استمتعوا
“ أمي، تناولي الدواء.”
“ لستُ طفلة، أستطيع أن أتناوله بنفسي…”
مرّت عدّة أيام منذ أن تسببت أليشيا بالمشكلة.
وبدت وكأنها تراجعت عن تصرفاتها،
فلم تخرج من غرفتها منذ ذلك الحين.
حتى وجباتها كانت تتناولها داخل الغرفة.
قامت آيسيل بتسخين الدواء الذي أُرسل من برج السحر بعناية،
وقدّمته إلى ديانا.
وفي الرسالة المرفقة من رويري، كُتب أن الدواء مصنوع من أعشاب نادرة لا تنبت إلا في غابة السحر، وهو دواء ممتاز.
“ أردتُ فقط أن أعتني بك.
هناك أشياء كثيرة لم نتمكن من فعلها معًا.”
“ شكرًا لك، ابنتي.”
ابتسمت ديانا برقة وهي تتناول الكوب الذي يحتوي على الدواء من آيسيل.
“ تبدين في حالة جيدة، نونا.”
“ رويري!”
نقَرَ رويري على النافذة المغلقة.
ففتحت ديانا النافذة على عجل وهي تبتهج،
واحمرّ وجهها فورًا عندما رأت رويري.
آيسيل كانت تراقب وجه والدتها بتمعّن.
“ كيف حالك، انستي الصغيرة؟“
“ مرحبًا.”
أمسكت آيسيل طرف فستانها بكلتا يديها وانحنت بأدب لتحيته.
“ هل أنتِ بخير؟ لم أكن متأكدًا مما إذا كنا نستطيع إجراء الدرس اليوم، لذلك أتيتُ فقط لأتأكد.”
“ بفضلك، أصبحتُ أفضل بكثير.”
كان هناك شيء غير طبيعي في الأجواء بينهما.
نظرت آيسيل إلى وجه والدتها مرة، ثم إلى وجه رويري مرة أخرى،
ثم أمسكت بمقبض الباب وهي تبتسم.
“ إذن، سأترككما الآن. استمتعي بالدرس، أمي!”
“ نعم، أراكِ بعد قليل.”
ظلت ديانا تنظر إلى ظهر آيسيل وهي تغادر الغرفة،
ثم التفتت بابتسامة دافئة.
أما رويري، فقد كان يحدّق بها بعينين أكثر دفئًا.
“ آه، آسفة. بدوتُ وكأنني أمّ تفتخر بابنتها كثيرًا، أليس كذلك؟“
قالت ديانا بخجل وهي ترفع شعرها خلف أذنها.
هزّ رويري رأسه وهو ما زال يحتفظ بتلك الابتسامة الحنونة على وجهه.
“ أبدًا.”
ثم ابتسم بعينين مليئتين بالسعادة،
ليس كعادته الماكرة، بل بابتسامة صافية تمامًا.
“ تبدين جميلة جدًا.”
احمرّ وجه ديانا الذي كان قد بدأ يحمر من قبل،
حتى بدا وكأنه سينفجر من شدة الخجل.
بدأ قلبها ينبض بسرعة كبيرة.
يا إلهي، كم أنا سخيفة. إنه فقط شخص ودود.
راحت ديانا تلوّح بيدها كأنها تروّح عن نفسها لتُهدئ نبض قلبها،
لكن قلبها لم يهدأ بسهولة.
“ إذًا، بما أنني تحسّنت، هل نبدأ الدرس؟
كنتُ أحاول تنفيذ رمح الجليد الذي أردتُ صنعه سابقًا…”
تلعثمت وهي تطلق المانا من جسدها.
وفي لحظة، ارتفع رمح جليدي حاد من الأرض.
“ انظر، لقد تدربت كثيرًا كما علّمتني المرة الماضية.”
كانت ديانا تنظر إليه بعينين تلمعان وكأنها تطلب المديح مثل جرو صغير.
كان طرف الرمح الجليدي حادًا بشكل خطير.
لكن وجه ديانا الذي كان متوردًا بدأ يعبس شيئًا فشيئًا.
شعرت فجأة بإرهاق شديد.
منذ أن عادت بالزمن،
وهي تعيش بحذر مفرط، وقد تراكم عليها التعب.
حتى الحفلة التي كانت ستستمتع بها قديمًا، اضطرت إلى التخطيط والحذر فيها طوال الوقت، وكانت حذرة دائمًا من أليشيا.
كانت تُغمض عينيها ببطء،
بينما رويري يراقبها بهدوء، ثم قال بوجه جاد:
“ نونا.”
“ نعم؟“
سألته ديانا باستغراب، فابتسم رويري بمكر وسأل:
“ ما رأيكِ بدرس في الهواء الطلق اليوم؟“
“ في الهواء الطلق؟“
أعادت ديانا سؤاله، لكنه لم يجب، بل فتح النافذة على مصراعيها.
امتلأت الغرفة بالنسيم الدافئ.
وتطاير شعر ديانا الذهبي الجميل مع الريح.
“ الجو جميل جدًا اليوم.”
قال رويري مبتسمًا بإشراق يفوق ضوء الشمس.
عندها، أومأت ديانا برأسها كما لو كانت مأخوذة بسحره.
“ حسنًا.”
“ إذن، انستي. هل تأذنين لي بيدكِ؟“
مدّ رويري يده إليها وهو يبتسم بمكر خفيف.
ضحكت ديانا ورفعت كتفيها وكأنها تستسلم،
ثم وضعت يدها في يده.
“ تمسكي جيدًا، نونا.”
ما إن أنهى كلامه حتى أحاطتهما ستارة سحرية خضراء باهتة اللون.
“ آه، ماذا؟“
“ هيا بنا.”
فجأة، شعرت بأنها تطفو كأنها داخل فقاعة صابون.
راحت ديانا تلوّح بساقيها في الهواء، وأمسكت بيد رويري بيد، وبيده الأخرى أمسكت بخصره بشدة.
ثم أغمضت عينيها بإحكام.
وفي طرفة عين، وجدا نفسيهما في وسط شارع مزدحم بالناس.
بدأت ديانا تسمع أصوات الضجيج، ففتحت عينيها بحذر.
المكان الذي وصلا إليه كان أكثر شوارع الإمبراطورية ازدحامًا في إيديث.
يضمّ منازل فاخرة، ومطاعم، ومحلات أزياء يرتادها النبلاء غالبًا.
“هذا هو …”
رغم أنها عادت تلمس الأرض،
إلا أن ديانا بقيت متمسكة بيد رويري من شدّة المفاجأة.
“ حتى وإن جربته مرارًا، فإن السحر يظلّ مدهشًا.”
“ أليس كذلك؟ إذا واصلتِ التدريب، يمكنكِ أن تصلي إلى هذا المستوى أيضًا. فلدَيكِ أستاذ رائع مثلي.”
قال رويري بابتسامة لطيفة وهو يغمز بعينه.
“ كاذب.
لا يمكنني الانتقال الفوري إلا إذا أصبحتُ ساحرة عظمى.”
“ آه، ولكنني واثق أنكِ تستطيعين ذلك.”
أجاب ضاحكًا بسعادة.
لكن فجأة، وقعت عيناه على يد ديانا التي ما تزال تمسك بيده بقوة.
راح يحدّق بتلك اليد بصمت.
لاحظت ديانا نظرته ففزعت وسرعان ما سحبت يدها.
“ آه، آسفة!”
احمرّ وجه ديانا وحولت نظرها إلى جهة أخرى.
“ لماذا؟ يمكنكِ الاستمرار بالإمساك بها.”
“ لا تسخر مني، رويري.”
ضحك رويري بدفء وأصدر صوتًا خفيفًا من خيبة الأمل،
بينما عبست ديانا برقة وهي تدفع شفتيها للأمام قليلًا.
ورغم ذلك، لم تكن تكره مزاحه.
“ إذن، لنذهب.”
“ إلى أين؟“
“ فقط اتبعيني.”
بدأت ديانا تتبع خطوات رويري.
وتوقف أمام أحد أفضل مطاعم الإمبراطورية، ‘ برج الألفية‘.
فتحت ديانا عينيها على وسعهما ونظرت إلى رويري بدهشة.
مهما فكرت،
لم تستطع أن تفهم كيف يمكنهم الدراسة داخل مطعم فاخر كهذا.
وأخيرًا، لم تستطع مقاومة فضولها وسألته:
“ هل سندرس هنا؟“
“ هيا ندخل.”
لكن رويري لم يُجب سوى بابتسامة هادئة،
ثم أمسك بمعصمها وقادها إلى داخل المطعم.
بدأ معصمها يسخن حيث أمسك به،
رغم أنه لم يكن سوى لمس خفيف،
لكنها لم تستطع التوقف عن التفكير فيه.
ديانا أخذت نفسًا عميقًا بهدوء كي لا يراها رويري.
كانت تنوي الانتقام من كاليبسو، لكنها في النهاية امرأة متزوجة.
حتى شعورها بهذا الاضطراب تجاه رجل يساعدها بنيّة صافية جعلها تشعر بالذنب.
“ لنَجلس.”
دخل رويري إلى غرفة في زاوية المطعم.
وكانت مائدة العشاء الفاخرة داخل الغرفة مليئة بالأطباق حتى كادت الأرجل تنكسر من ثقلها.
“ هل حجزتَ؟ سمعت أن الحجز هنا يحتاج إلى شهر على الأقل.”
كان هذا المكان مطعمًا مشهورًا يتوجب فيه الانتظار حتى يتوفر مقعد، بغض النظر عن السلطة أو المكانة.
لذلك، كانت هذه أول مرة تزوره ديانا.
“ آه، والداي صديقان لمالك هذا المكان.”
سحب رويري الكرسي لديانا بلطف.
جلست ديانا على الكرسي وهي ترتب أطراف فستانها.
فتحت شفتيها بدهشة وهي تنظر إلى الأطباق الجميلة لدرجة أنها لم ترغب حتى في لمسها.
كان المكان أشبه ببوتيك مجوهرات.
لا تعرف ما السحر المستخدم، لكن الطعام على الطاولة كان يتلألأ كأنه أحجار كريمة مصقولة بعناية.
“ إنه جميل فعلًا.”
“ أليس كذلك؟ كنتُ أرغب بزيارة هذا المكان معك.
الجمال شيء، لكن الطعم مذهل أيضًا.”
“ لكن، ماذا عن الدرس؟“
“ آسف، الدرس كان مجرد عذر.
أنتِ دعوتني للغداء المرة الماضية، أليس كذلك؟
دعيني أردّ لك الجميل.”
حسنًا، لا بأس بذلك. ابتسمت ديانا وأومأت برأسها.
“ لنأكل. تفضلي، جرّبي هذا.”
أمسك رويري بالسكين والشوكة،
وسكب شيئًا وردي اللون يشبه الزهرة على طبقها.
كانت بتلات الزهرة شفافة وبراقة، كأنها منحوتة من الكريستال.
قطعت ديانا نصف الزهرة بسكينها وأدخلتها في فمها.
ويا للدهشة، كان داخل الزهرة لحم مفروم.
وفور أن بدأت تمضغ، سال عصير اللحم الدافئ داخل فمها.
أن يُخبأ هذا العصير الحلو داخل زهرة جميلة كهذه… يا للعجب.
وفي وسط هذا الانفجار من النكهات، ابتسمت ديانا لا شعوريًا.
“ لذيذ، أليس كذلك؟“
“ نعم، فعلًا… إنه لذيذ جدًا.”
رغم أنها تناولت الكثير من الأطعمة الراقية حتى ملّت،
إلا أن طعام هذا المطعم كان له طعم خاص.
لو أنها أحضرت آيسيل، لكانت ستسعد كثيرًا.
فكّرت ديانا في آيسيل وهي تتذوق الطعام ببطء واستمتاع.
عندها، قرأ رويري ملامح وجهها فورًا وقال:
“ طلبتُ أيضًا أن يُغلّف بعض الطعام.”
“ ماذا؟“
“ لتحضريه لابنتك. جرّبي هذا أيضًا.”
يا ترى، كيف يعرف دومًا ما يدور في قلبي؟ سألته ديانا بدهشة:
“ هل يستطيع الساحر العظيم قراءة أفكار الآخرين؟“
“ لا؟ حتى سيد البرج لا يستطيع ذلك.”
أجاب رويري وهو يراقب ديانا وهي تأكل الطعام الذي قدّمه لها،
بنظرات ممتلئة بالرضا.
شعرت ديانا بإحراجه وهو يحدّق بها، فقالت بخجل:
“ رويري، كُل أنت أيضًا. لماذا تطعمني فقط ولا تأكل؟“
“ ولِمَ أفعل؟ يكفيني أن أراكِ تأكلين.”
“ رويري، حقًا…”
ماذا لو كنتُ قد التقيتُ بشخص مثله منذ البداية؟
مع زوج لطيف كهذا وابنة محبوبة، لكنتُ أسعد إنسانة في العالم.
لكن خيانة كاليبسو مع أليشيا جعلت زواجها ينهار تمامًا.
ذلك الجرح ظلّ يطعن قلبها باستمرار.
وفي لحظة، اختفت البهجة من وجه ديانا التي كانت مشرقة قبل قليل بفضل الطعام.
“ هل أنت بخير، نونا؟“
“……نعم .”
تماسكي.
هذا الوقت مع رويري ثمين.
ابتسمت ديانا بصعوبة وقدّمت له الطبق أمامها.
“ رويري، كُل أنت أيضًا.”
“ أنتِ من يجب أن تأكلي أكثر…”
“ سعادتي تكمن في أن أراك تأكل أيضًا.”
“……حقًا؟ “
اختفت الابتسامة من وجه رويري ببطء.
وبملامح جادة لم ترَها ديانا من قبل،
همس رويري كأنه يخرج مشاعره الدفينة.
“ السعادة، هاه…”
“ رويري؟“
تفاجأت ديانا بتغير تعابير وجهه، فنادت اسمه باستغراب.
كان مطأطئ الرأس، وكأنه غارق في أفكاره،
ثم رفع نظره فجأة نحو ديانا وسألها:
“ هل أنتِ سعيدة الآن؟“
“ لماذا تسأل هذا السؤال؟“
سألت ديانا بدهشة، لكن رويري لم يجب.
فقط أنزل عينيه للأسفل بصمت.
تأملت ديانا وجهه.
لا تعلم لماذا، لكن عينيه الزرقاوين كانتا غارقتين بالحزن.
ما هو هذا الحزن يا ترى؟ لماذا ينظر إليّ بهذه الطريقة أحيانًا؟
حتى بعد التفكير العميق، لم تجد جوابًا.
نظرت إليه بعينين متردّدتين.
ثم رفع رويري رأسه ببطء عن الطبق،
وفتح عينيه بتروٍّ، وبدأ يتحدث:
“ لأني أردتُ أن تكوني سعيدة.”
ابتسم بحزن.
ثم كرّر كلماته مرة أخرى،
وكأنما يتوسل أن تكون تلك الكلمات صادقة هذه المرة.
“ أردتُ… أن تكوني سعيدة.”
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O ━O ━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 64"