استمتعوا
بعد أن استراحت طوال اليوم،
بدأت آلام الرأس التي كانت تزعج ديانا تخف تدريجياً.
كان الأمر غريبًا مهما فكرت فيه.
لماذا لا تتذكّر شيئًا عن رويري؟
بل أكثر من ذلك، لماذا لا يخبرها رويري بشيء على الإطلاق؟
وكان أغرب ما في الأمر، أنه رغم قوله بأنه قد رآها من قبل،
فقد طلب منها ألا تحاول استرجاع أي شيء بالقوة.
“آه…”
بينما كانت غارقة مجددًا في التفكير،
بدأ رأسها يؤلمها بشدة كما لو كان سينفجر.
فانخفضت ديانا إلى الطاولة،
تحاول بشتى الطرق أن تمحو تلك الأفكار من عقلها.
في تلك اللحظة، طرق أحدهم الباب.
“سموك، إنها بليندا.”
“نعم، تفضلي بالدخول.”
رحّبت ديانا ببليندا وهي تضغط على صدغيها بأصابعها.
كانت بليندا تحمل طردًا ملفوفًا بإحكام بورق الرق ومربوطًا بخيط.
“ما هذا؟”
“أُرسل من منزل الماركيز.”
“أبي أرسله؟ فهمت، شكرًا لك يا بليندا.”
ابتسمت ديانا بلطف وقدمت شكرها، فانحنت بليندا احترامًا ثم وضعت الطرد على الطاولة وغادرت الغرفة.
“ما الذي أرسله هذه المرة؟”
حين خرجت، تحوّل نظر ديانا إلى الطرد ببطء،
ثم بدأت تفكّ ربطته وهي ترفّ بجفنيها.
في الداخل، وجدت كرة صغيرة جدًا من الكريستال.
كانت أصغر من قبضة يدها.
وإن قارنّاها بشيء، فقد تكون بحجم قبضة يد آيسيل.
أخرجت ديانا الكرة وتأملتها من كل الجهات.
لم تبدُ كأنها شيء ثمين، بل كانت كرة عادية تمامًا.
ما الذي جعل والدها يرسل شيئًا كهذا فجأة؟
لا يعقل أنه أرسلها لتلهو بها آيسيل، أليس كذلك؟
أمالت ديانا رأسها قليلاً بحيرة، ثم وضعت الكرة على الطاولة.
وفي تلك اللحظة، بدأت الكرة تُشعّ ضوءًا أبيضًا.
“هم؟”
انتشر الضوء مثل الضباب،
ثم ما لبث أن ارتفع متكوّنًا في هيئة سحب ناعمة.
“آه…”
خرج صوت من داخل الغيمة، وكان واضحًا… صوت والدها.
“أبي؟”
مسحت ديانا عينيها بدهشة.
كانت الغيمة المنبعثة من الكرة تُظهر صورة واضحة لوالدها وهو ينظر إليها.
“هل تسمعينني؟”
“نعم، ما الذي يحدث؟”
في إمبراطورية إيديث،
نُدرة السحرة جعلت تطوّر الأدوات السحرية أمرًا بطيئًا.
فالسحر البسيط لا يكلّف كثيرًا،
أما السحر المتقدم، فيتطلب مالًا وموارد بشرية هائلة.
لهذا، أقصى ما كانت الإمبراطورية تملكه في مجال التواصل السحري هو إرسال الرسائل المغلّفة بسحرٍ بسيط.
أما أن يتمكّن شخص من رؤية وجه الآخر أثناء التحدّث؟
فهذا أمر غير مسبوق.
لا شك أنه منتج جديد لم يدخل الاستخدام العام بعد.
كم أنفق والدها من المال لأجل هذا؟! لا بد أن الرقم فلكي.
اتسعت عينا ديانا وهي تنظر إلى صورة والدها.
“لقد أنفقت بعض المال.”
“كان بإمكانك الاكتفاء برسالة فقط…”
“همف، أليس هذا أكثر راحة؟”
وكأنه يقول: “ليس لي، بل لكِ.”
كان كاليبسو هو سيد هذا القصر،
وقد يتجسس على رسائلها في أي لحظة.
حتى لو كان جميع الخدم الآن في صف ديانا،
فلن يستطيعوا معارضة أوامر الدوق.
ولمنع ذلك، كان عليها دائمًا أن تعدّل محتوى الرسائل عبر الكيمياء، وهي مهمة مزعجة جدًا، وكان والدها يعلم ذلك.
لهذا السبب، أنشأ هذا الجهاز… بتكلفة باهظة.
ولكن بمجرد أن يدخل الاستخدام العام،
ستتدفّق ثروة جديدة إلى عائلة الماركيز بلا شك.
فالذهب يُنتج الذهب، وذلك كان سر استمرار ثروة بيرتشي.
“قد يتم تداوله لاحقًا، لكن حتى ذلك الحين، ليبقَ سرًا بيننا.
فهو مثالي للمحادثات الخاصة.”
“أنت دومًا هكذا، أبي.”
“أين آيسيل؟”
أخذ والدها يلتفت بحثًا عن آيسيل.
لم تمر سوى أيام على فراقه لها، ولكنه بدأ يفتقدها بالفعل.
والسبب الحقيقي وراء إنشاء هذا الجهاز السحري،
هو رغبته في رؤية وجه ابنته وحفيدته الحبيبتين.
حين لاحظ غياب آيسيل، عبس قليلًا وسعل على استحياء.
ابتسمت ديانا وقالت بلطف:
“في المرة القادمة، سنكون معًا يا أبي.”
“حسنًا. آه، بخصوص ما طلبتهِ…”
قال ذلك وهو يتفحص بعض الأوراق.
فقد كانت ديانا قد شرحت له كامل خطتها يوم أوصلت آيسيل إلى منزل الماركيز.
“نعم، أبي.”
أخرج والدها شيئًا من تحت الطاولة.
كان عشبة طويلة بأوراق حادة وكثيفة،
تتخللها زهور بنفسجية صغيرة متفرقة.
لم يسبق لها أن رأت نباتًا كهذا،
بدا وكأنه مزيج بين ورق الغار وعشبة بندر.
“تُدعى لوريل بندر.
عشبة سحرية جديدة تم إنشاؤها بدمج الغار وبندر عبر السحر.”
“لوريل بندر… وما تأثيرها؟”
“الاستيقاظ. وبعد ذلك…”
“لا داعي لأن تكمل. فهمت الآن.”
تألقت عينا ديانا وهي تستمع.
كان هذا تمامًا ما تبحث عنه… شيء بإمكانه إغواء كاليبسو المهووس بالذهب.
إن كان المال هو ما يهمه، فستنتزع منه ذلك.
والأجمل، أن الرمزية الكامنة في هذه العشبة تناسبه تمامًا.
الغار رمز الخيانة، وبندر يرمز للريبة.
نبات مثالي لرجل مثل كاليبسو، الذي خدعها وخانها.
“عظيم. سيكون الأمر ممتعًا.”
“ألن تحتاجي إلى المزيد من المساعدة؟”
نظر الماركيز إلى ابنته بقلق، لكنها بدت هادئة تمامًا.
“سأطلب منك المساعدة وقتما أحتاجها، أبي.”
“حسنًا. إن أضاءت الكرة، فقط امسحيها بلطف لتفعيل الاتصال.”
“شكرًا، أبي.”
ابتسمت ديانا، فتلاشت الغيمة التي كانت تُظهر صورة والدها.
“والآن، حان وقت الانطلاق.”
وضعت الكرة الكريستالية برفق داخل أحد الأدراج، ثم وقفت.
كانت تنوي التوجّه إلى مكتب كاليبسو.
لتهديه هدية لطيفة جدًا… فرصة لإعادة تكرار الفقر الذي ورثه عن جده وأبيه.
ابتسمت ببطء وارتسمت على وجهها سخرية، ثم طرقت باب المكتب.
“إنها ديانا.”
“ادخلي.”
دخلت، فوجدت كاليبسو غارقًا في أعماله.
أمعنت النظر في المكتب بهدوء.
يبدو أن أليشيا لم تعد تزوره كثيرًا في مكتبه مؤخرًا.
ولسبب وجيه.
فالخدم، وديانا، وآيسيل يراقبون كل شيء بعيون يقظة.
“ما الأمر، عزيزتي؟”
كان كاليبسو يبدو في مزاج جيد.
بل بدأ عليه حماس غريب، مما أشعل في قلب ديانا نفورًا عميقًا.
كانت ترغب في تحطيم ذلك الوجه الوقح،
وجعله يذوق الذلّ الحقيقي.
حبست غضبها المتأجّج خلف رمشٍ ناعم رفرفته بأناقة.
اضحك كثيرًا الآن… فابتسامتك تلك لن تدوم طويلًا.
“كيف حال الوضع المالي مؤخرًا؟”
“الوضع المالي؟”
رفع كاليبسو نظره عن الأوراق نحوها بدهشة،
وأمال رأسه باستغراب.
كانت دومًا غير مهتمة على الإطلاق بشؤون مالية منزل الدوق.
ولكن، لم يكن يبدو على وجه ديانا أي نية سيئة.
تنهد كاليبسو بهدوء وأجاب:
“كما هو الحال دائمًا. لا شيء جيد ولا شيء سيئ.”
لم يكن يملك أي موهبة في إدارة الأعمال.
بعد زواجه من ديانا، تمكن بالكاد من تجاوز الأزمات،
لكن كل ما كان يلمسه بالكاد كان يسترجع رأس المال فقط.
وفوق ذلك، لم تكن الضرائب التي تأتي من الإقطاعية كافية لبدء مشروع كبير.
رغم أنه كان يرغب بطلب المساعدة من عائلة ماركيز بيرتشي،
إلا أن كبرياء كاليبسو الضئيل لم يسمح له بذلك.
“همم، هكذا إذًا.”
هل جاءت لتسخر منه؟
كانت يد كاليبسو التي تمسك بقلم الريشة ترتجف.
حتى هذه المرة، فشل المشروع، وها هو رأسه ينبض بالألم،
ومع ذلك تظهر على وجهها هذه التعابير.
في كل مرة تفعل فيها ديانا ذلك،
كان يشعر وكأنها تحتقره، فيشتعل قلبه غضبًا.
“…لكن، لماذا تسألين فجأة؟ هل هناك نقص في الميزانية؟”
انطلقت نبرة حادة من فمه دون وعي منه.
شعر كاليبسو أنه قد يكون قد تكلم بقسوة،
فتفحص تعبيرات ديانا بعناية.
لكنها بدت غير متأثرة تمامًا.
يا لها من امرأة بلهاء.
ومع ذلك، كان كاليبسو يشعر بالارتياح لذلك.
لأنه لو كانت ديانا أذكى قليلًا،
لما كان هو وأليشيا قادرين على تنفيذ مخططاتهم.
لكنه لم يكن يعلم.
لم تكن ديانا غبية، بل كانت فقط تثق بالكامل في من تحبهم.
ابتسمت ديانا بلطف وهي تلتقي بعينيه.
كان الأمر غريبًا. لقد كانت تبتسم بالفعل.
لكن عيني ديانا، اللتين كانتا دومًا تحملان ضوءًا دافئًا،
بدتا اليوم، بشكل غير معتاد، باردتين للغاية.
ارتعشت حاجبا كاليبسو قليلاً وأطلق سعالًا مصطنعًا.
عندها فقط فتحت ديانا شفتيها ببطء.
“نقص في الميزانية؟ لا يمكن أن يكون.”
في الواقع، كانت ديانا نادرًا ما تستخدم ميزانية منزل الدوق،
إذ كانت تتلقى باستمرار الفساتين والهدايا من والدها.
بل كانت تميل إلى التوفير.
واصلت ديانا حديثها بصوت لطيف:
“لقد حصلت على معلومة جيدة.”
ارتفع حاجب كاليبسو قليلاً من كلامها.
“معلومة جيدة؟”
“نعم. في الحقيقة… إنها سر. إنها عن مشروع سيبدأه والدي.”
“ما هو بالضبط؟”
ترددت ديانا ولم تفتح فمها على الفور،
مما جعل كاليبسو يستعجلها دون قصد.
رغم محاولاته في إخفاء توتره، كانت ديانا تراه بوضوح.
فقد كان جسده مشتعلًا بالحماس.
تظاهرت بالتفكير قليلاً، ثم تحدثت بخفة:
“يقال إنه اكتشف عشبة سحرية.”
“ماذا؟ عشبة سحرية؟”
“نعم. يقال إنها تزيل الألم وتفيد في علاج جميع الأمراض.”
ما إن انتهت من حديثها، حتى فتح كاليبسو فمه مندهشًا.
وما لبث أن ارتسمت على شفتيه ابتسامة خفيفة.
لو استطاع أن يحتكر تلك العشبه لنفسه،
لجنى من الذهب ما يغنيه عن ديانا وعن حق تشغيل منجم الألماس،
فلا يعود بحاجة إليهما قط.
“…كيف يمكن الحصول عليها؟ أقصد تلك النبتة.”
“لكن لم يتم التحقق منها تمامًا بعد، لذا يجب أن نكون حذرين…”
لكن مثل هذه المنتجات يجب احتكارها بأسرع وقت، والإعلان عنها أولًا في الأوساط العلمية. قال كاليبسو بحماس واضح:
“هل يمكنكِ الحصول على البذور؟”
“من أجل من أحب، ما الذي لا يمكنني فعله؟”
أومأت ديانا برأسها مبتسمة كالملاك.
كانت عيناها ترى كاليبسو وكأنه سمكة عالقة في شبكة،
تتخبط بجهد.
سمكة على وشك أن تموت وتفوح منها رائحة العفن.
نهض كاليبسو من مقعده، وأمسك بيدها بقوة.
كانت عيناه تتلألأان بجشع نحو الثروة الهائلة التي قد يحصل عليها.
كانت ديانا ترى ما يدور في رأسه بوضوح.
ذلك الرجل الذي كان يظن ‘يا لها من امرأة يسهل استغلالها.’
بينما كانت بين ذراعيه،
رسمت على وجهها ابتسامة ساخرة لم يستطع رؤيتها.
“رغم كل تلك الإشارات… يا لغبائك، أيتها المرأة.”
تذكرت ما قاله لها يوم عرفت كل الحقائق.
الغبي الحقيقي الآن هو أنت، كاليبسو.
العشبه الري اقترحتها ديانا عليه، “لوريل بندر”،
كان يحمل آثارًا جانبية قاتلة. أعراض إدمان بعد الاستيقاظ.
كما خدعتني، الآن اخدعهم جميعًا.
وكن أعظم محتال في التاريخ.
احمرّ وجه ديانا خجلًا كفتاة صغيرة وهمست بصوت ناعم:
“أحبك، كاليبسو.”
“وأنا أحبك. فلا أحد لي سواك، زوجتي.”
لكن على عكس الكلمات الحلوة التي خرجت من شفاههما،
كان المكتب مليئًا بالكذب والرياء، دون ذرة واحدة من الصدق.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل "31- تمويل خاص "