها تذكرت تلك الكلمات التي تفوّهت بها أليشيا ذات يوم وهي تحتجزها في الكوخ، وتكشف لها أن كاثرين ليست ابنتها.
لقد شعرت براحة لا توصف.
كل شيء عاد إلى نصابه.
“كاثرين أيضاً، ليست أفضل منك.”
“ماذا…؟“
“تلك الفتاة القاسية، ستذوق نفس الألم الذي تتذوقينه الآن.”
كلمات ديانا جعلت أليشيا،
التي كانت تبكي بصمت، تستفيق فجأة.
إن استمر الأمر هكذا، فستكون كاثرين في خطر.
عليها أن تحذرها، أن تخبرها أن ديانا تعرف كل شيء.
“كاثـ…!”
من داخل العربة أمام المعبد، استدارت كاثرين برأسها نحو المعبد.
لكن الكلمة لم تصل إليها.
لأن البرودة البيضاء التي انتشرت حول ديانا،
جمّدت لسان أليشيا في لحظة.
لم تستطع إصدار أي صوت، بل راحت تختنق بصمت،
في حين أن ديانا اكتفت بالابتسام بجمالٍ قاسٍ لا يرحم.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 89"