استمتعوا
رويري، وفي اللحظة ذاتها التي أطلق فيها تعويذة الانتقال الآني، أضرم النار في جثة الرجل وفي كوخه.
رأت ديانا ألسنة اللهب تتراقص داخل مجال رؤيتها.
نظرت ببطء إلى هيئة الرجل الذي قتلته،
ولم تستوعب ما فعلته إلا بعدما احتضنت آيسيل بين ذراعيها.
كان شعوراً تختبره للمرة الأولى. لقد قتلت إنساناً. إنساناً بحق.
ارتجفت يد ديانا بشدة. أمسك رويري يدها المرتعشة بإحكام.
كانت يده الدافئة كأنها تهمس لها ألّا تتخلّى عن نفسها.
بلمح البصر، انتقل رويري إلى غرفة ديانا حاملاً آيسيل بين ذراعيه، ثم وضعها برفق على السرير.
بدأت ديانا بسرعة بتحضير الدواء.
لحسن الحظ، كانت قد اشترت المكونات مسبقاً.
تولى رويري مساعدتها إلى جانبها.
فهو أيضاً ساحر عظيم،
ويتقن جيداً تحضير الأدوية باستخدام علم الكيمياء.
في سكون الصمت، كانت أيديهما تتحرك بسرعة فقط.
وسرعان ما أكملا تحضير دواء لمعالجة الجروح الظاهرة على الجلد وخافض للحرارة.
احتضنت ديانا تلك الأدوية المبردة بسحرها بسرعة،
ثم توجهت إلى السرير حيث ترقد آيسيل.
بدأت تدهن برفق الدواء على الكدمات المنتفخة التي غطت وجه آيسيل. كانت أطراف أصابع ديانا ترتجف قليلاً.
توجه نظر رويري نحو تلك الأصابع المرتعشة بأسى.
كانت تبدو مرهقة جداً.
ظلّ يحدّق طويلاً في أطراف أصابعها،
ثم انحنى رأسه بعمق وقال بوجه كئيب:
“أنا آسف، نونا… لو أنني وجدتها في وقت أبكر،
لما حدث هذا كله.”
“رويري فعلت كل ما بوسعك. بل يجدر بي أن أشكرك…”
أجابت وهي تبتسم بخفة بعد أن وضعت الدواء على وجه الطفلة.
عادت آيسيل حية، وهذا وحده يكفي الآن.
لا حاجة لأي شيء آخر.
أزاحت ديانا خصلات شعر آيسيل التي نامت بعمق وهي تصدر أنفاساً منتظمة. باستخدام أفضل المكونات، ستتعافى جراحها في غضون يوم واحد.
لكن… ماذا عن قلب الطفلة؟
قلب ابنتها المجروح الذي تعرض لأذى بالغ وندوب لا تُمحى؟
تلبّد وجه ديانا بالحزن.
أطلقت زفرة خافتة، وسكبت الدواء في فم آيسيل.
ومع تناولها دواء خفض الحرارة،
أصبحت أنفاس آيسيل أكثر انتظاماً وهدوءاً.
عندها فقط شعرت ديانا بالارتياح، فمسحت وجهها المتعب بيديها الجافتين واتجهت نحو الأريكة، حيث أغمضت عينيها قليلاً.
راودها مشهد اختراق القلب بتلك الطريقة. ما زالت قطرات الدم المتجمدة على عمود الجليد حاضرة في ذهنها بوضوح.
انعقد جبينها بألم. لاحظ رويري اضطرابها وبدأ بالكلام:
“… هل أنت بخير؟”
“… نعم.”
أجابت ديانا ببطء كمن أنهكها التعب.
حدّق رويري بها بتركيز.
“كان ينبغي أن أكون أنا من قتل ذلك الرجل.”
تدحرجت عيناها ببطء نحوه.
رويري كان قلقاً عليها، خائفاً من أن تنهار بسبب ضعفها الداخلي.
رفعت ديانا رأسها قسراً وهي ترسم ابتسامة مصطنعة.
كانت عيناه الزرقاوان تركزان نظراتهما مباشرة عليها.
“… أنا بخير، رويري.”
“… كان يجب أن أفعله بنفسي. لو أنك انتظرت قليلاً فقط…”
“أنا حقاً…”
“يدك ما زالت ترتجف.”
أمسك رويري بيدها المرتعشة التي لم تهدأ بعد.
نعم، كانت خائفة. سواء حين طلبت من بليندا قتل جوليا، أو الآن.
لكن لم تستطع الاحتمال.
أولئك الذين أرادوا تمزيق قلب آيسيل المجروح بالفعل،
لم تعد قادرة على التسامح معهم.
حتى لو عادت إلى تلك اللحظة، لتصرّفت ديانا بالطريقة ذاتها.
القوة السحرية التي انفجرت بداخلها قبل قليل لم يجد لها رويري أي تفسير.
كل ما خطر بباله هو أن الأم التي تحمي طفلها،
هي كائن عظيم بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
“نعم، نونا يجب أن تبقى بخير.”
شدّ على يدها ليمنعها من الارتجاف أكثر.
“كل ما فعلته،
هو أنك أحرقت قمامة كان يجب أن تزول من هذا العالم.”
“ذلك الرجل تم طرده من برج السحر. كان يقتل ويختطف مقابل المال فقط… كان شراً متجسداً في الإمبراطورية.”
“… لكن كونه شريراً،
لا يمنحني الحق في أن أكون من ينفذ الحكم عليه.”
تابعت ديانا كلامها ببطء وبوجه قاتم.
“كل حياة تطأ هذه الأرض… ثمينة ومقدّسة.”
كانت تتحدث بصعوبة وكأن كل كلمة تُثقل كاهلها.
وعند سماع ذلك، تجهّم وجه رويري أيضاً.
بدا عليه الألم لأنه لم يتمكن من مواساتها بقوته.
“لكن…”
عادت شرارة الحياة إلى عيني ديانا التي فقدت بريقها.
رفعت رأسها ونظرت في عيني رويري.
“حتى لو نلتُ العقوبة كاملة على ما اقترفته…”
توقفت اهتزازة الزمرد المرتجف في عينيها.
“سأحمي آيسيل حتى النهاية.”
قالت ديانا بعزم حاسم.
“طالما بإمكاني ذلك، سأفعل أي شيء. أي شيء.”
ترك رويري يدها التي أمسك بها بشدة،
ثم مد يديه ليحتضن وجهها بلطف.
اقترب منها شيئاً فشيئاً، حتى لامست جبهته جبهتها برقة.
“نعم. أنا أفهم كل شيء. أفهم قلبك، نونا…”
“افعلي ما تشائين. لا تترددي. أنا دائماً، دائماً في صفك.”
“… شكراً لك، رويري.”
كانت ممتنة للغاية.
وضعت ديانا يدها فوق يديه اللتين تحتضنان وجهها.
لم تكن تعلم ما الذي يحمله لها في قلبه.
لكن كل ما قاله وفَعله، كان مصدر عزاء لا يُقدّر بثمن بالنسبة لها.
أسندت ديانا رأسها برفق على كتف رويري.
“لولا وجودك، لما استطعتُ… حماية ابنتي مجدداً.”
حتى مع تلك الكلمات الغامضة، ‘مجدداً’، لزم رويري الصمت.
كان أمراً غريباً حقاً.
بالنسبة لرويري، كانت آيسيل مجرد طفلة تبنّتها ديانا.
فلمَ هذا الإصرار الشديد على حمايتها؟
ومع ذلك، لم يطرح أي سؤال.
سواء كان ذلك احتراماً لمشاعر ديانا،
أو لأسباب أخرى لا يعلمها أحد.
“نونا، من الأفضل أن ترتاحي الآن.”
نقر رويري جبهة ديانا بإصبعيه بخفة.
بدأت عيناها تغمضان تدريجياً حتى أُغلقتا تماماً.
أمسك جسد ديانا الذي تهاوى نحوه بإحكام.
ثم بحذر، أرقدها بجانب آيسيل المستلقية.
حتى أثناء نومها،
أدارت ديانا جسدها باتجاه آيسيل وعانقتها بحنان.
“أتمنى أن تحلُمي فقط بأحلامٍ سعيدة.”
ظل رويري ينظر إليهما بنظرات دافئة لفترة،
ثم اختفى من الغرفة، تاركاً خلفه فقط عبير حضوره.
***
“هممم…”
“آيسيل!”
فتحت آيسيل عينيها ببطء.
الكدمات التي كانت تغطي وجهها اختفت تماماً،
إلا أن الألم داخل فمها لا يزال يؤلمها.
“أمي…”
ابتسمت آيسيل بخفة نحو ديانا التي كانت تحدق بها بقلق.
عندما نظرت إلى الخارج، رأت الشمس تشرق شيئاً فشيئاً.
“كم من الوقت نمت؟”
“لم يمضِ حتى يوم كامل. هل تشعرين بأي ألم في جسدك؟”
“لا، أنا بخير، ماذا عنكِ يا أمي؟”
“أنا بخير أيضاً، ما دمتِ قد استعدتِ وعيك.”
نهضت ديانا من مكانها بوجه يحمل ملامح حازمة وهي تمسك يد آيسيل بإحكام.
رغم أنها لم تقل شيئاً،
إلا أن آيسيل استطاعت التنبؤ بما ستفعله والدتها بعد ذلك.
لا شك أنها كانت تنوي الذهاب إلى أليشيا.
أمسكت آيسيل بطرف فستان ديانا وهي تستدير مبتعدة.
“آيسيل…؟”
“أنت ذاهبة إلى أليشيا، أليس كذلك؟”
“لا أستطيع التحمل أكثر، رغم أن هذا ليس ما خططت له،
لكن لم يعد بوسعي الانتظار.”
قبضت ديانا على قبضتها بقوة وراحت ترتجف.
كانت قد عقدت العزم على أن تخنقها وتجعلها تتذوق كل الآلام والمعاناة التي مرت بها.
لكن آيسيل كادت تموت.
ولو لم يساعدها رويري، لربما فات الأوان لكل شيء.
كان القضاء عليها أمراً بسيطاً.
يمكنها استخدام سلطتها، أو حتى قتلها مباشرة بالسحر.
قررت ديانا أن تنهي كل شيء اليوم بلا رجعة.
“لا، يا أمي.”
نهضت آيسيل بصعوبة.
كانت جراحها قد شُفيت جزئياً،
إلا أن تأثير الدواء جعلها تشعر بالنعاس.
رغم عينيها المثقلتين، تكلمت بوضوح وثبات.
“لا يمكن أن ندع كل شيء ينهار بسبب هذا فقط.”
“…فقط؟! لقد كدتِ تموتين…!”
اغرورقت عينا ديانا بالدموع.
حاولت ألا تبكي أمام ابنتها،
لكن الدموع استمرت في الانهمار بلا رحمة.
“كدتُ أفقدكِ مرة أخرى… آيسيل…”
عانقت ديانا آيسيل بقوة.
حاولت كتم شهقاتها،
لكنها لم تستطع منع أصوات البكاء من الخروج من فمها.
والتي حاولت تهدئتها، كانت آيسيل هذه المرة.
“لا يمكننا أن نمنح أولئك الأشرار رحمة الموت السريع.”
كلما تابعت آيسيل كلماتها، كلما ابتلت زوايا عينيها أكثر.
“أمي، أريدهم أن يشعروا بنفس الألم والمعاناة التي مررنا بها أنا وأنتِ.”
نظرت ديانا بدهشة إلى آيسيل التي كانت تشاركها نفس الشعور تماماً.
“لا يمكننا إنهاء كل شيء بهذا الشكل. سأصبح أقوى.”
أمسكت آيسيل بكلتا يديها بيدي ديانا وأطبقت عليهما بقوة.
“أرجوكِ، لا تحاولي إنهاء كل شيء الآن.”
نظرت آيسيل إلى عيني ديانا وتوسلت إليها من أعماق قلبها.
عيون متطابقة، تحملان نفس الندوب.
ندوب لن تُشفى حتى تُزال الأحقاد المتجذرة في أعماق قلوبهما.
وفي النهاية، انهارت عزيمة ديانا أمام آيسيل.
جلست مجدداً أمامها.
كان بجانب المقعد شيء يلمع، جلبه رويري من الكوخ المحترق.
لمحت آيسيل ذلك الشيء، فتألقت نظرتها.
“سأذهب بنفسي إلى أليشيا.”
مالت آيسيل بجسدها لتنهض من السرير.
لكن يد ديانا استقرت بلطف على كتفها.
“لا يزال الوقت فجراً.”
بلمسة ناعمة، أعادت ديانا آيسيل إلى السرير.
رتبت شعرها وقالت بلطف:
“نامي قليلاً فقط بعد، ثم اذهبي.”
“…نعم، أمي.”
أغمضت آيسيل عينيها بسعادة وهي تشعر بلمسة والدتها الدافئة.
***
كانت أليشيا تمشي بجنون داخل غرفتها وهي تقضم أظافرها.
لقد أوشك الصباح على البزوغ،
لكنها لم تنم لحظة واحدة طوال الليل.
لم تتلقَ أي رسالة من ذلك الساحر المطرود.
حتى العربة التي ركبتها آيسيل لم تعد بعد.
ومع ذلك، كان القصر هادئاً بشكل مريب.
رغم أن آيسيل مجرد ابنة بالتبني،
إلا أن اختفائها يجب أن يُحدث ضجة كبيرة في القصر.
في تلك اللحظة، طرق أحدهم الباب.
“مَن… من هناك؟”
ظنت أليشيا أن الخبر المنتظر قد وصل أخيراً،
ففتحت الباب بسرعة وقلق ظاهر على وجهها.
لكن الشيء الذي كان أمام عينيها لم يكن الرسالة التي تنتظرها.
“هل كنتِ تنتظرينني؟”
أمام الباب، كانت تقف آيسيل،
وهي تبتسم ابتسامة واسعة مشرقة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 45"