استمتعوا
“انظري إلى هذا، يا أمّي!”
أخذت آيسيل تلوّح بقلادة صغيرة على شكل نجمة،
كانت قد حصلت عليها كرمز للساحر المبتدئ.
كانت رموز السحرة جميعها تحمل الشكل ذاته،
لكنّ حجمها يختلف بحسب الرتبة.
تألّقت قلادة آيسيل بلون أبيض ناصع تحت ضوء الشمس.
وعلى الرغم من أنّها كانت مصنوعة من النحاس ليس إلا،
فإنّها كانت بالنسبة لها أثمن من الذهب.
لقد كانت ثمرة جهدها الشخصيّ،
أول إنجاز حقّقته في حياتها بعيدًا عن رفوف الكتب.
حدّقت ديانا وكاليبسو والماركيز بريتشي إلى آيسيل بفخر وابتسامات تعلو وجوههم.
“كنتُ أعلم أنّك ستنجحين.”
ابتسم الماركيز بلطف، ومدّ يده داخل سترته بحثًا عن شيء ما.
ثمّ أخرج من الجيب الداخلي مجموعة من الرقوق الملفوفة والمربوطة بخيط ذهبي.
في تلك اللحظة،
لمعت عينا كاليبسو أكثر من لمعان قلادة آيسيل تحت الشمس.
“تفضّلي.”
“هاه؟ جدي…!”
قرأ الماركيز في عيني كاليبسو المليئتين بالطمع،
لكنّه تظاهر بعدم ملاحظته، وسلّم الرق إلى آيسيل.
شعرت آيسيل ببعض الحرج، فتردّدت قليلًا قبل أن تمدّ يدها.
“هيا خذيها، ذراعي تكاد تسقط.”
قال الماركيز بريتشي متذمّرًا، رغم أنّه كان فخورًا بحفيدته التي حصلت على لقب ساحرة مبتدئة وهي في هذا العمر الصغير.
“شكرًا لك، جدي!”
ابتسمت آيسيل ببراءة وهي تتلقّى الرقّ،
ثمّ حلّت الخيط الذهبي وفتحته على مصراعيه.
كُتب في أعلى الرقّ بحروف مذهّبة: ‘حقّ تشغيل منجم الألماس‘.
بدت على كاليبسو ملامح اللامبالاة،
لكنّ عينَيه كانتا تراقبان الرقّ الذي بيد آيسيل باهتمام بالغ.
تلألأت عينيه كما لو أنّها تمتلئ بالفعل بالألماس.
نظر إليه الماركيز بامتعاض،
ثمّ انحنى وهمس في أذن آيسيل بشيءٍ ما.
ابتسمت آيسيل بهدوء وأجابت بصوت صافٍ:
“فهمت، جدي.”
“حسنًا، سأغادر الآن.”
“سأتّصل بك لاحقًا، أبي.”
“ارجع سالمًا، جدي!”
رغم أنّ كاليبسو كان يتساءل عمّا قاله الماركيز لآيسيل،
إلّا أنّه اكتفى بانحناءة احترام له.
قطّب الماركيز حاجبيه بانزعاج وهو يركب العربة.
وما إن غابت عربة ماركيز بريتشي عن الأنظار،
حتى أخذت آيسيل تحدّق قليلًا في الرق، ثمّ سلّمته إلى كاليبسو.
“تفضّل، أبي.”
اتّسعت عيناه من الذهول.
يبدو أنّه لم يتوقّع أن تعطيه إيّاه فعلًا، رغم كلامها.
“حقًا… ستتركينه لي؟“
سألت عيناه بفرحٍ أخفاه خلف ملامح التظاهر بعدم الاهتمام.
لم يرد أن يبدو كطامع في شيءٍ يخصّ ابنته.
‘يا له من مراءٍ.’
نظرت إليه ديانا بوجهٍ يفيض بالاستياء.
لكنّ كاليبسو كان غارقًا في لهفته نحو الرق،
فلم يرَ شيئًا من تعبيراتها.
“نعم. إن كان بإمكاننا إحياء مجد عائلة إرينست بهذا،
فأنا مستعدّة للتنازل عنه بلا تردّد.”
ارتجفت رموش آيسيل قليلًا،
وتعمّدت أن تُظهر ملامح حزينة تجعلها تبدو أكثر شرفًا وتضحية.
“… آيسيل.”
بدا عليه التأثّر العميق. تناول الرقّ منها بحذر وامتنان.
“كنتُ أظنّ أنّه لا شيء أغلى من الدم.”
قال وهو يشدّ قبضته على الوثيقة.
“لكن يبدو أنّ هناك ما هو أعمق منه.”
لطالما كان كاليبسو شخصًا لا يثق بأحد.
فمنذ صغره، لم يكن هناك من يلبّي تطلّعاته،
لا من محيطه، ولا حتى من أقاربه الذين يربطهم به دمٌ مشترك.
“يبدو أنّنا مرتبطان بقلوبنا.”
أرسل كاليبسو نظراتٍ دافئة نحو آيسيل،
أشبه بأشعة الشمس الناعمة.
بادلتْه آيسيل بابتسامة رائقة كجريان الماء،
لكن داخلها كانت تلعنه بأشدّ الكلمات.
لو قال شخصٌ آخر مثل هذا الكلام، لربّما بدا رائعًا.
لكنّه كاليبسو.
الشخص الذي أمر بتصويب عشرات السهام نحوها وقتلها بدمٍ بارد.
بدأ شحوبٌ خفيفٌ يغزو وجه آيسيل.
شعرت بالغثيان، بل أرادت لو تقيّأت مباشرة في وجهه.
إن كان بينهما حقًا رابطٌ قلبيّ،
لكان قد تعرّف إليها في حياتها السابقة.
‘لم نكن مرتبطَين بالقلب، بل بالدم الحقيقي فقط.’
تسرّب التمرّد من بين جفونها المنحنية،
لكنّ كاليبسو، وقد انغمس تمامًا في تأثّره، لم يشعر بشيء.
ضمّ وثيقة تشغيل المنجم إلى صدره بعناية،
ثمّ انحنى قليلًا وقال بصوت منخفض:
“… أنا آسف.”
كان صادقًا. فقد شعر بالعار لأنّه اضطرّ إلى مدّ يده حتى إلى طفلةٍ صغيرة، وشعر كذلك بالذنب تجاهها.
لكنّ آيسيل لم تُجبه سوى بابتسامة هادئة.
“نحن عائلة، أليس كذلك؟“
شعّ وجه آيسيل كأنّ نورًا مقدّسًا ينبعث منه.
واحمرّت عينَا كاليبسو قليلًا.
‘هل سبق أن منحني أحدٌ حبًّا غير مشروط كهذا من قبل؟‘
شعر برغبةٍ حقيقيةٍ في أن يُنجح هذا المشروع من أجلها.
“شكرًا لك. هيا، لنصعد إلى العربة.
سأتوقّف قليلًا في المنجم ثمّ أعود.”
كان ذهن كاليبسو قد نسي تمامًا أمر كاثرين التي كانت طريحة الفراش في قصر الدوق.
أمسك بيد آيسيل وأصعدها إلى العربة بنفسه.
“حسنًا، أبي. أراك في القصر.”
ركبت آيسيل العربة برفقة ديانا.
وما إن أغلق كاليبسو الباب، حتى اختفى ابتسامها في لمح البصر.
“ما خطّتك؟“
سألتها ديانا وهي تدير كتفها بتعب.
أسندت آيسيل رأسها إلى كتف والدتها،
وبدأت الأخيرة تلاطف شعرها بلطف.
أغمضت آيسيل عينيها ببطء، متأثّرة بلمسات والدتها الحنونة.
لم يكن غريبًا أن تشعر بالإرهاق.
فقد خاضت اختبار السحر ثمّ اضطرّت إلى مجاملة كاليبسو بعدها.
“اتّفقتُ مع جدّي مسبقًا.”
“همم؟“
نظرت ديانا إلى آيسيل التي كانت قد أغمضت عينيها دون أن تنام بعد.
تمسّكت آيسيل بوعيها بصعوبة، رغم تراكم التعب، وتابعت ببطء:
“طالما أنّني وأمّي لن نذهب إلى المنجم بأنفسنا… فإنّ كاليبسو سيستلم ألماسًا مزيّفًا، لا الحقيقي…”
اتّسعت عينا ديانا بدهشة من حنكة ابنتها.
لم يكن لدى كاليبسو القدرة على التمييز بين الألماس الحقيقي الذي يُستخرج من منجم بريتشي وتلك القطع المزيّفة.
وإن بدأ مشروعه باستخدام الألماس المزيّف…؟
فالعواقب ستكون واضحة تمامًا.
“وهكذا، كلّ ألماسةٍ يبيعها ستعود عليه كديْنٍ شخصي…”
رغم أنّها توقّعت خطّةً مماثلة، لكنّها كانت فكرة بارعة فعلًا.
إذا سارت الأمور كما خطّطت آيسيل وديانا، فإنّ كاليبسو لن يخسر فقط لقبه كدوق وأراضيه، بل سيتحمّل كذلك ديونًا فادحة.
بالإضافة إلى ذلك، سوف يُضاف لقب ‘المحتال‘ إلى اسمه.
“يا لها من فكرة رائعة فعلًا…”
ديانا استدارت نحو آيسيل لتشيد بها، لكن صوت أنفاس آيسيل كان قد أصبح منتظمًا، فقد غفت بالفعل.
“احلمي أحلامًا جميلة، يا ابنتي العزيزة.”
نظرت إليها بعينين تقطران حنانًا كالعسل،
وهي تغفو كالملائكة، وابتسمت بلطف.
***
مرّ يومان على انتهاء اختبار السحر.
“هممم…”
فتحت كاثرين عينيها ببطء، ثم جلست تدريجيًا.
‘كم نمتُ يا ترى؟‘
تمتمت لنفسها وهي تفرك عينيها وتتناول إبريق الماء من على الطاولة. صوت الماء النقي وهو يُسكب ملأ أرجاء الغرفة.
“استيقظتِ؟“
“…ما الأمر؟ لماذا أنتِ هنا؟“
عند الباب كانت آيسيل تستند إليه بابتسامة هادئة.
أن يكون أول وجه تراه عند استيقاظها هو وجه تلك الشقية؟
كاثرين عبست وأجابت بصوت مبحوح.
حينها، وقعت عيناها على القلادة المعلقة في عنق آيسيل.
“هاه؟“
قلادة صغيرة على شكل نجمة.
لا شك أنها رمز الساحر المبتدئ.
اقتربت كاثرين بخطى سريعة وأمسكت بالقلادة،
ثم قلبتها لتتأكد من صحتها.
لكنها كانت بالفعل ختمًا أصليًا من برج السحر.
‘لم يبدأ اختبار السحر بعد، فكيف حصلت عليه آيسيل؟‘
نظرت إلى آيسيل بشراسة وارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة.
“لا بد أنكِ سرقتِه، كالعادة… قذرة كما أنتِ دائمًا…”
“سرقته؟ تعنين أنني سرقتُ هذا؟“
انفجرت آيسيل ضاحكة بصوت عالٍ ملأ الغرفة.
“كيف لي أن أسرقه؟ أتظنين أنني تسللت إلى برج السحر؟“
يا لها من فكرة غبية.
ساحرة مبتدئة مثلي بالكاد اجتازت الاختبار،
هل ستدخل برج السحر خفية؟ مستحيل.
وبالنسبة للناس العاديين، فالأمر شبه مستحيل.
“تفكير يناسبك تمامًا، كاثرين.”
“كفي عن السخرية.”
كاثرين حدّقت فيها وكأنها ستقتلها،
غاضبة من سخريتها الواضحة.
“لا تغضبي بهذا الشكل منذ البداية.
ما ينتظركِ من الأمور المزعجة أكثر بكثير.”
“ماذا؟! ماذا تعنين؟!”
صرخت كاثرين، لكن آيسيل ظلت تبتسم بلطف وقالت:
“اختبار السحر؟ لقد انتهى بالفعل.”
“…ماذا؟“
تدلت شفتا كاثرين تلقائيًا.
كم انتظرت ذلك الاختبار،
حتى أنها استدعت شيطانًا لاكتساب القوة.
ولكن أن يكون قد انتهى؟ هل نامت طوال هذه المدة حقًا؟
“لا تكذبي!”
“ولماذا أكذب بشأن أمر كهذا؟ كاثرين الغبية.
أنا فقط أتيت لأخبرك بلطف، لتتخلي عن أوهامك، كأختك الكبرى.”
غمزت لها بخبث وأمسكت بمقبض الباب لتخرج من الغرفة.
لكنها توقفت فجأة وكأن شيئًا خطر ببالها،
ثم التفتت برأسها وقالت:
“آه، صحيح. رأيت بالمصادفة أن دواءك كان يحتوي على منوّم.”
“منوّم…؟“
“ربما كانت أليشيا ترغب في أن تنالي قسطًا جيدًا من الراحة؟
على كلٍ، سأترككِ الآن.”
نظرت آيسيل برضى إلى وجه كاثرين الذي كان يتلون بالحمرة والغضب الشديد، ثم خرجت من الغرفة.
لم تستطع كاثرين كتم غضبها. صرخت بأعلى صوتها.
“آاااه!!”
وبينما كانت تلهث من الغضب، اتجهت مباشرة نحو غرفة أليشيا.
***
“كـ… كاثرين؟“
دَفعت الباب بقوة حتى ارتطم بالجدار محدثًا صوتًا مدويًا،
ثم توجهت بخطوات سريعة نحو مكتب أليشيا.
“هل وضعتِ منومًا في دوائي؟!”
“…اهدئي، حالتك الصحية…”
“أنا أسألك! هل وضعتِ منومًا في دوائي؟!”
ضربت كاثرين سطح المكتب بكلتا يديها،
فتناثرت قنينة الحبر وفنجان الشاي، وأصبح المكتب فوضى.
بادرت أليشيا إلى إغلاق الباب المفتوح، ثم حاولت تهدئتها.
“كنتِ في حالة مزرية! وإن لم تحصلي على راحة كافية—”
“لذا وضعتِ منومًا…؟“
“…نعم، فعلت. أعلم أن أمر المنجم مهم،
لكن صحتكِ كانت أهم بالنسبة لي.”
برد الجو المحيط بكاثرين فجأة،
وامتلأت عيناها بالشعيرات الدموية الحمراء.
“لقد انتهى كل شيء.”
“ماذا…؟“
“أقصد أنني لم أعد بحاجة إلى أم لا تعرف ما تريده ابنتها فعلًا.”
“كاثرين!”
صرخت أليشيا،
لكن كاثرين تابعت كلماتها الحادة بابتسامة لاذعة.
“لا تتظاهري بكونك أمي مجددًا.”
ثم نظرت إليها نظرة متعالية كأنها خادمة وقالت ببرود:
“ومن الآن فصاعدًا، من الأفضل أن تتحدثي إليّ بكل احترام.
فأنتِ مجرد طبيبة، أما أنا، فأنا آنسة هذا القصر.”
كانت قد تغيّرت تمامًا عن سابق عهدها.
أليشيا لم تستطع حتى الرد، واكتفت بتحريك شفتيها بصمت.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 81"