استمتعوا
خرجت آيسيل من غرفة الطعام تاركةً وراءها كاثرين التي كانت ترتجف، ثم رفعت عينيها قليلًا لتنظر إلى كاليبسو.
بدا أن مزاجه لم يكن سيئًا،
فقد ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه.
“كيف تجدين الحياة في منزل الدوق؟”
شعر كاليبسو بنظرة آيسيل نحوه فاستدار إليها.
ولكي لا تبدو ملامحه قاسية،
عدّل تعابيره وحاول أن يبتسم بلطف قدر الإمكان.
حين يفكر في أليشيا وكاثرين،
كان يجب عليه أن يتعامل مع هذه الفتاة ببرود.
فكاثرين هي ابنته الوحيدة المتبقية،
ومن الطبيعي أن يقف في صفها.
لكن آيسيل، رغم أنها ابنة ديانا، كانت فتاة جيدة جدًا.
كانت مختلفة عن كاثرين في كل شيء تقريبًا.
إن كانت كاثرين صريحة وفظة في التعبير عن مشاعرها،
فإن آيسيل كانت نقية ومشرقة.
وفي الوقت ذاته، كانت تملك جانبًا ناضجًا،
رغم أنها بنفس عمر كاثرين.
كان كلما نظر إليها، يتذكر ابنته الحقيقية التي ولدت من دمائه والتي كان من المفترض أن تكون نبيلة المولد.
تساءل، لو أن تلك الطفلة لا تزال على قيد الحياة،
هل كان من الممكن أن تتغير علاقته بديانا؟
ربما كان، وهو يحب الطفلة التي تشبهه وتشبهها،
سيصبح حقده نحو ديانا أكثر بهوتًا مع مرور الوقت.
رغم أن الحقد الذي يكنّه لم يكن موجّهًا حقًا إلى ديانا،
بل نحو الماركيز.
لكن كل ذلك أصبح من الماضي.
لقد ماتت الطفلة.
خفض كاليبسو رأسه قليلًا وهو يستحضر ذكراها.
“……أبي.”
يبدو أنه كان غارقًا في التفكير لدرجة أنه لم يشعر بمرور الوقت.
حين عاد إلى وعيه، وجد نفسه قد وصل أمام غرفة آيسيل.
“أبي……؟”
مالت آيسيل برأسها بلطف وهي تومض بعينيها الزمرديتين اللامعتين.
“آه، آسف. كنت شارداً قليلًا.”
“لا بأس. تفضل بالدخول.”
رفرفت رموشها الذهبية الناعمة وهي تبتسم بعينيها،
ثم فتحت باب غرفتها على مصراعيه.
لقد عاشت فترة طويلة مع كاثرين.
وهذا يعني أن آيسيل كانت تعرف تمامًا ما الذي لا تستطيع كاثرين فعله، وما نقاط ضعفها.
كاثرين كانت فتاة ماكرة، لا تُظهر دلالها إلا عندما تكون في مزاج جيد أو بحاجة إلى شيء ما.
أما آيسيل، فقررت أن تفعل العكس تمامًا،
لتكسب قلب كاليبسو بالكامل.
“ما رأيك؟ أليست الغرفة قد تغيّرت كثيرًا؟”
الغرفة التي كانت في الأصل غرفة كاثرين، باتت مختلفة تمامًا.
كل قطعة أثاث وزينة تنضح بالفخامة،
وتبدو الأشياء في الغرفة باهظة الثمن لدرجة لا يمكن تقديرها.
انخفض ضوء عيني كاليبسو قليلاً.
فقد تم تجهيز هذه الغرفة بأموال الماركيز،
وكان ذلك كافيًا لإثارة عقدة النقص في داخله.
رفعت آيسيل طرف فمها بابتسامة خفيفة.
كانت قد سمعت مسبقًا من والدتها عن عقدته تجاه المال.
“أبي… لا، ذلك الرجل الذي لا أرغب حتى بمناداته بأبي،
ما السبب الذي دفعه للتخلي عن أمي؟”
“… المال، يا عزيزتي.
قلبه مملوء بالديدان الزاحفة من عقدة النقص.”
تذكرت ما دار بينهما قبل أيام، ذلك الحديث مع ديانا.
***
حين سألتها آيسيل، رفعت ديانا فنجان الشاي وقالت بهدوء.
كان صوتها رصينًا، لكن وجهها بدا ملبدًا بالظلام.
تذكرت اليوم الذي استمعت فيه إلى محادثة بين كاليبسو وأليشيا.
في تلك الليلة، قررا قتلها، وكل ما أرادوه هو الحصول على حق تشغيل منجم الألماس الذي يملكه والدها.
في النهاية، كل شيء كان بسبب المال.
“المال، إذًا؟”
منذ ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه سبب نجاتها، بدأت ديانا تجمع كل المعلومات عن كاليبسو، منذ طفولته وحتى فترة زواجه بها، وكل ما يخص منزل الدوق إرنيست.
في السجلات العامة التي كشف عنها كاليبسو،
لم يكن هناك ما يثير الريبة.
لكن من خلال التحقيقات السرية التي أجرتها بليندا،
تمكنت ديانا من معرفة السبب الحقيقي لزواجه بها.
جد كاليبسو، وهو ابن غير شرعي للإمبراطور،
كان إنسانًا مولعًا بالبذخ إلى درجة مفرطة.
ربما لأنه من الدم الملكي،
كان يرى أنه من الطبيعي أن يعيش بذلك الترف.
لم يستطع أن يتخلى عن المجوهرات، حتى ولو تراكمت عليه الديون.
وهذا الترف انتقل إلى والد كاليبسو.
وبما أن الأب كان على هذا النحو، فقد تعلّم الابن نفس الشيء.
كاليبسو هو الآخر، ظل يقترض الذهب ليغطي ما تركه والده،
حتى تراكمت عليه الديون.
ولهذا السبب، كانت على منزل الدوق إرنيست ديون ضخمة تراكمت منذ عهد جده.
لكن كاليبسو في طفولته لم يشعر بذلك إطلاقًا.
كان لديه طعام وفير، وقصر فاخر، وكبرياء النسب الملكي.
لكن الفقر، لم يهتم بكونه ملكيًا أو نبيلًا،
فقد زاره فجأة دون سابق إنذار.
بدأ انهيار منزل إيرنست الكبير فعلياً عندما كان عمره بالكاد يتجاوز العاشرة.
“هذا ما سأرتديه؟”
في تلك اللحظة، كانت إلينا،
زوجة الدوق ووالدة كاليبسو، تهز رأسها ببطء بتعبير بائس.
“أنا آسفة، بني…”
نظر إلى سترته التي سيحضر بها حفل القصر الإمبراطوري وكأن الأمر لا يصدق.
كانت السترة تفوح منها رائحة جلد رخيص،
ولم يكن فيها زر ذهبي واحد.
إلينا، التي لم تستطع شراء غير تلك السترة،
لم تقدر على رفع رأسها أمام كاليبسو.
كان ذلك مهيناً. وكان يشعر بالغضب.
كان يمقت أمه التي لم تقدر حتى على مواجهته بعد أن أعطته مثل هذه السترة، وكان يمقت جده وأباه اللذين أوصلاه إلى هذا المصير.
مع ذلك، كان ذلك منزل دوق.
وكان يحمل في دمه دماء ملكية.
فكيف له أن يرتدي ملابس بتلك الجودة الرديئة؟
وفي النهاية، لم يذهب كاليبسو إلى الحفل.
لم يكن ليرضى أن يذهب مرتدياً تلك السترة ولو على حساب حياته.
ومع مرور الوقت، أصبحت تلك المواقف تتكرر أكثر فأكثر.
الفقر قضى على راحة البال، وجعل قلب طفل كان من المفترض أن يكون مفعماً بالحياة، صحراء قاحلة.
لم يكن يستطيع فعل شيء. لم يكن بوسعه سوى انتظار أن يكبر.
وهكذا مرت بضع سنوات، وبعد وفاة والده،
استطاع كاليبسو أخيراً أن يرث لقب الدوق.
ولكن حتى مع حصوله على اللقب، لم يكن لديه وقت للراحة،
فقد كان منشغلاً تماماً بسداد الديون التي تركها والده.
لكن تلك الديون، التي تضخمت بشكل مخيف،
لم تكن بالسهولة التي تصورها.
مهما بذل من جهد، لم تكن الديون تختفي.
في خضم تلك الأزمة، سمع عن القديسة لعائلة بيرتشي.
وما إن رأى ديانا، الطاهرة كالملاك،
حتى أيقن أنه يستطيع استغلالها.
بكلمات ناعمة وهادئة، استطاع أن يقنع ديانا.
وسرعان ما نجح في الزواج منها.
وبالذهب الذي تلقاه كمهر من عائلة ماركيز بيرتشي،
استطاع بالكاد تجاوز الأزمة في تلك اللحظة.
وعندما علمت ديانا بكل تلك التفاصيل،
أدركت أخيراً السبب الذي جعله يتخلى عنها ويختار أليشيا.
كان من الواضح أنه لم يستطع تقبل ديانا التي كانت تملك خلفية أقوى منه.
لقد كان رجلاً بائساً.
كان يظن أنه ينتقم، حين اختار امرأة أدنى من ديانا،
مدفوعاً بحقده على الماركيز وشعوره بالنقص تجاهها.
***
“أبي؟”
“همم، إنها جميلة.”
بيرتشي تبقى بيرتشي.
أجاب كاليبسو بسرعة بينما كان يتفحص غرفتها بدهشة.
شعوره بالنقص تجاه عائلة الماركيز بدأ بالتحرك مجدداً.
شعر وكأن الإعجاب الذي بدأ يحس به تجاه آيسيل بدأ يتلاشى.
فكرت آيسيل بكلمات والدتها.
‘ربما، عندما يرى والدك الأثاث الذي أرسلناه لك، سيجن جنونه.
من فرط إحساسه بالدونية.’
‘همم، جيد.’
‘ماذا؟’
‘سأخلق قصة جديدة تثير شفقته،
لذا أرجو أن تساعديني يا أمي.’
بوجه بريء للغاية، أمسكت آيسيل بذراعه.
كانت المفاجأة بادية على عيني كاليبسو.
“انظر إلى هذا أيضاً. هذه أول مرة أرى أشياء كهذه!”
لكن ما أدهشه لم يكن فقط أنها تشبثت بذراعه.
“أول مرة ترين مثل هذه الأشياء؟”
كانت ديانا قد عرفت آيسيل بأنها من أقارب عائلة بيرتشي.
وكان من الطبيعي أن تكون مثل هذه الأثاث منتشرة هناك.
وإذا بتعبير آيسيل المشرقة يتحول فجأة إلى حزن،
ثم بدأت رموشها بالارتعاش.
ذلك المشهد المحزن جعله يتحدث مجدداً دون وعي.
“لا أظن أن أوضاع العائلة الرئيسية سيئة إلى هذه الدرجة.”
“…هذا ينطبق على العائلة الرئيسية فقط.”
“إذاً…”
بدأت الدموع تتجمع في عيني آيسيل.
مفاجأة الدموع غير المتوقعة جعلت كاليبسو يسارع بإخراج منديله.
نظرت إليه آيسيل بعينين متأثرتين وهي تأخذ المنديل وقالت بصوت مرتجف:
“لم أستخدم في حياتي منديلاً بهذه الجودة.”
نظر إليها كاليبسو بوجه مذهول.
المنديل الذي قدمه لها لم يكن حتى ذو جودة عالية.
لكن مجرد أنها لم تستخدم مثل هذا المنديل من قبل،
كان كافياً ليجعل المرء يتخيل البيئة التي نشأت فيها آيسيل.
“حتى هذا الفستان هو الأول من نوعه لي.
لم ألبس فستاناً فيه جواهر فاخرة وجميلة هكذا من قبل.”
بدأت آيسيل تلامس الجوهرة المثبتة في منتصف فستانها بأصابع مرتجفة، ودموعها تنهمر وهي ترمش بأعينها بسرعة.
“أن تكون نبيلاً ولكن فقيراً، هو أمر مؤلم فعلاً.”
كانت دموعها المعلقة على رموشها الطويلة مشهداً مؤثراً للغاية.
عيني كاليبسو، الذي كان يصغي لقصتها، بدأت تهتز بوضوح.
وكأنه يرى نفسه في صغره.
تفحصت آيسيل ملامحه بهدوء.
كانت النظرة التي يرمقها بها قد أصبحت خالية من العداء القائم على الشعور بالدونية.
مسحت دموعها بسرعة وقالت:
“بفضل أن أبي وأمي وافقا على احتضاني، استطعت الحصول على هذه الغرفة الجميلة، وهذا الفستان الرائع.”
“…لم أكن أعلم أن هذا هو وضعك.”
قالها بصوت منخفض.
كان يؤلمه أن يرى طفلة تشاركه نفس ماضيه.
بدأ يربت على شعر آيسيل بلطف.
فابتسمت آيسيل كجرو صغير، ثم قالت بحذر:
“أمم…”
“همم؟”
“لذا… هل يمكنني أن أطلب من أبي طلباً صغيراً؟”
“قولي ما لديك.”
رفعت نظرها إليه وهي تحرك أصابعها الصغيرة بتردد:
“…أريد أن أمشي مع أبي كل يوم.”
ما إن سمع صوتها البسيط والمتواضع حتى امتلأت عيني كاليبسو بالشفقة عليها.
المشي كل يوم؟ يا له من طلب بسيط.
شعر أنه ينجذب أكثر إلى هذه الطفلة البريئة.
كانت تحمل نفس ماضيه.
“هل هذا سيكون صعباً؟”
“…بالطبع لا.”
وافق كاليبسو بكل سرور على طلبها.
ما إن دخل غرفة آيسيل، كان وجهه مشدوداً من مشاعر الغيرة والعداء، أما الآن فقد ارتخت ملامحه وأصبحت ناعمة.
وما إن نطق بموافقته،
حتى بدأت ابتسامة آيسيل تتسع شيئاً فشيئاً.
يا له من إنسان أحمق.
كتمت ضحكتها الساخرة،
وابتسمت كأنها أسعد طفلة في العالم، بابتسامة ملائكية.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 30"