استمتعوا
ضحكت ديانا بسخرية وكأنها كانت تتوقع ذلك.
فلم يكن لدى كاثرين أي خيار آخر.
تعمّدت إعاقة كاثرين كي تتيح لآيسيل وسوير قضاء الوقت معًا،
وخلال ذلك اقتربت آيسيل من سوير بصورة مغايرة تمامًا عن بقية فتيات النبلاء.
وبما أن الاثنين يتشاركان أوجه شبه كثيرة،
كان من الطبيعي أن تنشأ بينهما صداقة سريعة.
وبالطبع، رؤية ذلك المشهد كانت كفيلة بإثارة قلق كاثرين وشعورها بالاستعجال.
وذلك الاستعجال هو ما دفعها،
بصوتها المرهق، إلى التفكير الأحمق في الغناء.
“يا إلهي، آنسة إيرنست رفعت يدها!”
اتسعت عينا سيرينا بدهشة وهي تراقب ملامح ديانا سريعًا.
لم يكن بوسعها أن تدفع آنسة إيرنست للتقدم والغناء بموهبة متواضعة، مما قد يسبب لها إحراجًا بالغًا.
ومع ذلك، كانت ديانا تبتسم ببشاشة كما لو أنها تستمتع بمشهد زهرة جميلة.
فسّرت سيرينا ذلك الابتسام على أنه تعبير عن ثقة ديانا بموهبة كاثرين.
“تقدمي إلى هنا.”
أشارت دوقة القصر إلى كاثرين بالتقدم.
فسارت كاثرين إلى الأمام وقد ارتسم التوتر الشديد على ملامحها.
كانت قد قالت ذات مرة إنها ترغب بتعلم الغناء من ديانا،
لكنها لم تتمكن من ذلك بسبب العقوبات التي فُرضت عليها.
ولكن، ما الغناء سوى إصدار صوت متناغم مع الموسيقى؟
ثم إن هذه كانت فرصتها الوحيدة للتكفير عن خطئها السابق.
أما كسب قلب سوير فقد بات أمرًا بعيد المنال،
لذا قررت أن تظفر بقلب الدوقة عبر أدائها الغنائي.
“حسنًا، فلنبدأ العزف.”
بدأ النبلاء الجالسون أمام الآلات الموسيقية بالتشاور فيما بينهم، ثم اختاروا لحنًا أساسيًا يتعلمه جميع النبلاء عادةً.
وكانت كاثرين تعرفه أيضًا.
بدأ عازف البيانو بالمرافقة أولًا، تلاه الكمان والتشيلو،
وقد امتزجت أنغامهم بسلاسة.
وحان دور كاثرين لتبدأ الغناء.
فتحت شفتيها بقلب يخفق بشدة.
“تتناثر أضواء النجوم…”
بدأ صوت كاثرين يملأ الشرفة الواسعة.
غير أن ملامح النبلاء، بمن فيهم سيرينا، أخذت تتبدل إلى الكآبة.
كان صوتها أجشًا ومبحوحًا إلى حد لا يُطاق.
“والقمر يهمس إلينا.”
الأغنية التي اختارها العازفون كانت بعنوان “يا قمرنا“،
أغنية تنضح بالكلمات الجميلة ومشاعر الفتاة البريئة.
حتى لو لم تكن مهارتها الغنائية ممتازة،
فإن صوتها العذب القديم كان ليجعل الأمر مقبولًا.
غير أن صوت كاثرين الحالي وغناؤها لم ينسجما مطلقًا مع جمال الأغنية.
وفي هذا الموقف المحرج، تجمدت وجوه النبلاء الذين يراقبونها.
أما من كان يستمتع بمشاهدة هذا المشهد البائس فكان ديانا وآيسيل فقط.
“يا قمرنا الجميل.”
وانتهت أغنية كاثرين وسط أجواء جليدية خانقة. ومع توقف العزف، تبادل النبلاء النظرات المترددة ثم صفقوا تصفيقًا خافتًا.
عادت كاثرين إلى مقعدها وهي تبتسم بانتشاء وكأنها حققت إنجازًا عظيمًا.
كان من الواضح أنها لم تلحظ ملامح الدوقة المظلمة.
أدارت سيرينا رأسها نحو ديانا وقد علت وجهها علامات الذهول.
أما ديانا فاكتفت برفع كتفيها بتعبير يدل على الحرج.
“…آه، شكرًا لكِ. كانت أغنية جميلة.”
اضطرت الدوقة إلى نطق كلمات مجاملة خالية من أي مشاعر حقيقية.
حاولت سيرينا أن تغير الأجواء المزعجة فأمرت الخادمات بنقل الهدايا.
في تلك اللحظة، سُمع صوت حركة بين الشجيرات في الحديقة.
“هاه؟“
التفتت سيرينا نحو مصدر الصوت،
وسرعان ما شحب وجهها كمن رأى شبحًا.
وتبعًا لملامحها الغريبة، وجه النبلاء أنظارهم إلى حيث كانت تحدق.
“آآآه!”
صرخت سيرينا بصوت عالٍ.
فقد انبثقت من بين الشجيرات مجموعة صغيرة من الوحوش،
نحو عشرة أو عشرين من مخلوقات السابيناكات.
لم تكن خطرة بما يكفي لتهدد الأرواح، لكنها امتلكت مخالب طويلة وأسنانًا حادة قادرة على تخريب الحفل.
وسرعان ما بدأت الوحوش بمهاجمة الحضور.
“لااا!”
“أمي!”
تحول المكان إلى ساحة فوضى في طرفة عين.
كانت سيرينا قد مرت بتجربة مرعبة في طفولتها عندما كادت أن تفترسها وحوش ضخمة، لذا كانت تصاب بالذعر الشديد عند رؤية أي وحش، مهما كان حجمه.
صرخت وهي ترتجف بعنف لمجرد رؤية السابيناكات،
وبينما انقضت الوحوش على الموائد، عمّت الفوضى المكان.
أما سوير، فكان يحتضن والدته المرتجفة بينما يشاهد،
بعينين فارغتين، الحفل وهو يتداعى أمامه.
“آآآه! هل من أحد ينقذنا!”
وقف النبلاء في أماكنهم عاجزين عن التحرك خوفًا من أن ينقض عليهم الوحوش.
تم استدعاء فرسان الدوقية على عجل،
لكن التصدي للسابيناكات السريعة لم يكن بالأمر السهل.
كانت ديانا، التي تابعت المشهد وكأنها تشاهد مسرحية مسلية، تقترب من آيسيل.
“حان دورك، آيسيل.”
“نعم، أمي.”
تقدمت آيسيل، التي كانت تراقب الفوضى المضحكة،
إلى الأمام بهدوء.
استحضرت قواها السحرية داخل جسدها، ثم راحت تنشئ سجونًا جليدية واحدة تلو الأخرى حول الوحوش الهاربة.
وانبثقت أعمدة الجليد من الأرض لتحبس السابيناكات داخلها.
بفضل سرعة بديهتها واستخدامها الحكيم للسحر،
بدأ الاضطراب ينقشع بسرعة عن المكان.
لا تزال سيرينا غير قادرة على التوقف عن العطس،
فتقدمت بدهشة نحو آيسيل.
“سحر…؟“
“نعم. آيسيل ابنتنا ساحرة. وهي تملك أيضًا طاقة كامنة هائلة.”
ولم تكن سيرينا وحدها من أبدت دهشتها،
فقد كان النبلاء أيضًا ينظرون إلى آيسيل بنظرة مختلفة عما قبل.
فالسحرة أنفسهم نادرون، واستخدام أحد النبلاء الكبار لسحر قوي بهذه الطريقة كان أمرًا نادرًا للغاية.
“حقًا مذهل… بفضل الآنسة أنقذنا من الوحوش.
نحن ممتنون جدًا.”
“هذا واجبي.”
أجابت آيسيل بخجل متواضع.
ومرة أخرى، أصبحت آيسيل هي بطلة الحدث.
رغم أن كاثرين بذلت جهدها حتى بالغناء،
لماذا دائمًا تكون آيسيل هي من يلمع؟! كانت كاثرين تغلي غيظًا.
“ولكن، كيف ظهرت الوحوش فجأة هنا؟“
سألت ديانا سيرينا التي كانت لا تزال ترتجف.
قبضت سيرينا على قبضتيها وعبست بشدة.
“حقًا، أنا أكره الوحوش. لا أعلم ماذا كان سيحدث لولا الآنسة…”
“لا أظن أن الوحوش قد ظهرت دون سبب.”
حكت ديانا ذقنها بتعجب.
“يا إلهي، ربما…”
“هل لديك شكوك بشيء ما؟“
“ربما هناك من يحمل عطراً أو شيئًا يجذب الوحوش؟“
“ماذا؟ من قد يفعل شيئًا كهذا…؟
الجميع يعلم أنني أخاف من الوحوش بشدة.”
تجعد وجه سيرينا من الغضب.
كان رهاب دوقة إيبرك من الوحوش أمرًا معروفًا بين جميع أفراد المجتمع الأرستقراطي.
فهي كانت تخشى الوحوش إلى درجة أنها لم تشارك حتى في أحد أكبر مهرجانات الإمبراطورية، مهرجان الصيد.
بل إنها فقدت وعيها في حفل شاي خارجي بالقصر الإمبراطوري بسبب ظهور وحش ذي أجنحة بشكل مفاجئ.
لذلك، لم تكن سيرينا تحب حفلات الشاي الخارجية.
ولكن اليوم كان يومًا خاصًا.
كانت ترغب في إقامة حفل عيد ميلاد ابنها المحبوب،
سوير، عبر حفلة موسيقية راقية في التراس.
لم يخطر ببالها إطلاقًا أن تتعرض لهجوم مجموعة من الوحوش.
وكأن شخصًا ما خطط لذلك عمدًا، مما زاد من شعورها بالاستياء.
“همم، هذا غريب حقًا. إذا كانوا قد تجمعوا بهذا الشكل…”
بينما كانت ديانا تواسي سيرينا القلقة، بدأت تشم الهواء فجأة.
“ربما يكون هناك ‘مونستروتيران‘؟“
“‘مونستروتيران‘… أتعنين تلك النبتة التي تعشقها الوحوش؟
التي لها رائحة عطرية تشبه الأعشاب؟“
“نعم. تحديدًا، تشبه رائحة النعناع.”
توجهت أنظار الجميع نحو ديانا عند سماعهم كلمة ‘نعناع‘.
وتبادر إلى أذهانهم شخص واحد فقط.
ولكن سيرينا لم تصرح بما تفكر فيه.
فما زال الوقت مبكرًا على توجيه الشك إلى ابنة دوق إرنست.
في تلك اللحظة،
ارتعشت كتفا أليشيا التي كانت تراقب المشهد من الخلف.
وبدأ وجهها يشحب تدريجيًا من الصدمة.
كانت الرائحة تشبه النعناع،
لكن مونستروتيران كان بوضوح يجذب الوحوش.
هل يعقل أن العطر الذي أعطته لكاثرين كان…؟
بدأت أليشيا تبحث سريعًا في ذاكرتها.
تذكرت أن ديانا وصفت الرائحة بالنعناع، لكن كان مكتوبًا بوضوح على العطر أنه يحمل رائحة “مونستروتيران“.
بدأ العرق البارد يتجمع على جبينها.
لم تكن أليشيا تعلم أن سيرينا تعاني من رهاب شديد تجاه الوحوش، ولم تكن تدري أن مونستروتيران يجذب الوحوش.
كان عليها تصحيح الموقف بسرعة.
إذا كُشف أن كاثرين كانت ترتدي قلادة بعطر مونستروتيران،
فإن فرصتها في الارتباط بسوير ستتلاشى تمامًا.
حتى لو تمكنت من تبرير الحادثة بأنها مجرد خطأ،
لن تسامحها كاثرين أبدًا.
“نعم. كثيرون لا يستطيعون تمييزه عن النعناع… دعوني أبحث عنه.”
“وكيف ستفعلين ذلك؟“
كانت ديانا تعرف بالفعل مصدر الرائحة.
لكنها قررت القيام بعرض صغير.
تجمعت حول ديانا أضواء زرقاء من المانا،
ثم شكلت هيئة تشبه ذئبًا أو كلبًا.
بالطبع، لم يكن لدى هذا الكلب القدرة على تتبع الروائح أو العطور،
بل كان يتحرك وفق إرادة ديانا فقط.
أرسلت ديانا نظرة خاطفة نحو أليشيا،
التي بدا وجهها شاحبًا كالموتى.
رأت أليشيا انفجار مانا ديانا، فتقدمت مذعورة نحو كاثرين وقالت:
“…كاثرين، أعطني عقدك.”
“ماذا؟“
“هيا، بسرعة، عقدك.”
“أوه، ألي، كاثرين؟“
لكن الكلب المصنوع من المانا كان قد وصل بالفعل إليهما،
وهو يلهث أمامهما.
سيرينا بدأت تلاحظ تصرفات ديانا.
ثم طاف الكلب حول كاثرين، وأشار بعنقه نحو عقدها.
بعد ذلك، تلاشى في الهواء كدخان أزرق.
غطت ديانا فمها بيدها وكأنها مصدومة
، وارتعش صوتها وهي تتكلم،
ثم مدت يدها بحذر وسحبت عقد كاثرين.
وكان من الطبيعي أن تفوح من العقد رائحة مونستروتيران.
“لا يمكن… كاثرين، لماذا فعلتِ شيئًا كهذا؟“
تلعثمت ديانا وكأنها لا تصدق.
كانت كاثرين واقفة بذهول، غير مستوعبة لما يحدث.
ما الذي يجري بحق الجحيم؟
وكان النبلاء المحيطون بها ينظرون إليها وكأنها تعمدت استخدام عطر مونستروتيران لإزعاج سيرينا.
“ماذا؟ لا، لقد استخدمت فقط عطراً بنكهة النعناع…”
مر شريط ذكريات خاطف في رأس كاثرين.
استدارت بسرعة نحو أليشيا.
وكان وجه أليشيا أزرق كالسماء قبل العاصفة،
وكأنها ستفقد وعيها.
عندها فقط أدركت ما حدث.
أن تلك الأم الغبية قد أعطتها زيتًا وعطرًا ليس برائحة النعناع،
بل مونستروتيران.
“لم أكن أعلم أنه مونستروتيران! أقسم أنني لم أكن أعلم!”
صرخت كاثرين باتجاه الحاضرين الذين كانوا ينظرون إليها كأنها مجرمة.
“حتى وإن كنتِ لا تعلمين، لا يمكن غفران كل شيء. فالدوقة لديها صدمة حادة تجاه الوحوش وقد فقدت وعيها بسببها من قبل.”
قالت ديانا بصرامة وهي توبيخ كاثرين.
“هيا، اعتذري فورًا.”
تحولت عينا كاثرين إلى عيني شخص مصدوم.
لقد دمرت كل شيء.
بسبب تلك الأم الغبية.
لا، لم تعد تعتبرها أماً بعد الآن.
كانت كاثرين ترتجف وهي تحدق بغضب نحو أليشيا التي كانت منحنية رأسها خجلاً.
كان عقلها يعمل بأقصى طاقته بحثًا عن مخرج،
لكنها لم تجد وسيلة مناسبة لإنقاذ الوضع.
بينما كانت أليشيا غارقة في التفكير،
كان الجميع ينتظر كاثرين لتتحدث.
وبصوت بدا حازمًا بعد حيرة طويلة، فتحت كاثرين شفتيها.
“أعتذر، سيدتي. ولكن في الحقيقة، لم أجهز هذا بنفسي.”
ثم، ببطء، أشارت بإصبعها نحو أليشيا.
“الطبيبة أهدتني هذا.”
ارتجفت عينا أليشيا من الصدمة.
ألي، ها هي ذا. لحظة تخلي ابنتك عنك.
كيف تشعرين؟
وسط صدمة الحاضرين،
ابتسمت ديانا ابتسامة شريرة كملاك ساقط فقد طُهره بالكامل.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 56"