استمتعوا
ما إن تركت أليشيا خلفها وعادت إلى غرفتها،
وكان الوقت قد تجاوز الظهيرة بالفعل.
رغم أنها أكدت بالأمس على ضرورة الحضور كل صباح،
لم تظهر كاثرين حتى بعد مرور الوقت.
طفلة لا تطيع حتى والدتها، فكيف ظننتُ أنها ملاك؟
لا بد أنني كنت مخدوعة بها تمامًا.
تنهدت ديانا بمرارة ثم نادت على إحدى الخادمات.
دخلت إحداهن مسرعة من الردهة.
“أنتِ هناك.”
“نعم، سمو الدوقة!”
“أحضري كاثرين.”
فزعت الخادمة من نبرة ديانا المتعالية وتوجهت فورًا إلى غرفة كاثرين.
“انستي، سمو الدوقة تناديكِ.”
“ماذا؟”
قطبت كاثرين جبينها فور سماعها اسم الدوقة.
بالطبع، كانت تتذكر جيدًا ما قالته ديانا بالأمس.
ذاك الطلب السخيف بأن تعتني بها كل صباح.
ومن طلب منها أن تهبني بصرها؟ لم يُجبرها أحد.
هي من قررت ذلك بنفسها.
بل، وهبته وهي بكامل قواها وبصرها.
ارتسمت على شفتي كاثرين ابتسامة خبيثة.
عندما تذكرت وجه ديانا المملوء بالعزيمة وهي تهبها بصرها،
كادت تنفجر من الضحك.
يا لِتلك النظرة الساذجة!
“انستي…”
حاولت الخادمة من جديد مناداة كاثرين التي لم تتحرك قط،
وهي تضرب الأرض بقدميها قلقًا.
“آه، فهمت. لمَ العجلة؟”
قالت كاثرين وهي تنفجر غضبًا،
ثم أمسكت بطرف فستانها ونهضت من مكانها.
على أي حال، بما أن والدتي قالت لي أن أتحمل لفترة،
فما علي سوى التظاهر بأنني الابنة الطيبة كما كنت أفعل دائمًا.
حينها ستنخدع تلك المرأة الحمقاء وتظن أنني ابنتها المحبوبة، كاثرين!
ضحكت كاثرين في سرّها على ديانا وهي تبدأ بخطواتها.
وعندما وصلت إلى الباب، رتبت صوتها لتخرج نغمة رنانة كصوت طائر الكناري الذي تحبه ديانا كثيرًا.
“أمي، لقد أتيت.”
“ادخلي.”
عندما فتحت كاثرين الباب،
رأت ديانا جالسة أمام طاولة مكدسة بالكتب.
بلا بصر، ومع ذلك جمعت كل هذه الكتب؟
تمتمت كاثرين وهي تجلس أمامها بعبوس.
“أمي.”
“لقد تأخرتِ.”
“ماذا؟”
رغم أن ديانا كانت توبخ كاثرين بلطف في السابق،
لم يحدث أن وبختها بهذه الصراحة.
ظنت كاثرين أنها سمعت خطأً، فردّت دون قصد.
لكن ديانا ابتسمت بهدوء وقالت مجددًا،
بنبرة فيها شيء من الإحراج الطفيف:
“ألم تسمعي؟ قلت إنكِ تأخرتِ.”
“آه، آسفة. لقد نسيت، أمي.”
نظرت إليها كاثرين بدهشة،
لكنها تمالكت نفسها وأظهرت دلالها المعتاد بصوت مفعم بالنعومة.
كانت متأكدة أن دلالها سيفلح.
فهي تحبها أكثر من حياتها نفسها.
لكنها كانت مخطئة.
فديانا ردّت بنبرة باردة مليئة باللوم:
“الالتزام بالوقت هو من الأساسيات لدى الانسة الراقية، كاثرين.”
اهتزت عينا كاثرين البنفسجيتان.
هل أصيبت بالجنون مع فقدان البصر؟
طحنَت أظافرها فوق الطاولة.
“أنا أعلم، أمي.”
“من الأفضل الالتزام به بدقة من الآن فصاعدًا.”
وبينما كانت ديانا تتابع توبيخها، عضت كاثرين شفتها.
ثم خطر في بالها أمر، فشخرت بخفة.
بالطبع، لم تنزل دمعة واحدة من عينيها.
طالما أنها لا ترى، فلن تلاحظ.
يكفي صوت البكاء فقط.
“هك… آسفة، كنت أقرأ حتى وقت متأخر البارحة…”
حتى التظاهر بالبكاء؟ كاثرين بدأت تمثل بجرأة،
دون أن تدري أن ديانا تراها بوضوح.
يا له من مشهد ساخر.
ربما عليها أن تذهب لفرقة مسرحية!
إنها موهوبة جدًا، كوالدتها الدنيئة.
لكن ديانا لم تُبدِ أي ردة فعل.
فتوقفت كاثرين عن التظاهر ونظرت إلى وجهها بحذر.
لكن وجه ديانا كان محجوبًا فلم تستطع قراءة تعبيراتها.
ثم تنهدت ديانا بصوت خافت.
بدا أن هذا التنهد يلومها على كونها في الخامسة عشرة من عمرها، ومع ذلك تبكي.
سعلت كاثرين بخجل.
مدت لها ديانا بعض الكتب من فوق الطاولة.
“ها هي الكتب.”
“… لماذا جلبتِ كل هذه الكتب؟”
“لم أعد أستطيع قراءتها، أليس كذلك؟
سيكون من الجيد لو ساعدتِني.”
“أنا؟”
نظرت كاثرين سريعًا إلى الكتب، بدت سميكة جدًا.
شعرت أنها ستقضي اليوم كله في قراءتها.
“الكثير من الخادمات لا يعرفن القراءة، وأنا أحب صوتكِ.
يمكنك فعل ذلك لأجلي، أليس كذلك؟”
“… نـ، نعم.”
لم تستطع إظهار رفضها، فابتسمت ابتسامة مزيفة.
تحسست ديانا الكتب ثم اختارت أسمكها، وطرقته بأصابعها.
“لنبدأ بهذا اليوم.”
رغم شعورها بالغضب، أمسكت بالكتاب وبدأت القراءة.
كان كتابًا عن السحر.
دارت عيناها من صعوبة الموضوع،
لكنها لم تستطع أن تعترف بعجزها عن الفهم.
بدأت كاثرين تقرأ بصوت ناعم وببطء.
جلست ديانا على كرسيها بارتخاء وكأنها تستمتع بمقطوعة موسيقية كلاسيكية.
وبعد مرور ساعة، نظرت كاثرين خلسة إلى وجه ديانا.
كانت جالسة في نفس الوضع.
ظنّت أنها ربما نامت، فتوقفت عن القراءة بهدوء.
“تابعي القراءة.”
“… ألم تكوني نائمة؟”
“كنت أستمع، كاثرين.”
كاد وجه كاثرين أن يبكي. فقد بدأ حلقها يؤلمها.
“… أمي.”
لم أعد أتحمل.
أغلقت كاثرين الكتاب بقوة وقالت بلهجة تحمل قليلًا من الغضب:
“حلقي يؤلمني.”
“ماذا؟”
“لقد قرأتُ لأكثر من ساعة.”
لم تجب ديانا. كانت تعرف جيدًا طبع كاثرين.
في الماضي، عندما كانت تحبها،
لم تكن تُشير إلى ذلك، لكنها كانت دائمًا صبورة قليلاً.
ولكن في الحقيقة، كاثرين لم تكن تملك الكثير من الصبر.
وكان من المتوقع أن تتململ بهذه السرعة.
ديانا أخفت ابتسامتها، ثم قالت بعد برهة:
“كاثرين.”
اهتز جبين كاثرين من نبرة ديانا الباردة.
“… نعم، أمي.”
“أنتِ الآن في الخامسة عشرة، ويبدو أنني دللتكِ كثيرًا.”
“… ماذا؟”
لم تستوعب كاثرين ما يجري.
ماذا تقصد تلك المرأة التي كانت دائمًا تظهر لها حبًا أعمى؟
استمرت ديانا في الحديث، وكأنها عاصفة تقتلع كل شيء:
“لم اكن أريد أن أقول هذا، لكن لا يمكنني الصمت أكثر.
سواء تأخرتِ بسبب القراءة أو أي سبب آخر،
التأخير هو تأخير. ثم تظاهرتِ بالبكاء.”
صُدمت كاثرين، لكن ديانا لم تتوقف:
“ولم أتوقع أن تتذمري بهذا الشكل من مجرد قراءة كتاب لوالدتكِ.”
“أمـ، أمي.”
“يبدو أنكِ بحاجة إلى عقاب.”
“عـ، عقاب؟”
عقاب؟! لم تتعرض كاثرين لأي عقوبة من قبل،
فشحب وجهها فجأة.
“ما هو العقاب…”
أعطتها ديانا ورقة. كانت جدول مواعيد كاثرين.
“على ما أذكر، سيأتي غدًا السيد الشاب سوير من دوقية إيبرك.”
“نعم. صحيح.”
كان سوير من عائلة إيبرك، الشاب الذي تحبه كاثرين،
ورغم أنهما لم يرتبطا رسميًا، إلا أن هناك حديث زواج بينهما.
وقد كانت ديانا هي من رتبت لهما هذا اللقاء،
بعد أن لاحظت مشاعر كاثرين نحوه.
لكن ذلك كان قبل أن تفقد ديانا بصرها.
والآن بعد أن عرفت حقيقة مشاعر كاثرين الزائفة،
لم تعد هناك أي حاجة لتكون لطيفة معها.
وجب كسر تلك الخطوبة. لأن كاثرين لا تستحق السعادة.
قالت ديانا بصوت منخفض مملوء بالمرارة:
“انسة لا تستطيع حتى احترام وقت العائلة وتختلق الأعذار، كيف أقدمها للأمير؟ سنؤجل اللقاء. حتى تُظهري احترامًا أكبر للوعود.”
“لكن…”
لو كنت أعلم، لجئت رغمًا عني.
شعرت بالمرارة وبدأت تبكي فعلًا.
كم كانت تتطلع لهذا اللقاء!
حتى لو أخبرت الدوق، فلن يستطيع مساعدتها.
وأليشيا لا تملك أي سلطة.
الوحيدة التي تستطيع تزويجها من سوير وجعلها دوقة حقيقية، كانت ديانا، ويا للمفارقة.
“أنتِ…”
وقد آن أوان الجزرة بعد العصا. ابتسمت ديانا وتحدثت مجددًا.
الوحوش تحتاج إلى مدرب يناسبها.
وديانا كانت تنوي أن تروض كاثرين.
عليها أن تُشعر كاثرين أن أليشيا لا تملك القوة،
بينما هي، ديانا، هي من تحتاجها أكثر.
“…”
مسحت كاثرين دموعها.
هذه المرة، كانت تبكي فعلًا.
لكنها خافت أن تُظهر ذلك فتُلام مجددًا.
“إن استمعتِ لي جيدًا، سأرتب لكِ لقاءً آخر مع الأمير.”
“حقًا؟”
قالت كاثرين بصوت مبلل بالدموع، وهي تنظر إلى ديانا.
كانت ديانا تبتسم ابتسامة دافئة، كما كانت قبل فقدان بصرها.
“بالطبع. ابنتي العزيزة، كاثرين.”
“لن أتأخر مجددًا أبدًا!”
“جيد.”
ابتسمت ديانا وهي تنظر إلى كاثرين التي بدت سعيدة للغاية.
وكانت كاثرين تلمع عيناها بالأمل، ظنًا أن الفرصة لم تذهب تمامًا.
دون أن تعلم،
ما الأفكار السوداء التي كانت تُخفيها ديانا في قلبها.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 7"