استمتعوا
كان كلام ديانا لا يزال عالقًا في ذهنه، ولم يبرح قلبه لحظة.
كان عقله في حالة اضطراب، ولم يستطع حتى دخول غرفة التحكيم، وفجأة رأى ديانا تخرج مسرعة وهي تغطي فمها.
تبِعها رويري على الفور.
ما إن دخلت ديانا إلى غرفة تبديل الملابس حتى أغلقت الباب بقوة.
وفي اللحظة التي حاول فيها رويري فتح الباب،
سمع صوت نحيب يأتي من الداخل.
كان صوت بكاءٍ حزين، كمن كتمه طويلًا ثم انفجر في لحظة.
ما الذي يؤلمها إلى هذا الحد، وجعلها تبكي بهذا الشكل المفاجئ؟
في تلك اللحظة، وصل إلى مسامعه صوت ديانا من خلف الباب، مختلطًا بالنحيب.
“…ـيري.”
وفي تلك اللحظة،
شعر وكأن مطرقة قد ضربت رأسه وأفقدته الإدراك.
مستحيل…
تذبذبت عينا رويري الزرقاوان كأن أمواجًا تمر فيهما.
هل يمكن أن تكون ديانا… تحبه؟
انفرجت شفتاه تدريجيًا بدهشة.
شروط إكليبت كانت تقتضي أن يختفي من زمن ديانا،
وأنه لا يمكنه أبدًا أن يكون لها.
ولذا، في كل مرة كانت ديانا تحاول تذكّر شيء من ماضيها معه،
كان جسدها يظهر رد فعل رافض.
حتى عندما اعترف لها بمشاعره، لم تكتفِ فقط بفقدان الوعي،
بل اختفى ذلك الاعتراف من ذاكرتها بالكامل.
فماذا سيحدث إن أحبت ديانا رويري أولًا؟
لا شك أنها لن تتمكن أبدًا من الاعتراف له بمشاعرها.
لأن لعنة إكليبت ستجعلها تظن دومًا أنه من المحظور عليها أن تحبه.
“ها…!”
ضحك يائس خرج من شفتيه حين أدرك الحقيقة.
السبب في أن إكليبت لم يتدخل عند اقترابه من ديانا،
هو هذا بالضبط.
لأنه أراد أن يُعقّد مصيرهما كما يُعقَد الخيط في غزل مشوّه.
انضمامه إلى كاثرين لم يكن سوى وسيلة لإشعال ذروة الصراع في المسرحية التي كان يديرها.
انقبض فكه بشدة. لم يعد يستطيع الوقوف مكتوف الأيدي بعد الآن.
كان عليه أن يجد طريقة لكسر لعنة إكليبت بأسرع وقت ممكن.
مدّ رويري يده على باب الغرفة التي كانت ديانا فيها،
ولمسه بحنان.
كان يتمنى لو يستطيع فتح هذا الباب الآن ليجفف دموعها.
وكان يتوق لأن يحتضن كتفيها الضعيفين اللذين تحمّلا عبء الانتقام طوال هذا الوقت، ويغمر شعرها بأصابعه بلطف.
لكن لم يستطع.
لم يكن بيده أن يفعل شيئًا.
لأنه حتى إن دخل هذه الغرفة،
فإن ديانا ستخفي مشاعرها وتهرب منه.
سحب رويري يده المترددة عن الباب.
ثم حدّق فيه لوهلة،
قبل أن يستخدم الانتقال الآني ويتوجه إلى برج السحر.
الشيء الوحيد الذي يجب عليه فعله الآن،
هو القضاء على مصدر كل هذا البؤس.
***
تحوّلت نظرات رويري نحو مكتبه،
حيث الأوراق الجلدية متناثرة في كل مكان.
كانت كلها عن كيفية التخلص من لعنات الشياطين.
راح يتفحّصها بقلق، لكنه لم يستطع كبح شعور الضيق الذي اجتاحه، فضرب سطح المكتب بقبضة قوية.
رغم أن قوته السحرية تُعد من الأقوى في الإمبراطورية،
إلا أنها لا تضاهي قوة الشياطين.
الشيء الوحيد القادر على مجابهة إكليبت هو ‘القوة الإلهية‘.
وهذا يعني، أنه بحاجة إلى مساعدة المعبد.
فكّر في الكاهن الأعلى في المعبد، فيليبس.
كانت العلاقة بين برج السحر والمعبد سيئة للغاية في الوقت الحالي.
لأن مجالات نفوذهما تتداخل كثيرًا،
فقد تحولت العلاقة بينهما إلى تنافس شرس،
وتفاقم الأمر أكثر بعدما أصبح أماديوس هو سيد البرج.
حتى أن الكهنة والسحرة كانوا يتشاجرون لمجرد تبادل النظرات،
لدرجة أن أماديوس وضع حاجزًا سحريًا قويًا يمنع السحرة من الاقتراب من المعبد.
بسبب ذلك، لم يكن بإمكان رويري حتى التوجه إلى المعبد.
صحيح أن النبلاء أو أفراد العائلة الإمبراطورية لا يشكلون فارقًا لدى سحرة البرج، لكن سيد البرج هو استثناء.
كلمته كانت بمثابة القانون، ليس فقط لأنه أقوى السحرة،
بل لأن كل من يدخل البرج يؤدي قسم الولاء له ويُنقش على قلبه.
ومن يخالف ذلك القسم، حتى إن سامحه سيد البرج،
فإن قلبه ينفجر ويموت فورًا.
وهذا يعني،
إن حاول رويري كسر الحاجز والتوجه إلى المعبد، فسيموت.
تنهد رويري وخرج من غرفته.
ثم صعد إلى أعلى قمة في البرج، حيث غرفة أماديوس.
“سيد أماديوس.”
فتح الباب ودخل الغرفة.
كان أماديوس ينظر من النافذة وهو يحتسي الشاي.
“…هل كنت تستريح؟“
“نعم. هل تود كوبًا من الشاي؟“
“…أجل.”
أجاب رويري بصوت خافت وجلس أمامه.
أمسك أماديوس بإبريق الشاي الضخم وسكب الشاي بلون الزمرد في الكوب، فانتشر عبيره العطر في أرجاء الغرفة.
ثم دفع الكوب نحو رويري.
“شكرًا لك.”
“ولكن، ما الذي جاء بك إلى هنا؟“
سأله أماديوس وهو يشرب الشاي بهدوء.
رويري أمسك بالكوب بكلتا يديه، وسرى دفؤه في جسده.
ثم، وكأنه قد اتخذ قراره، نهض وركع أمامه.
“سيد أماديوس.”
“ما الذي تفعله؟…”
“ألا يمكنك التراجع عن الأمر المتعلق بالمعبد؟“
“هل عدنا إلى هذا الحديث مجدداً؟!”
تقطّب جبين أماديوس فورًا، ووضع كوبه على الطاولة بعنف.
في الواقع، كان رويري قد توسّل إليه عدة مرات من قبل.
وفي كل مرة، كان يُطرد بعد أن يتعرض لتوبيخ قاسٍ.
أحيانًا كان يُعاقب أو يُحبس في سجن البرج.
لكنه لم يستطع التراجع أبدًا.
لأنه مهما بحث، لم يكن هناك حل سوى في المعبد.
“أرجوك، أرجوك أتوسل إليك…”
“كنت أنت من يلتزم الصمت في كل مرة أطلب فيها سببًا وجيهًا،
يا رويري!”
اهتزت نظرات رويري بوضوح.
كان يريد أن يتحدث، لكنه لم يستطع.
لأنه إن أفصح عن الأمر، فسيموت أماديوس.
رغم أنه عنيد ومتشدد،
إلا أنه كان بمثابة الأب الذي رعاه منذ أن دخل إلى البرج.
لم يستطع أن يكون سببًا في موته.
بأقصى ما يستطيع قوله، كان السبب الوحيد الذي يمكن أن يبرر طلبه هو الحب، أو من أجل امرأة، وهو سبب يبدو تافهًا.
“أتريدني أن أنحني لذلك العجوز في المعبد،
فقط من أجل تلك المرأة التي تزعم أنك تحبها؟!”
“… ليس الأمر كذلك!”
“لا أريد حتى رؤيتك. اخرج حالاً!”
ألقى أماديوس بكأس الشاي الفارغة.
فإلقاؤه للأشياء كان أقصى تعبير عن غضبه.
وقد طارت كأس الشاي من يده باتجاه جبين رويري الأيسر.
ولأن الكأس كانت مصنوعة من الخزف وسميكة وثقيلة،
فقد انساب الدم من جبين رويري فور ارتطامها به.
لم يكن أماديوس ينوي رميها باتجاه رويري،
لذا بدا عليه الارتباك للحظة.
أدار وجهه عن رويري وهو يسعل سعالاً خفيفًا.
أما رويري فبقي يحدق فيه بوضوح دون أن يمسح الدم المتدفق من جبينه.
“حتى لو لم تتراجع يا سيدي أماديوس عن أمرك…”
اتجهت عينا أماديوس نحوه.
تابع رويري بصوت حاسم:
“سأذهب إلى المعبد.”
“… ماذا قلت؟“
وكأنه لم يسمع جيدًا.
أعاد رويري تأكيده مجددًا:
“سأذهب إلى المعبد.”
“هاه…”
انطلق من أماديوس ضحكة ساخرة دون إرادة.
صحيح أن قواه السحرية قوية، لكنه لا يزال مبتدئًا لا يملك الخبرة الكافية لاختراق الحاجز السحري الذي وضعه هو بنفسه.
وفوق ذلك، فهو يعلم جيدًا أنه إن خالف أمره بعدم الاقتراب من المعبد، فسيكون مصيره الموت.
“ستموت.”
“أعلم ذلك.”
انخفض رأس رويري بضعف.
“لكن إن بقيت على هذا الحال،
فالحياة ستكون أشد قسوة من الموت.”
سقطت دمعة من عينه الزرقاء كجوهرة لامعة.
عندما رأى أماديوس ذلك، اتسعت عيناه بشدة.
لم يسبق له أن رأى رويري يتألم أو يظهر تعبيرًا على وجهه،
حتى أثناء أصعب التدريبات في برج السحر.
رغم أنه اعتبره كابنه، إلا أنها كانت المرة الأولى التي يراه فيها يكشف مشاعره بهذا الشكل أمامه.
لا بد أن هناك سببًا خلف ذلك.
نظر أماديوس إلى رويري بعينين حادتين،
وفجأة تحطم الحاجز السحري الرقيق الذي كان يحيط به.
“… سيد أماديوس.”
“أيها الوغد… كنت تخفي كل هذا؟“
بدأت هالة مظلمة تتصاعد من حول رويري كالدخان.
كانت آثار السحر الأسود لاستدعاء الشياطين.
ولكي يخفي تلك الآثار،
كان رويري يغلف نفسه بحواجز سحرية متكررة.
لكي لا يدرك أماديوس أن إكليبت يدور حوله.
وبهذا استطاع خداع عيني أماديوس لوقت طويل.
طالما أنه لم يشك بشيء، فلن يشعر بأي خلل.
لكن كل شيء انكشف الآن.
فقد كان واضحًا من مدى تمسكه بالمعبد.
أغمض رويري عينيه بشدة.
تجولت نظرات أماديوس الحادة في أنحاء جسده.
آثار السحر الأسود المنبعثة من رويري.
وتشوّه الزمان والمكان بطريقة غير طبيعية.
عندها فقط أدرك أماديوس الحقيقة كاملة.
“لقد أعدت الزمن.”
كما هو متوقع من سيد برج السحر.
بقي رويري يبكي في صمت دون أن يتفوه بكلمة.
سأل أماديوس بوجه يملؤه المرارة:
“هل كانت ثمينة إلى هذه الدرجة؟“
أومأ رويري بهدوء.
لم يستطع الرد بسبب الغصة في حلقه.
كلما أغمض عينيه، ظهر أمامه مشهد ديانا الميتة بوضوح.
ولهذا أراد فقط أن يحميها هذه المرة.
لكنه لم يستطع.
لم يعد قادرًا على الاكتفاء بالمراقبة من بعيد.
كلما كان معها، أراد أن يعانقها، أن يلمسها، أن يقبلها.
أراد أن يهمس في أذنها بلا توقف أنه يحبها.
أراد أن يسمع منها، بكلماتها هي، أنها تحبه.
لقد كان إنسانًا، لا يستطيع كبح قلبه.
“… أرجوك، أرجوك، أتوسل إليك.”
توسل رويري مجددًا بصوت مرتجف.
قطب أماديوس جبينه بشدة ونهض من مكانه.
ثم مرّ بجانب رويري متجهًا إلى خارج الغرفة.
هل انتهى الأمر هكذا؟
لم يكن باستطاعته كسر هيبة سيد برج السحر من أجل حبه.
نظر رويري إلى الفراغ بنظرات خالية.
هل لن يتمكن من حبها هذه المرة أيضًا؟
غطى اليأس والخيبة كتفيه كجبل ثقيل.
وقبل أن ينهض، سمع صوت أماديوس من خلفه:
“سأساعدك.”
استدار رويري ببطء برأسه إلى الوراء.
“اعتبارًا من هذه اللحظة، ألغي الأوامر المتعلقة بالمعبد.”
وفي تلك اللحظة، انطلق ضوء قوي من جسد أماديوس وانتشر في برج السحر بأكمله.
لم يكن صوته موجهًا لرويري وحده،
بل دوى في آذان جميع السحرة في البرج.
“لا يمكنني أن أرى ساحر البرج يُلعب به من قبل شيطان تافه.”
وقبل أن يتمكن رويري من قول أي شيء،
خرج أماديوس من الغرفة وهو يهمهم باستهزاء.
نهض رويري من مكانه بوجه مفعم بالفرح.
ثم انحنى باتجاه المكان الذي خرج منه أماديوس.
كانت الدموع لا تزال تسيل على وجهه المتهيج بشدة.
لكنها لم تكن دموع حزن هذه المرة.
بل كانت دموع امتزجت فيها الفرحة والأمل،
لأن بإمكانه أن يكون مع ديانا،
ولأنه سيتمكن من كسر لعنة إكليبت والانتقام ممن لعب به.
شدّ رويري قبضتيه بقوة.
الآن، بدأ وقت الانتقام.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 80"