استمتعوا
كانت ملامح ديانا توحي بشيء من التوتر.
راقبها رويري بنظرات قلقة،
محدقًا في عينيها وهي تتفادى النظر إليه.
“نونا…”
هل كان ذلك سعالًا حقيقيًا لا نتيجة الاختناق؟
بدأ يتساءل إن كانت تشعر بتوعك،
وهمّ بأن يسألها إن كانت بخير، ولكن أحدهم ناداه فجأة.
“السيد رويري.”
أدار رويري رأسه ببطء.
وأول ما وقع عليه بصره كان رجلًا غريبًا.
كان يرتدي سترة بيضاء تتوسطها بروش ذهبي على شكل نبتة برسيم صغيرة مرصعة بالألماس.
كان ذلك شعار فرقة الفرسان الخاصة بالإمبراطور.
“من أنت؟“
“… جلالة الإمبراطور يطلب رؤيتك.”
همس الفارس بصوت منخفض.
شعر رويري بوجود أمر غير عادي،
فوقف بهدوء من مقعده، ثم انسحب بخفة من القاعة.
بقيت نظرات ديانا معلقة على ظهره المتراجع.
***
“إلى أين نذهب؟“
الوجهة لم تكن قصر الإمبراطور.
كان من المفترض أن يكون مكتب الإمبراطور داخل ذلك القصر.
رمق رويري الفارس بنظرة ارتياب.
لم يكن الفارس المعتاد الذي يتولى مرافقته،
بل وجهًا جديدًا لم يره من قبل.
شعر الفارس بنظرة رويري، فبدأ يتحدث بهدوء.
“نحن في طريقنا إلى قصر الإمبراطورة،
جلالة الإمبراطور موجود هناك الآن.”
أغلق رويري فمه خجلًا من سوء ظنه.
وتابع الفارس حديثه بوجه جامد.
“وأنا فارس جديد تم تعييني مؤخرًا.”
“… أعتذر.”
أطرق رويري رأسه مسيطرًا على الموقف بسعال خفيف.
وسرعان ما وصلا إلى مدخل قصر الإمبراطورة.
رغم أنه زار القصر الإمبراطوري مرات كثيرة،
إلا أن هذه كانت المرة الأولى التي يدخل فيها إلى قصر الإمبراطورة.
حتى بعد أن كُشف عن كونه ابن الإمبراطور، لم يلتقِ بالإمبراطورة قط، ولا بأي من إخوته غير الأشقاء، مثل ولي العهد أو الأميرات الأخريات.
كان يظن أنهم لن يرحبوا به على أي حال.
فحتى بين النبلاء،
كانت الصراعات دائرة باستمرار حول من سيخلف العرش.
فكيف سيكون حال الأسرة الإمبراطورية؟
من الناحية الرسمية، كان رويري الابن الأكبر للأسرة الإمبراطورية.
ولم يكن من المتوقع أن يلقى ترحيبًا.
توقف رويري لحظة أمام بوابة قصر الإمبراطورة،
وسأل بصوت منخفض:
“هل جلالة الإمبراطورة… هناك آخرون معها؟“
“نعم.”
غطى العبوس ملامح رويري بعد سماعه لإجابة الفارس.
لم يشعر يومًا برغبة في لقاء عائلته.
بالنسبة له، كانت العائلة تتجسد في سيد برج السحرة،
وديانا، والإمبراطور فقط.
“… علي أن أعود لمهرجان السحر…”
“رويري.”
حين همّ رويري بالاستدارة، سمع صوتًا مهيبًا يناديه من خلفه.
استدار ببطء.
“أبي.”
كان من ينظر إليه هو والده، الإمبراطور.
“أتيت إلى هنا، فأين تظن نفسك ذاهبًا؟“
“قيل لي إن هناك آخرين… ولا أعتقد أن مكاني بينهم.”
“لم أطلبك لتعريفك بالعائلة.”
“… المعذرة؟“
تقطب جبين رويري قليلًا، فلم يفهم مقصد والده.
“اتبعني.”
أمال رأسه قليلًا وتبع الإمبراطور.
كانت وجهتهما حديقة داخل قصر الإمبراطورة.
“ما هذا المكان…؟“
رغم سؤاله، واصل الإمبراطور المشي بصمت.
وأخيرًا وصلا إلى شرفة زجاجية داخل الحديقة.
كان بداخلها سيدة لا شك أنها الإمبراطورة،
إضافة إلى شاب وشابة.
“أهلًا بك.”
قالت الإمبراطورة بابتسامة ترحيب وهي تنهض من مكانها عند رؤيته. وتبعها الآخرون واقفين.
بغض النظر عن شعوره، كانت الإمبراطورة زوجة أبيه وأم الأمة،
ولا يمكنه تجاهل البروتوكول لمجرد شعوره بعدم الارتياح.
“أحيي جلالة الإمبراطورة، قمر إمبراطورية إيدِيث.”
“لا حاجة لكل هذا الاحترام.
إن كنت ابن جلالة الإمبراطور، فأنت ابني أيضًا.”
حدق رويري في الإمبراطورة وهي تبتسم بعذوبة.
لم يكن من السهل فهم مقصدها الحقيقي.
“أنا من طلب مقابلتك. لطالما رغبت في رؤيتك.”
أمال رويري رأسه قليلًا. لم يجد سببًا وجيهًا لرغبتها في مقابلته.
ظل واقفًا في مكانه دون أن يفقد حذره.
أشار الإمبراطور إليه بالجلوس.
“فلنأخذ وقتنا في الحديث.”
جلس رويري كما طُلب منه، وبدأ يتفقد الوجوه حوله.
كان الشاب، الذي لا بد أنه ولي العهد،
يبدو أصغر منه بثلاث أو أربع سنوات فقط.
وبجانبه كانت تجلس شابة يُحتمل أنها إحدى الأميرات.
الغريب أنها بدت بنفس عمر ولي العهد تقريبًا.
أومأ ولي العهد، الذي يشبه الإمبراطور بشدة، برأسه تحيةً.
لم يعرف رويري كيف يرد عليه، فاكتفى برد متردد على تحيته.
“دعوتك إلى هنا لأقدم لك شخصًا أود أن تتعرف عليه.”
“لي أنا؟“
“نعم. ولأننا التقينا،
دعوت ولي العهد أيضًا كي ترى شقيقك من دمك.”
لم يبدو أن الإمبراطورة وولي العهد يحملان له أي نوايا سيئة.
رفع رويري فنجان الشاي أمامه وتحدث ببطء.
“من هذا الشخص الذي تودين أن أتعرف عليه…؟“
إن كان لدى الإمبراطورة غرض من هذا اللقاء،
فقد أراد إنهاءه بأسرع ما يمكن ليعود إلى ديانا.
“هيا، يا آنسة. ألقِ التحية. هذا هو رويري، ابن جلالة الإمبراطور.”
توجهت أنظار رويري ببطء نحو الشابة.
بدا أنها ليست أميرة كما ظن، بل من بنات النبلاء.
“تشرفت بلقائك، سمو الأمير.
أنا أنثيا دي آيبرك، الابنة الكبرى لدوقية آيبرك.”
قالت أنثيا بخجل وهي تمسح خصلات شعرها الزهري خلف أذنها.
وكانت تخاطب رويري بـ‘سمو الأمير‘ .
حينها فقط فهم رويري نوايا الإمبراطورة.
رأت الإمبراطورة أن من الأفضل الاعتراف به كأمير بدلًا من تركه يثير القلق كابن خفي للإمبراطور.
ويبدو أنها أرادت تزويج فتاة لا تناسب ولي العهد لكنها تستحق الحفاظ عليها إلى رويري.
ضيق رويري عينيه وهو يحدق في الإمبراطورة.
ردّت بابتسامة بريئة وكأنها لا تعرف شيئًا.
تنهد خفيفًا، ثم تحدث بأكبر قدر من الهدوء:
“سمو الأمير؟ لست سوى ساحر بسيط.”
لهذا لم يرغب في الحضور.
دائمًا ما يتحقق حدسه القلق.
انعقد جبين رويري قليلًا بارتباك.
لا يمكنه النهوض والخروج في حضور والده.
“الإمبراطورة كانت قلقة لعدم زواجك بعد.”
بدا أن الإمبراطور أخذ نية الإمبراطورة بحسن نية.
وحتى لو لم تكن نيتها صافية،
فطبيعي كأب أن يقلق على ابن بالغ لم يتزوج بعد.
“لقد تجاوزت العمر المناسب يا رويري.”
“أبي، أنا…”
“سأعلنك رسميًا كابني الأكبر.”
قال الإمبراطور بنبرة حازمة.
“صحيح أن ولي العهد موجود،
لكنك أيضًا ابني… فلا مانع من التنافس على العرش.”
صُدمت الإمبراطورة بكلمات الإمبراطور، ونظرت إليه باندهاش.
“المعذرة؟ ماذا تعني، جلالة الإمبراطور؟
لدينا بالفعل ولي العهد فولفرام!”
اهتزت نظراتها كأمواج البحر.
وسارع رويري بالكلام، فلم يرغب بإثارة مشاكل لا داعي لها.
“… ليست لي أي رغبة في العرش.
وإن أردتم، أستطيع أن أُقسم على حياتي في هذه اللحظة.”
تنهدت الإمبراطورة وولي العهد بارتياح بعد سماع رده.
“همم. حسنًا. ولكن مع ذلك، لا بد لك من الزواج. آنسة آيبرك تتمتع بالحسب والجمال، ولا ينقصها شيء. إنها مناسبة جدًا لك.”
نظر الإمبراطور إلى رويري وأنثيا بالتناوب بنظرة راضية.
لقد بدوا كثنائي مثالي.
وجه رويري أنظاره إلى أنثيا بجانبه.
كانت شابة جميلة ومميزة بحق.
لكن…
“أبي، أنا…”
ظهرت ملامح ديانا في ذهنه.
كانت أجمل ما في حياته، بل أجمل ما في هذا العالم.
حتى آثار الزمن التي لا يفلت منها أحد،
لم تقدر على النيل من جمالها.
لم يكن جمال ديانا محصورًا في المظهر.
بل ينبع من قلبها الصلب كالألماس،
الذي يعرف كيف يقدّر كل إنسان.
ومن تلك الدفء الصادق،
الذي دفعها إلى التضحية بنفسها من أجل طفل يتيم.
“لا أفكر بالزواج في الوقت الحالي.”
نهض رويري من مكانه.
لقد اشتاق إلى ديانا بجنون.
“رويري!”
“أعتذر، أبي. وأعتذر، آنستي.”
“أوه…”
أخفت الإمبراطورة وجهها خلف مروحتها.
ربما كانت تحاول كتمان ضحكتها بعد سماع تأكيده بعدم رغبته في العرش.
“آه، وبالمناسبة، أقول هذا تحسبًا فقط… لكنني حقًا لا أهتم بالعرش، لذا من الأفضل ألا تقلقوا بلا سبب، جلالتكم.”
قال رويري بنظرة باردة وهو ينظر إلى الإمبراطورة وولي العهد بالتناوب.
“لو كنت أطمع في العرش،
لكنت استخدمت هذه القوة منذ زمن بعيد.”
اندلعت شعلة صغيرة من يد رويري.
ارتجفت كتفا الإمبراطورة وولي العهد وهما يبلعان ريقهما بتوتر.
“رويري! لكن، الزواج على الأقل…!”
لم يرَ رويري حاجة لسماع المزيد من الإمبراطور.
انحنى برأسه احترامًا له، ثم نظر إليه بعينين حازمتين وتحدث.
“أنا، لدي امرأة أحبها بالفعل.”
وبهذه الكلمات، غادر رويري الحديقة.
شعر بأن الإمبراطور يناديه من خلفه،
لكن خطواته كانت تمضي بسرعة بالفعل.
***
عندما وصل رويري إلى قاعة الحفل، نظر حوله.
وبما أن المكان لم يكن صاخبًا،
فقد بدا أن الحدث لم يبدأ بعد، ولحسن الحظ.
“سموك.”
في تلك اللحظة، سحب أحدهم طرف رداء رويري.
كانت نفس الصوت الذي سمعه منذ قليل.
التفت رويري بوجه متفاجئ.
وكما توقّع، كانت أنثيا هي من أمسكت بردائه.
“أنا حقًا معجبة بك سمو الأمير.”
“…وهذه مصيبة. فأنا لا أبادلك الشعور.”
“لا يهم. قد يُسلب مني لقبي كدوقة على يد أختي غير الشقيقة التي لا تربطني بها قطرة دم. لذا أريد أن أمسك بيد الأمير قبل أن يحدث ذلك.”
“ولست أنوي أن أكون أميرًا.”
اقتربت أنثيا من رويري الذي همّ بالاستدارة مبتعدًا.
ثم اقتربت من شفتيه وكأنها تحاول إغراءه.
توقفت شفتيها على بعد مسافة قصيرة جدًا منه، تكاد تلامسه.
تفاجأ رويري ودفعها برفق بعيدًا.
لحسن الحظ، لم يكن هناك أحد في الممر.
“تزوجني رويري.”
“…أرفض.”
“عليك أن تتزوج في النهاية. ألا تحلم بالزواج؟“
ارتجف جسد رويري قليلاً.
الحلم بالزواج… نعم، كان لديه هذا الحلم.
وتحديدًا، كان حلمه هو الزواج من ديانا.
“أن تتزوج بامرأة جميلة، وترزق بأطفال،
وتعيش معها حياة هادئة… أليس هذا ما تتمناه؟“
اهتزت نظرة رويري عند سماعه لكلماتها.
نعم، هذا بالضبط ما كان يتمناه بشدة الآن.
أن يحب ديانا ويعيش معها بسعادة.
“أرأيت؟ أنت تريده أيضًا.”
ومن خلف الجدار، كانت ديانا تضع يدها على فمها بذهول،
وقد استمعت مصادفة إلى حديثهما،
وظهرت على وجهها ملامح الصدمة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 78"