استمتعوا
“هذا مستحيل، إذن لماذا سقطت امي أرضًا؟“
قالت كاثرين وهي تعقد وجهها وتحدّق فيهم بنبرة استنكار.
كانت تظن أنه بما ان أحد كبار السحرة قد وصل، فسرعان
ما سينكشف استخدام اليشيا للسم، ويُطردونها على الفور.
لكن أن يظهر بهذا القدر من العجز…!
“ماذا؟ تسألين لماذا سقطت؟“
“اصمتي قليلاً، أنا أفكر.”
جال رويري بنظره سريعًا على الطعام الموجود فوق العربة،
ثم التفت مجددًا نحو ديانا.
استعاد في ذهنه ملامح ديانا وقبل أن يستخدم قوته السحرية.
كانت شفاهها زرقاء كالجليد، ووجهها شاحبًا لا دم فيه.
لم يكن طبيبًا متخصصًا، لكنه كان يدرك الأمور الأساسية،
وكان واضحًا أن أعراض ديانا قد بدأت بعد تناول الطعام.
أدارت اليشيا عينيها ببطء ونظرت إلى رويري.
بدا غارقًا في تفكير عميق.
وحين رأته على تلك الحال، ابتسمت بسخرية خافتة لم يلحظها.
“لذلك، كطبيبة، كنت اقوم بإجراء تشخيص.
ليس هنالك حاجة لمساعدة سيد السحرة.”
لم يتبقَ شيء من ترددها السابق،
بل حلّت محله نبرة مليئة بالثقة والغرور.
كان الأمر أشبه بلعبة، وفي هذا الوضع العبثي،
اعتبرت نفسها الفائزة أمام ذلك الساحر.
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتي اليشيا.
“بما أن سموها تحتاج للراحة، ألن تغادروا الغرفة الآن؟“
قالت اليشيا بنبرة منتصرة وهي تتأمل الجميع في الغرفة وكأنها تمسك بزمام الأمور.
“لا.”
من أنهى نشوتها الوهمية لم يكن سوى آيسيل.
“ماذا؟“
“سأتولى أنا العناية بها.”
“ماذا قلتِ؟“
“ألم تسمعي؟ قلتُ إني سأقوم أنا بالعناية بها.”
هي ليست طبيبة حتى! كيف تجرؤ على التقدّم لمهمة كهذه؟!
رمقت اليشيا رويري بطرف عينها ثم رسمت على وجهها ابتسامة زائفة وهي تتجه نحو آيسيل.
لكن آيسيل قابلتها بنظرة باردة وقالت:
“أنا فقط… لا أشعر بالاطمئنان. سيد السحرة؟“
“همم.”
“أمي تجاوزت مرحلة الخطر، أليس كذلك؟ لم تعد حياتها مهددة؟“
“نعم، استخدمت طاقة الشفاء التي تعلمتها بشكل غير مباشر،
ولن تكون هناك مشكلة.”
“سمعتِه؟“
قالت آيسيل وهي ترمق اليشيا بنظرة استخفاف،
كما لو كانت تنظر إلى حشرة تافهة.
ثم أشارت بيدها نحو الباب.
“اخرجي.”
“لـ… لكن سمو الأميرة…”
“ألم تسمعي ما قلت؟ اخرجي.”
اضطرت اليشيا، رغم مماطلتها،
إلى مغادرة الغرفة بعد أن طُردت بأمر آيسيل.
وحين خرجت، أمسك رويري بيد ديانا وحدّق بها بعينين حزينتين.
وفي ذلك الجو المشحون، نظرت إليه آيسيل باستغراب، ثم قالت:
“اليشيا هي المسؤولة، أنا واثقة.”
“… لا بد أن هناك شيئًا في الطعام.”
عند كلمات آيسيل،
ابعد رويري نظرته أخيرًا عن ديانا والتفت نحوها.
“في الطعام؟“
“نعم، سمعت من قبل أنه يمكن التلاعب بتفاعل الأطعمة مع بعضها لتبدو كأنها مسمومة.”
“الطعام… انتظري لحظة!”
ركضت آيسيل خارج الغرفة وكأن فكرة ما خطرت لها،
ثم عادت بعد وقت قصير تحمل في يديها كومة من الكتب.
“أحضرت كل الكتب التي تتعلق بفوائد الطعام وتأثيراته.”
“جيد. فلنبحث فيها.”
رفع رويري أطراف ردائه الطويل وجلس مع آيسيل على الكرسي،
وبدآ بالتقليب في الكتب.
مر بعض الوقت، وحين كان رويري يفتح ثلاث كتب دفعة واحدة ويقلّب صفحاتها باستخدام السحر، لمع بريق في عينيه.
“هل وجدته؟“
ابتسم رويري دون أن يجيب، ودفع بكتاب نحو آيسيل.
وبمجرد أن قرأته، ارتفعت زاوية شفتيها بابتسامة خفيفة.
“… سأذهب الآن.”
أغلقت الكتاب وغادرت الغرفة بنظرة حاسمة.
***
في تلك الأثناء، كانت اليشيا قد عادت إلى غرفتها بخطى ثقيلة، تتبعها بسرعة كاثرين.
“أمي!”
“… كاثرين.”
خوفًا من أن يسمعهما أحد، أغلقت اليشيا الباب على عجل.
“ما الذي كنتِ تفعلينه بحق السماء؟!”
“وأنتِ…!”
كادت اليشيا أن تصرخ، لكنها تمالكت نفسها وأخذت نفسًا عميقًا.
نعم، هي ابنتي في النهاية.
مهما حدث، يجب أن أحميها.
لا تزال صغيرة، وما فعلته كان بدافع الغضب.
راحت تردد تلك العبارات في داخلها بلا توقف،
لعلها تجد ما يبرّر لها غفران خيانة كاثرين.
أبتلعت اليشيا ريقها ببطء، ثم مدت يدها المرتجفة لتضعها على كتف كاثرين التي كانت تحدّق بها بعينين غاضبتين.
ثم نادت اسمها بصوت خافت مرتجف:
“كاثرين.”
“قلتُ لك، ما الذي جرى بالضبط؟“
“أنا… لم أضع السم.”
نظرت إليها كاثرين بعينين تفيض بالشك والدهشة.
“إذن، لماذا سقطت ديانا أرضًا؟“
“… هذا…”
أرادت اليشيا أن ترد على سؤالها، لكن شفتيها تجمّدتا.
إن اعترفت الآن بما فعلته حقًا، فكيف ستكون ردة فعل كاثرين؟ ربما تهاجمها مجددًا كما فعلت من قبل.
لكن، حتى وإن كانت قد أغضبتها دون قصد،
فهي تبقى والدتها البيولوجية.
تمامًا كما قررت اليشيا أن تسامح كاثرين،
فعلى الأخيرة أيضًا أن تسامحها على خطئها.
مرارةٌ خانقة انتشرت في فمها، وكأنها ابتلعت دواءً مرًّا.
“لكن، قبل كل شيء… دعيني أسألك شيئًا، كاثرين.”
“أجيبي على سؤالي أولًا…”
قاطعتها اليشيا وقالت بصوت خفيض:
“إن كان الطعام يحتوي على سم حقًا…”
قطبت كاثرين حاجبيها وكأنها تسمع هراءً،
وانتظرت ما ستقوله بعد ذلك.
بالكاد استطاعت أليشيا أن تبتلع ريقها الجاف،
وبتوسل أخرجت صوتاً بالكاد سُمع.
كان صوتها يرتجف كما لو أنها تسير عارية وسط شتاء قارص.
“أنتِ… ماذا كنتِ تنوين أن تفعلي بي؟“
لم تشعر أليشيا بالخوف من كلمات كاثرين من قبل كما شعرت هذه المرة.
نظرت إليها برجاء،
لكن بدا أن كاثرين لم تكن تسمع حتى صرخات أمها المستغيثة.
زمّت شفتيها ببرود وبدأت تتحدث ببطء.
“أنا…”
رفعت كاثرين زاوية شفتيها بابتسامة ساخرة،
كما لو كانت تسخر منها.
لم يكن هذا تصرف ابنة تواجه أمها المرتجفة.
“برأيكِ، ماذا كنت سأفعل؟“
انهارت أليشيا وكادت تسقط.
ارتجفت ساقاها،
وتمكنت بالكاد من التمسك بخزانة الكتب إلى جانبها.
“أنتِ حقاً…”
اختنق صوتها، ولم تستطع أن تكمل كلامها.
لم تكن بحاجة لسماع الجواب،
فقد قالت تعابير وجه كاثرين كل شيء.
لم تكن لتتردد لحظة في التخلي عن أليشيا.
“لماذا تغيرتِ هكذا، كاثرين!”
صرخت بصوت يائس ومليء بالقهر،
لكنه ارتد عليها فارغًا في الغرفة.
كاثرين، رغم سماعها بكاء أمها، لم ترد سوى بابتسامة سخرية.
“ألم تكوني أنتِ من علمتني هذا؟“
“ماذا…؟“
“كنتِ تعتبرينني ابنتكِ،
لكنكِ جعلتني أخون ديانا، التي أحبتني بصدق.”
كلماتها كانت كالسمّ،
وفم أليشيا بقي مفتوحاً دون أن تستطيع إغلاقه.
“أنتِ من حولتني من أميرة حقيقية إلى مجرد مزيفة!”
اشتعلت عينا كاثرين بالدماء.
ضحكت كالمجنونة ونظرت إلى أليشيا بنظرة قاتلة.
“كان عليكِ فقط أن تتركيني أعيش في جهلي.
لماذا قلتِ لي الحقيقة وجعلتني أعيش في قلق؟“
“كيف… كيف تقولين شيئاً كهذا…!”
“أنتِ لستِ سوى طبيبة بلا قدرة ولا مال.”
اهتزّ تركيز أليشيا بشدة، وكأن عاصفة اجتاحت عقلها.
قلبها كان ينبض بجنون، وأنفاسها أصبحت متقطعة.
“إذا لم تكوني تنوين أن تخبريني بما فعلتِه بديانا، سأخرج.”
“كاثرين، أرجوكِ…”
تمسكت أليشيا بأطراف فستانها كأنها تتشبث بآخر أمل،
لكن ما جاءها لم يكن سوى برودة في رد كاثرين.
“اتركيني.”
“كاثرين!”
نظرت كاثرين إلى يد أليشيا التي أمسكت بفستانها بنظرة قرف واحتقار.
“من اللحظة التي أخرج فيها من هذا الباب،
لن تكوني أمي بعد الآن.”
قالت ذلك ببرود مرعب، ثم تجاوزت أليشيا وأمسكت بمقبض الباب.
أزاحت أليشيا يد كاثرين بسرعة واعترضت طريقها.
“سأخبرك بكل شيء، بكل شيء… فقط لا تقولي ذلك، كاثرين.”
كادت تركع على ركبتيها.
دموعها انهمرت على وجهها من غير أن تتمكن من منعها.
لكن حتى هذا المشهد المؤلم لم يحرك شيئاً في قلب كاثرين.
نظرت إلى أمها الراكعة من فوق إلى تحت وقالت:
“انتهى الأمر. لم أعد أريد أن أعرف. ومهما كانت الطريقة التي استخدمتها، فقد فشلتِ مجدداً، أليس كذلك؟“
ابتسمت كاثرين بهدوء ثم أبعدت يد أليشيا ببرود.
“لا حاجة لي بأم لا تجلب سوى الفشل.”
كانت تلك الكلمات طعنة مباشرة في قلب أليشيا.
سقطت على الأرض عاجزة.
كانت يدها المرتجفة على الأرض تدل على الصدمة العنيفة التي تلقتها.
كادت أن تفقد وعيها، ورأسها مال إلى الخلف.
لكن كاثرين لم تلتفت ولو لمرة واحدة،
وخرجت من الغرفة بصوت باب مدوٍّ.
“كاثرين… كاثرين…”
نادتها أليشيا بألم، والدموع لا تتوقف عن الانهمار من عينيها.
في تلك اللحظة، فُتح الباب مجددًا.
رفعت أليشيا رأسها سريعاً ظنًا أن كاثرين عادت.
“ما هذا المنظر؟“
لكن من دخل لم تكن كاثرين، بل كانت آيسيل.
نظرت آيسيل إلى أليشيا الجالسة على الأرض تبكي،
وارتسمت على شفتيها ابتسامة فضولية.
مسحت أليشيا وجهها المبلل بالدموع على عجل.
“ماذا تفعلين هنا…؟“
“أنا… عرفت كل شيء.”
“ماذا؟“
“عرفت ما الذي فعلته بالطعام.”
ضُربت أليشيا بمصيبة جديدة،
وظهرت على وجهها علامات التوتر الشديد.
“مـ–ما الذي تقولينه؟ أنا أكلت منه أيضاً!”
“نعم، أكلتِ منه. لكن…”
تابعت آيسيل كلامها بهدوء وثقة.
“لكنّك لم تلمسي الصوص، أليس كذلك؟“
رمَت صحن الصوص أمام أليشيا.
انسكب الصوص البرتقالي بلون شعر أليشيا،
وانتشر في كل اتجاه.
أصبح تنفس أليشيا صعبًا.
وقفت ببطء، محاوِلة رسم ابتسامة.
لكن ابتسامتها كانت متكلفة للغاية.
“أنا فقط أعددتُ الصوص ليتناسب مع الطبق…”
“أجل.”
تجاوزتها آيسيل وأمسكت بشيء ملفوف بورق على مكتبها.
كان ذلك الشيء هو ما استخدمته أليشيا في الطبخ،
ووصلها بالبريد.
فتحت آيسيل اللفافة بعناية، لتكشف عن محتواها.
“كنتِ قد صنعتِ الصوص بهذا الشيء، أليس كذلك؟“
كان ما في يد آيسيل هو فاكهة الكاكي.
“وما في ذلك؟“
“طبيبتنا العزيزة.”
قالتها آيسيل وهي تقترب أكثر وهي تحمل الكاكي في يدها.
“لن تدّعي بأن طبيبة لا تعرف أن تناول الكاكي مع السلطعون يسبب آلامًا في المعدة؟“
عند تلك الكلمات، ارتجفت حاجبا أليشيا،
وكأنها تلقت ضربة مباشرة.
“ذ، ذلك…”
“صحيح، لم يظهر أي أثر للسم.
لأنك لم تستخدمي السم، بل مجرد معزز طبيعي للفعالية.”
كيف علمت بذلك…؟!
بدأ عقل أليشيا يبحث يائساً عن مخرج.
“لا تحاولي التهرب. لا مخرج لكِ.”
عينا آيسيل اللتان تشبهان ديانا اشتعلتا غضباً.
كان غضبها يفيض طاقتها السحرية،
وبدأت الأرض تحت أقدامهم تتجمد.
“كيف تجرؤين على إيذاء أمي؟“
“تـ، توقفي. لم أكن أعلم…”
“اصمتي. أنا لست متساهلة مثل أمي.”
“ما علاقتكِ بسموها لتفعلي كل هذا؟
أنا… أنا سأعتذر بنفسي…”
ارتفعت أعمدة من الجليد من الأرض،
وأصبحت أطرافها حادة كالسيوف.
باتت نهايات الجليد المسننة أشبه بشفرة قاتلة.
“هل… هل ستقتلينني؟“
“من يدري؟“
كانت ملامح آيسيل تفيض غضباً يكاد ينفجر في أي لحظة.
اتجهت شفرة الجليد نحو عنق أليشيا، التي تراجعت خائفة.
“تـ، توقفي…!”
لكن آيسيل لم تتوقف عن إخراج طاقتها.
وفي اللحظة التي لامس فيها الجليد عنق أليشيا…
“توقفي، آيسيل.”
الذي دخل من الباب كانت ديانا، متكئة على رويري.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 62"