استمتعوا
“ككك، لا شك أنك ساحر عظيم. لقد شعرت بوجودي بهذه السرعة.”
استدار رويري نحوه، وحدّق به بنظرة باردة كأنها مكسوة بالصقيع.
“كنت أعلم منذ البداية. أيها الوغد القذر.”
“القذر هو أنت.
تتظاهر بإخفاء مشاعرك الدنيئة بينما تدور حولها.”
“بالنسبة لك، قد يبدو الأمر كذلك.”
بدا أنهما يعرفان بعضهما البعض جيدًا.
اقترب إكليبت منه وهو يبتسم ابتسامة خبيثة،
ثم أمسك بذقن رويري الذي كان جالسًا على المقعد ورفعه.
“لم أفعل سوى ما كنت تريده.”
“ما كنت أريده؟ ها.”
انطلقت ضحكة ساخرة من فم رويري.
“ما كنت أريده هو…”
“لقد جعلت هذه المرأة تتألم أكثر بسبب جشعك، رويري.”
كان يخاطب أعماق قلبه بإصرار.
وأضاف إكليبت كلمات موجعة إلى رويري الذي لم يرد.
“كل ما تعانيه هذه المرأة هو بسببك.”
قال ما لم يرد رويري سماعه من أي شخص، متعمدًا إيلامه.
“اصمت!”
لهث رويري بغضب وحدق في إكليبت،
وكان في عينيه بريق حاد كالسيف.
ضحك إكليبت بصوت مرتفع،
فمتعة الشيطان كانت دائمًا في رؤية البشر يتألمون.
اقترب بفمه من أذن رويري وهمس بكلمات لزجة:
“هل تريد أن تمتلك هذه المرأة؟“
“أغلق فمك القذر.”
قالها رويري وهو يعض على أسنانه، بصوت تحذيري.
لكن إكليبت بدا وكأنه يستمتع كثيرًا بردة فعله،
وأخذ يدور حوله قائلاً:
“يا لها من قصة حب مؤلمة.
رغم أنها لا تتذكرك، إلا أنك أعدت الزمن من أجلها.”
“قلت لك أن تصمت!”
انطلقت شعلة من يد رويري،
لكن إكليبت تفاداها بسهولة وانفجر ضاحكًا.
“سأراقبك، لأرى ما سيؤول إليه هذا الحب!”
ثم اختفى وسط نيران سوداء.
حلّ الصمت في الغرفة،
ولم يبقَ سوى صوت أنفاس رويري المتسارعة.
جلس مجددًا على المقعد منهارًا من التعب.
ثم أخذ يحدق إلى وجه ديانا،
التي ما زالت تتنفس بعمق وهي نائمة.
هل كان ما فعله صحيحًا؟ أن يعيدها إلى حياة يملؤها الانتقام؟
لقد جاء إكليبت إلى هنا لزعزعة كيانه.
ورغم أنه كان يعلم ذلك، لم يستطع منع نفسه من الشعور بالعذاب.
“…أنا آسف، نونا.”
اهتز صوته بالبكاء.
أغلق عينيه بإحكام، وانسابت دمعة ندم من عينه.
***
أول مرة التقى فيها رويري بديانا كانت في ميتم ‘أنجلينا‘.
قال إنه تُرك عند بوابة الميتم فور ولادته.
الصبي الذي لم يتذوق حليب أمه ولو مرة،
نشأ عاجزًا عن بناء علاقات جديدة مع الآخرين.
كان قلبه يتوق للاختلاط بالناس،
لكنه كان يتعمد الكلام بفظاظة ليبعدهم عنه.
كان يعتقد أن أي صداقة سيكوّنها ستنتهي بالتخلي عنه مجددًا.
وهكذا استمرت جراحه في التعمق، حتى أفسدت قلبه الصغير.
من شدة خوفه من التخلي، كان يقسو على نفسه مرارًا وتكرارًا.
لهذا كان دائمًا وحيدًا.
في أحد الأيام،
انتشر الحماس في الميتم لأن أحد الداعمين قرر زيارته.
كان الأطفال مبتهجين منذ الصباح.
فلا بد أن الداعم سيجلب طعامًا وملابس كثيرة.
دخلت عربة فاخرة إلى الميتم،
وتم إنزال صناديق مليئة بالأغراض منها.
كان الأطفال في سن رويري ينظرون إلى الصناديق بعيون متألقة، يتساءلون عما تحتويه.
لكن رويري الصغير كان جالسًا بمفرده على التل.
“همف.”
لم يرد أن يمد يده لأحد لا يعرفه،
حتى لو كان سيحصل على شيء بالمقابل.
“ما الشيء الجيد في هذا؟“
جلس تحت الشجرة، عانق ركبتيه ودفن وجهه بينهما.
لم يكن هناك شيء ممتع في الحياة.
كل شيء كان مملًا ومكررًا.
كونه طفلًا تُرك بعد ولادته مباشرة،
تلك الحقيقة كانت تنخر في قلبه الصغير.
كان يعتقد أنه بلا قيمة.
“رويري!”
صعد مدير الميتم، جوزيف، التل غاضبًا.
كان سمينًا للغاية، رغم فقر الميتم،
ويتصبب عرقًا حتى من هذا التل الصغير.
“ماذا؟“
رد رويري بفظاظة، لكن يد جوزيف السمينة صفعت خده فجأة.
صوت الصفعة كان مدويًا على التل.
وانتفخ خد الصبي الصغير بسرعة.
“ألم أقل لك أن تبقى داخل الميتم حين يأتي الزائر المهم؟!”
ورغم أنه ضربه، لم يهدأ غضب جوزيف واستمر في اللهاث غيظًا.
بدا أن هذا لم يكن أول موقف من هذا النوع،
فرويري لم ينبس ببنت شفة وأدار وجهه بعيدًا.
“تجرؤ على تجاهل كلامي،
وأنت تملك هذا اللون المشؤوم من الشعر؟!”
رأى يده تقترب منه مرة أخرى، فأغمض عينيه بشدة.
ثم سُمع صوت صفعة أخرى، لكن لم يكن هناك ألم على خده.
فتح رويري عينيه ببطء.
أمامه، كانت تقف امرأة بشعر ذهبي يتطاير خلفها.
وخدها الرقيق كان قد تورم بالفعل.
“هاه، آنسة!”
“مدير الميتم يعنّف طفلاً بهذه الطريقة؟ سأُخبر والدي فورًا!”
“لا، ليس الأمر كذلك…!”
“إن لم تختفِ من أمام عيني فورًا، فلن تنتهي الأمور بطردك فقط.”
قالت الانسة بصوت مهيب لا يليق بجسدها الصغير.
هرب جوزيف وهو يطلق صوتًا غريبًا لا هو ببكاء ولا هو بصراخ.
“مرحبًا!”
نظر رويري بدهشة إلى تلك الانسة التي ترتدي فستانًا جميلًا،
يتفحصها من رأسها حتى قدميها.
بذلك الفستان الثقيل المليء بالدانتيل،
لا بد أن الصعود إلى التل كان شاقًا عليها.
هل هذه هي النبيلة التي تُعد من الداعمين؟ يداها الناعمتان الخاليتان من أي ندبة وشعرها الذي يبدو حريريًا بوضوح.
من المؤكد أنها ابنة عائلة مرموقة لم تعانِ يومًا في حياتها.
ولكن، أن تتلقى صفعة بدلاً منه من ذلك الرجل؟
لم يكن ليصدق ما رأى حتى بعد حدوثه.
“اسمي ديانا، وأنت؟“
ورغم ردّ فعله البارد، ابتسمت ديانا بلطف وتحدثت برقة.
لكن رويري ظلّ صامتًا، ثم دفن وجهه مرة أخرى بين ساقيه.
لم يكن من المفيد أن تتورط معه.
كما قال جوزيف، شعره أحمر كلون الدم، لون مشؤوم.
لم يرد أن تُصاب هذه الانسة،
التي تبدو مختلفة عن بقية النبلاء، بسوء بسببه.
ظن أنه إن تجاهلها أكثر فستغادر.
رفع رأسه قليلًا.
لكنها كانت لا تزال تنظر إليه بعينيها الزمرديتين الجميلتين وهي ترمش بانتظار جوابه.
هبّت نسمة دافئة. وشعرها الذي يشبه أشعة الشمس لامس خده.
بذلك الإحساس الدافئ والدغدغة، احمرّ خده خجلًا.
“لون شعرك جميل حقًا. يُشبه أكثر وردة أحبها.”
اقتربت ديانا من رويري فجأة وأمسكت بخصلات من شعره.
في تلك اللحظة، بدا له لون شعره،
الذي اعتاد الناس أن يصفوه بالمشؤوم، جميلًا لأول مرة في حياته.
لكن رويري كان لا يزال طفلًا.
أعجبه اهتمامها لكنه لم يشأ أن يظهر ذلك، فلوى شفتيه.
ثم سحب شعره بقوة من يدها.
رأت ديانا ذلك المشهد اللطيف وابتسمت بعينيها اللامعتين.
لأول مرة شعر وكأن الرؤية أمامه أصبحت واضحة.
هل سبق لأحد أن ابتسم له بهذه الطريقة؟
كان يشعر دائمًا بأن الظلام يحيط به ويثقل كاهله.
لكن عندما رأى تلك الابتسامة،
شعر أن الظلمة تلاشت وكأنه أصبح خفيفًا كريشة.
رآها كضوء يشق طريقه عبر الظلام الذي كان يغلفه.
فتح رويري فمه ببطء وكأنه تحت تأثير سحر.
“…ـري.”
“هم؟ ماذا قلت؟“
“أنا رويري.”
اتسعت عينا ديانا دهشةً وهي تنظر إليه، ثم ابتسمت وقالت:
“تشرفت بلقائك، رويري.”
ذلك كان لقاؤهما الأول الذي غيّر مصيرهما.
***
“أنت تملك موهبة حقيقية، رويري!”
منذ ذلك الحين، ظلت ديانا تزور رويري بانتظام.
ليس كداعمة، بل كصديقة.
رغم أنه حاول إخفاء مشاعره، كان قلبه ينفتح شيئًا فشيئًا نحوها.
وذات يوم، شعرت ديانا مصادفةً بتدفّق المانا من رويري.
كانت المانا المنبعثة منه قوية جدًا، لدرجة أن ديانا،
التي كانت لا تزال مبتدئة، استطاعت أن تشعر بها.
أصرت عليه أن يتعلم السحر بجدية.
لكن ردّ فعله كان فاترًا.
“وماذا في ذلك؟ سأظل مجرد ساحر من الدرجة الدنيا.”
“لا، دعنا نجرب. حسنًا؟ سأساعدك.”
أجابها بجفاء.
‘ساحر‘، كلمة وحدها تجعل القلب ينبض بالحماس.
إن أصبح ساحرًا، فلن يهم النسب أو المكانة،
بل الموهبة وحدها هي التي تُحدد قيمة الإنسان.
للحظة، لمع بريق في عينيه من شدة الحلم.
لكنه هز رأسه بسرعة.
لم يرد أن يأمل في شيء ثم يُصاب بخيبة أمل.
“هاه؟ رويري!”
لكن ديانا لم تيأس.
ظلت تلحّ عليه.
نظر إليها رويري بطرف عينه.
كانت مختلفة عن الآخرين، دائمًا تقول ما تقصده بصدق.
لو كانت تنصحه بأن يصبح ساحرًا،
فبلا شك، كانت تفعل ذلك من أجله فقط.
لذا، هز رأسه بالموافقة كأنه لا يجد مفرًا.
“حسنًا.”
“حقًا؟ إذًا، عِدني!”
“وعد؟“
“نعم، لنربط إصبعينا الصغيرين!”
“…تتصرفين كالأطفال.”
قالها بجفاء، لكنه ربط إصبعه بإصبعها كما طلبت.
قفزت ديانا فرحًا، قائلة إنها سترسل خطابًا إلى برج السحر.
رأى فيها مشهدًا لطيفًا، فابتسم دون أن يشعر.
“هاه؟“
“هم؟“
“هل ابتسمت الآن؟“
“…هاه؟“
كان نادرًا ما يبتسم.
رمشت ديانا بدهشة ثم ابتسمت بوجه مشرق وضربت كتفه برفق.
“ابتسامتك جميلة جدًا. حاول أن تبتسم دائمًا، رويري.”
هل أنا حقًا لا أبتسم كثيرًا؟ تمتم رويري خجلًا.
“…أن تقولي عني إنني جميل، وأنا رجل، ديانا.”
احمرّ وجهه بلون شعره.
انفجرت ديانا بضحكة صافية لرؤيته هكذا.
وفي النهاية،
ابتسم هو أيضًا ابتسامة خفيفة أثناء سماعه ضحكتها.
كيف يمكن ألا يُحب امرأة مثلها؟ هو مجرد يتيم، لا يملك شيئًا.
بل وكان يعاملها ببرود.
لكنها لم تتخلَّ عنه.
بل أولته عناية لم تتوقف.
دون أن يدرك، كان يحبها كامرأة.
عندما أدرك مشاعره، التحق ببرج السحر.
وحينما اخبره رئيس البرج إن موهبته تُعد نادرة،
تدرّب بجنون ليصبح رجلًا يليق بها.
منذ أن دخل برج السحر، لم يرد على أي رسالة من ديانا.
كان يفتقدها بجنون، لكنه تحمّل.
كان يؤمن أنه عندما يُصبح ساحرًا عظيمًا،
يمكنه أن يكون شريكًا لديانا، ابنة الماركيز.
بفضل موهبته الفذّة،
استطاع أن يحصل على لقب الساحر الأعظم في سن صغيرة.
وفي اليوم الذي نال فيه ذلك اللقب، قصد قصر الماركيز أولًا.
وفي يده باقة من زهور الفريزيا من أجلها.
لم تكن زهورًا فخمة، لكن عبيرها الناعم يشبه ديانا تمامًا.
دخل رويري إلى القصر بوجه مفعم بالحماس.
لكن هناك شيء ما كان غريبًا.
بدا وكأن هناك حفلًا، فقد كانت العربات مصطفة حول القصر.
نظر حوله ودخل القصر.
وكان النبلاء في ملابسهم الفاخرة يملؤون المكان.
سار رويري مع جموع النبلاء إلى قاعة الحفل.
ثم، فتح فمه ببطء مذهولًا مما رأى.
وسقطت باقة الزهور من يده بلا حول.
ذلك اليوم… كان يوم زفاف ديانا.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 66"