استمتعوا
استيقظت ديانا على زقزقة العصافير.
كانت أشعة الشمس تتكسر بشكل مبهر على الستائر الرقيقة،
فتؤلم عينيها من شدة السطوع. رمشت ديانا ببطء.
رغم مرور يوم كامل،
فإن ما حدث بالأمس أعيد في ذاكرتها كأنه وقع للتو.
نهضت ديانا من سريرها وجلست أمام منضدة الزينة.
رأت انعكاس وجهها في المرآة.
مررت المشط على شعرها الأشقر اللامع وكأنه مغطى بالعسل يقطر على الجانبين.
ثم رمشت ببطء بعينيها الزمرديتين الظاهرتين بين رموشها الذهبية الكثيفة.
“الآن، لم يعد يهم.”
رفعت زاوية فمها بابتسامة ساخرة.
ثم غطت عينيها بعصابة.
إذا كانوا قد غطوا عينيها واستغلوا ذلك،
فقد قررت أن تستغل الأمر لصالحها أيضًا.
“هل من أحد هنا؟”
“… نعم، صاحبة السمو!”
دخلت الخادمة التي خدمتها بالأمس إلى الغرفة.
رغم صوتها المبتهج، إلا أن تعبير وجهها بدا وكأنها منزعجة جدًا.
لم تستطع ديانا إلا أن تضحك بسخرية عند رؤية تعبيرها.
يا لها من وقاحة لا حدود لها.
ديانا لم تعامل خادماتها بتعالٍ قط.
كانت تعتقد – بغباء – أن الجميع،
سواء نبلاء أو عوام، هم أشخاص محترمون.
لكن ما يستحق الاحترام هو الطيبة في شخصية الإنسان،
وليس أن يكون الجميع جديرين به فقط لأنهم بشر.
يبدو أنها الوحيدة التي لم تكن تعلم ذلك.
قالت ديانا بنبرة باردة:
“اذهبي وأحضري أليشيا وكاثرين.”
“… المعذرة؟”
بدت الخادمة مندهشة من الطريقة المفاجئة التي استخدمت فيها ديانا أسلوب الحديث غير الرسمي معها، واتسعت عيناها.
“ألم تسمعي؟”
“لـ، لا. سمعتُ… ماذا أقول لهما؟”
هؤلاء الذين ينحنون للأقوياء ويرفعون رؤوسهم على الضعفاء،
هل يستحقون مني أن أظهر لهم الاحترام؟
تابعت ديانا بنبرة باردة:
“قولي إنني أريد شرب الشاي معهم.
وجهزي الشاي والحلويات في الشرفة.”
“نعم، حاضر، سموّك…”
خرجت الخادمة من الغرفة وهي في حيرة.
كانت مختلفة تمامًا عن ديانا التي وقفت أمام مسكن الخادمات بالأمس وهي تطلب مساعدتهن بلطف.
كان على ديانا أن تتغير تمامًا.
كان عليها أن تتخلى عن نفسها الطيبة السابقة.
كانت تنوي إذلال الخادمات اللاتي تآمرن عليها بتحالفهن مع أليشيا.
فما الفائدة من كونها طيبة؟ هؤلاء كنّ خادمات اشترتهن أليشيا،
وكان عليهن أن يتلقين معاملة تليق بذلك.
كأن يُطردن من القصر، مثلاً.
لمعت عينا ديانا بدهاء.
إذا أرادت طردهن جميعًا، فإنها بحاجة إلى ذريعة.
ولأجل ذلك، عليها أن تتصرف بحساسية مفرطة.
أمسكت ديانا بعصاها وخرجت من الغرفة.
وكما توقعت، كان العديد من الخادمات واقفات في الممر أمامها.
ومع ذلك، لم يجرؤ أحد على مساعدتها بذريعة أنها لا ترى.
بطبيعة الحال، من المنطقي أن يعتقدن أنها لا تستطيع رؤيتهن.
توقفت ديانا فجأة أمام الغرفة وتحدثت بنبرة حادة:
“أنتِ هناك.”
“نعم؟”
“كيف تجرؤن على الوقوف بلا حراك بينما الدوقة تخرج بنفسها؟ هل عليَّ أن أذهب وحدي إلى الشرفه؟”
كيف عرفت؟ هل ترى؟ بدأت عيون الخادمات تتوتر وكأنها تهتز مع نسيم الهواء.
كان من السهل جدًا معرفة ما يدور في أذهانهن.
كظمت ديانا ضحكتها وقالت:
“بما أنني لا أرى، فإن سمعي أصبح حادًا جدًا.
هل تظنون أنني فقدت سمعي أيضًا؟”
كم هنّ مثيرات للشفقة.
يعتقدن أنها لا تستطيع الشعور بخطواتهن أو أنفاسهن لمجرد أنها لا ترى.
صحيح أنها في الماضي لم تكن تدرك ذلك فعلًا،
لذا ليس لها أن تضحك الآن. خفضت ديانا نظرها بمرارة.
“نعتذر، سموّك. لم تنادينا لذلك…”
“لا بأس. أعطيني ذراعك.”
أمسكت ديانا بذراع الخادمة التي مدت يدها لها بإحكام،
ثم سارت معها نحو الشرفه.
كان تجهيز الشاي لا يزال جاريًا في الشرفه الواقعة في وسط حديقة الورود.
“متى أعطيت الأمر، والآن فقط يتم التجهيز؟ يا لبطئكن.”
“المعذره؟ لكن لم يمضِ بعد حتى ساعة واحدة…”
“هل تردّين على كلامي؟”
أسقطت ديانا ذراعها فجأة.
ورغم أن عينيها كانت مغطاة،
إلا أن البرودة المنبعثة منها كانت كافية لتجمد الهواء.
الخادمة لم تفهم ما يجري، فركعت على الأرض على الفور.
“نعتذر، سموّ الدوقة!”
“ما الذي يحدث هنا؟”
أدارت ديانا رأسها نحو مصدر الصوت.
كانت أليشيا – المرأة التي نامت مع زوجها أمام عينيها – تقترب منها.
بمجرد رؤيتها، شعرت ديانا بغصة كبيرة.
لا شك أنه كان الغضب… غضبًا عميقًا كثيفًا.
“آه، انسة أليشيا… الأمر هو…”
وحين بدأت الخادمة تهمس بشيء،
ركضت ديانا نحو أليشيا وسقطت عمدًا بطريقة مثيرة للشفقة.
لم يحن الوقت بعد لكشف نواياها.
كان عليها أن تُظهر نفسها كضحية حتى تكسر حذر أليشيا.
“سموكِ! هل أنت بخير؟”
اقتربت أليشيا من ديانا التي سقطت وسألتها،
دون أن تُظهر أي قلق حقيقي.
أمسكت ديانا بذراعي أليشيا بقوة.
“لأنني لا أرى، فإن الخادمات يتجاهلنني، ألي…!”
بدأت دموع ديانا تسيل على خديها.
لم يكن مشهدًا غريبًا بالنسبة لنسخة ديانا القديمة الطيبة واللطيفة.
ضحكت أليشيا بسخرية في صمت،
ونظرت إليها بنظرة مملوءة بالاحتقار.
“من الذي يجرؤ على فعل هذا؟ كيف تُهان سموّ الدوقة هكذا؟”
“ألي، هؤلاء الخادمات كنتِ أنت من أوصتِ بهن، صحيح؟”
“… نعم.”
“سأطردهن جميعًا. أنا خائفة، ألي.”
بدأت ديانا ترتجف بكل جسدها.
“في هذه الحالة، سأقوم أنا مجددًا بـ…”
كم كان صعبًا أن أجمعهن من جديد بعد أن اشتريتهن!
يا لها من حمقاء مزعجة.
رغم كلماتها، عبست أليشيا بوجهها بوضوح.
لكن ديانا مسحت دموعها وقاطعت كلامها بابتسامة لطيفة:
“لا، ألي. أنتِ مشغولة بعملك كطبيبة.
سأهتم أنا بالأمر. فهذا من واجباتي كدوقة.”
عند سماع كلمة ‘الدوقة’، ارتجف حاجبا أليشيا.
وارتجفت شفتاها من الغضب.
“… فهمت.”
دوقة؟ امرأة لم تفز حتى بقلب زوجها؟
كانت نظرات أليشيا الزرقاء تقول هذا بالضبط.
ابتسمت ديانا بلا إرادة.
كالبيسو؟ ذلك الرجل لم يعد له أهمية.
لم تتزوجه لأنها أرادت شيئًا منه.
رغم فارق العمر بينهما،
إلا أن كالبيسو أظهر لها صدقًا… أو هكذا كانت تظن.
كلماته التي وعدها فيها بالاحترام كانت أكثر قيمة من عبارة ‘أحبك’ .
على أي حال، فإن حياة النساء النبيلات كانت دائمًا كذلك.
نادرًا ما يتزوجن عن حب.
ولأن الزواج السياسي كان محتومًا،
فقد شعرت أن شخصًا مثله سيكون مقبولًا.
ولهذا اختارته.
الناس يقدّرون الأحجار الكريمة لأنها نادرة.
وكالبيسو كان نادرًا بالنسبة لها.
رغم أنه كان يُلقب بالبارد، إلا أنه كان لطيفًا معها فقط.
ولذلك عاملته ديانا كجوهرة ثمينة.
لكن الآن، لم يعد يساوي حتى حجرًا في الشارع.
مجرد حجر قذر يتدحرج في التراب الحقير.
لا أحد ينظر إلى حجر كهذا. ولا ديانا.
“أعتقد أنكِ لم تنزعجي من طردي للخادمات اللواتي أوصيتِ بهن، أليس كذلك؟”
“… بالطبع لا.”
عضّت أليشيا على شفتيها، لكنها حاولت التظاهر بالهدوء.
“هيا، اجلسي.”
جلست ديانا على الكرسي بمساعدة أليشيا.
وجلست الأخيرة بجانبها، تاركةً مكانًا لكاثرين أمام ديانا.
بدأت تهمس للخادمات وكأنها تعطي أوامر.
سرعان ما ظهرت خادمة تجر عربة،
وكانت تحمل صينية ثلاثية الطوابق وضعت بأناقة على الطاولة.
وفي الوسط، وُضع وعاء ورود… وردة ذات أشواك حادة كأنها قد تجرح الجلد عند لمسها.
كادت ديانا أن تضحك. يا لها من خبيثة!
أليشيا لن تهدأ حتى تؤذيها، مستغلةً فقدان بصرها.
ابتسمت أليشيا بسعادة بعد أن وُضعت الوردة على الطاولة.
أرادت ديانا أن تبصق على وجهها المبتسم.
لعل ذلك يهدئ دقات قلبها.
“لقد انتهى تجهيز كل شيء. تفضلي، سموّك.
للأسف، لا ترين، لكن عليكِ أن تعتادي على هذا.”
وجهها لم يكن فيه أي أسف.
بل كانت تبدو سعيدة جدًا وهي تنتظر أن تجرح ديانا يدها.
“نعم، شكرًا لك، ألي. أنت الوحيدة التي تهتمين بي فعلًا.”
ابتسمت ديانا بلطف ومدّت يدها نحو الطاولة.
راقبت أليشيا المشهد وكأنها تشاهد مسرحية،
وهي تحتسي الشاي بهدوء.
كانت يد ديانا تتلمس الطاولة، تقترب شيئًا فشيئًا من الوردة،
حتى كادت أن تلمس الشوك.
وفي تلك اللحظة، ارتسمت على شفتي أليشيا ابتسامة خبيثة.
“أمي.”
سحبت ديانا يدها فورًا عند سماع صوت كاثرين.
فأطلقت أليشيا صوتًا منزعجًا وهي تدير وجهها.
اقتربت كاثرين بخطوات متثاقلة، بشعرها الفضي المتطاير الذي يشبه كالبيسو، وتعبير وجهها يوحي بالضيق.
كانت عيناها البنفسجيتان الجميلتان،
التي كانت ديانا دائمًا تصفها بأنها كالجمشت، مليئتين بالغضب.
هكذا كنتِ تنظرين إليّ… في ظلامي.
اختلط في قلب ديانا الحزن والغضب، وبدأت يدها ترتجف برقة.
ابنتي التي أحببتكِ من أعماقي… أنتِ أيضًا،
أصبحتِ عدوي من الآن فصاعدًا.
لكن أولًا، عليّ أن أبدأ بأليشيا. مسحت ديانا الطاولة بنظرها.
رأت إبريق الشاي الساخن، الذي حُفظت حرارته بالسحر،
موضوعًا بالقرب من أليشيا.
ارتسمت على شفتي ديانا ابتسامة خفيفة بالكاد تُلاحظ.
“كاثرين!”
وقفت ديانا فجأة،
متعمدةً أن تمسك بمفرش الطاولة بشكل مبالغ فيه.
وفي تلك اللحظة، انقلب إبريق الشاي نحو أليشيا.
“آآآه!”
سكب الشاي الساخن على فخذ أليشيا.
وفورًا، انتفخت بشرتها باللون الأحمر.
لأن الشاي كان مسخنًا بالسحر،
فقد كان يغلي وكأنه ماء مغلي تمامًا.
مهما كانت أليشيا طبيبة بارعة،
فلن تستطيع معالجة هذا الحرق بسهولة.
هل سيحبها كالبيسو رغم هذا التشوّه البشع؟
سأراقب جيدًا هذا الحب العظيم.
ادّعت ديانا الجهل، وبدأت تلوّح بذراعيها في الهواء.
“ألي! مـ، ما الذي يحدث؟”
ركضت الخادمات المحيطات بالشرفة بسرعة لإحضار الماء البارد.
لكن المسافة بين الشرفة والقصر كانت بعيدة،
وكان الوقت قد فات على الإسعاف الأولي.
نظرت أليشيا إلى ديانا،
التي كانت تمثل البراءة وكأنها لا تفهم شيئًا، وهي تمسك بجراحها.
أدارت ديانا رأسها نحو أليشيا.
أنتِ من جعلتِني هكذا، أليشيا… لا أرى شيئًا.
وسأجعلكم تختنقون بالبطيء، بألم أشدّ.
نظرت ديانا إلى الجرح البشع وكادت تضحك بصوت عالٍ،
لكنها تماسكت بصعوبة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 4"