استمتعوا
لا، ظننت انني فارقت الحياة.
“…أمم.”
فتحت ديانا عينيها ببطء.
“صاحبة السمو، هل استيقظتِ؟”
أدارت رأسها نحو مصدر الصوت.
ومن خلال العصابة الرقيقة التي تغطي عينيها،
رأت بوضوح وجه الخادمة التي كانت ترتب غرفتها.
“ما هذا…!”
نهضت ديانا من السرير فجأة.
لم تكن في الكوخ، بل في غرفتها في قصر الدوق.
“ما الذي يحدث… ما تاريخ اليوم؟”
“عفواً؟ إنه اليوم الأول من السنة الثانية والعشرين حسب تقويم الإمبراطورية. لقد تأذيتِ البارحة أثناء زيارتكِ للمعبد…”
إذا كان اليوم هو اليوم الأول من السنة الثانية والعشرين،
فهذا يعني أنه اليوم التالي للحادث الذي أصيبت فيه كاثرين بعينيها، وكنتُ قد منحتها بصري حينها.
في ذلك الوقت، كانت الخادمات يعتقدن أنني أنا من أذيت في عيني بسبب النزهة، وليس كاثرين.
خوفاً من أن تحزن كاثرين من حديث الخادمات، أمرتهن بالكذب.
لقد كان ذلك بدافع حرصي الخالص عليها.
لكن الغريب أن عيني كانت ترى كل شيء بوضوح.
بل بوضوح مذهل.
هل منحني الحاكم فرصة حقاً؟ فرصة للانتقام ممن سخروا مني.
في عيني ديانا، التي كانت تشبه الغابة الخضراء دائماً،
حلّ ظلام عميق.
قبضت على يدها بقوة.
ثم أقسمت، بأنها لن تسمح لهم بخداعها بعد الآن.
وأنها ستجد ابنتها، التي لم ترَ وجهها حتى، واضطرت لتركها.
أمرت ديانا جميع الخادمات بالمغادرة.
ثم نزعت العصابة عن عينيها.
وعندما أزالت الغطاء، رأت كل شيء بوضوح من جديد.
غمست طرف القلم في الحبر.
وفتحت ورقة من الرق وبدأت في كتابة شيء ما.
كانت تنوي تنظيم ذكرياتها أولاً.
منذ متى بدأت خيانتهم يا ترى؟
كيف قاموا بتبديل الطفلة؟ ومتى أصبحت كاثرين،
التي ربيتها بكل حب طوال حياتي، متحالفة مع أليشا؟
لا تزال هناك الكثير من الأسئلة.
أليشا كانت صديقة طفولتي المقربة.
أليشا… لماذا فعلتِ هذا؟!
تغلغلت أظافر ديانا في جلدها من شدة قبضتها.
أليشا كانت من عائلة البارون بليير، والتي لم تكن أوضاعها جيدة.
لذلك، وبدافع مني، دعمتها عائلتي، عائلة ماركيز بريتشي.
وبفضل هذا الدعم، حصلت على ترخيص نادر كطبيبة تابعة للقصر الإمبراطوري.
لكنها لم تذهب إلى القصر.
بحجة وجود صديقتها المقربة،
التحقت بالقصر كطبيبة خاصة لهذا القصر.
كنا سعيدتين جداً بذلك لدرجة أننا صفقنا لبعضنا البعض.
لا زلت أذكر تلك اللحظة بوضوح.
في الحقول المليئة بالزهور، بكيت من الفرح بصدق.
حتى أن أليشا مسحت دموعي بلطف وبكت معي.
كنت أظن حينها أن مشاعرها حقيقية.
كم كنتُ غبية.
“هاه…”
تنهدت لا إرادياً.
شعرت برغبة في تحطيم كل ما على هذا المكتب من شدة الغضب.
مزّقت الرق الذي كانت تكتب عليه حتى لم يَعد له أثر.
لم يكن الوقت مناسباً للتنهد.
في هذا العش المليء بالأعداء، كان عليها حماية نفسها وابنتها.
تماسكت وهدأت قلبها.
لو استسلمت للغضب، فستفقد رؤيتها من جديد كما في السابق.
“الخبز الجاف…”
تلك الطفلة التي جلبت لي الخبز الجاف.
أليشا قالت بوضوح إن ابنتي كانت خادمة وعاشت حياة شاقة.
جلبها الخبز لي يعني أنها خادمة في هذا القصر.
“يجب أن أذهب إلى سكن الخادمات.”
غطت ديانا عينيها مرة أخرى.
لكن حتى مع تغطيتها،
كان بإمكانها الرؤية من خلال القماش الرقيق.
ثم أخذت عصا المكفوفين التي بها جوهرة صغيرة في نهايتها.
قررت أن تتظاهر بالعمى حتى تكشف جميع خططهم.
بهذا لن يشعروا بأي ريبة تجاهها.
فتحت الباب على مصراعيه.
وكان أمامها عدد من الخادمات أكبر مما كان عليه قبل أن تفقد بصرها.
هل كن يراقبن تحركاتها؟
ولم تكن تعرف أي واحدة منهن.
من المؤكد أنهن كلهن خادمات جدد اشترتهن أليشا.
هل بدأ الأمر منذ ذلك اليوم؟
منذ أن فقدت بصرها وأصبحت أليشا تتصرف كمالكة القصر؟
تذكرت أنه في تلك الفترة،
تم نقل الخادمات اللواتي كن معها عند زواجها إلى مكان آخر.
وكان ذلك بأمر من كاليبسو.
ظنّت حينها أن الأمر طبيعي لأنه قال إنه يريد إرسال أشخاص موثوقين.
“ديانا الغبية.”
لا زال صوت أليشيا يرن في أذنيها.
نعم، كنتِ على حق. كنتُ غبية.
أخفت ديانا دهشتها قدر المستطاع.
كانت يداها ترتجفان، لكنها لم تظهر ذلك.
فتحت شفتيها الجافتين ببطء.
“هل من أحد هناك؟”
عندما نادت، بدأت الخادمات ينظرن إلى بعضهن البعض،
وكأن تدفع إحداهن الأخرى للرد.
وفي النهاية، أجابت أصغر الخادمات سنًا على مضض.
“نعم، صاحبة السمو. أنا هنا.”
مرّت ديانا بعينيها على أيدي الخادمات الواقفات في الممر.
خدمة الدوقة كان من المهام السهلة نسبياً.
لكن أيدي هؤلاء الخادمات كانت ناعمة ونظيفة،
وكأنهن لم يقمن بأي عمل شاق.
لم تكن ابنتها بينهن.
يد تلك الطفلة كانت خشنة ونحيلة،
كما لو أنها اعتادت القيام بالأعمال الصعبة.
“هل يمكنكِ أن ترشديني إلى مسكن الخادمات؟”
“أمسكي بذراعي، من فضلكِ.”
تبعت ديانا الخادمة إلى مسكن الخادمات.
ثم أمرت بجمع جميع الخادمات.
خرجن وهن يبدين علامات الحيرة.
وكما توقعت، لم تتعرف على أي وجه منهن.
“ما الخطب، صاحبة السمو؟”
ظهرت جوليا، رئيسة الخادمات، وهي واقفة باستقامة.
كانت أليشيا قد أوصت بها كرئيسة للخادمات باعتبارها شخصاً موثوقاً عندما دخلت كطبيبة في القصر.
كان كل شيء مقززًا.
يا لك من خبيرة في التخطيط، ألي.
أخفت ديانا ارتجافها بقبض فستانها بشدة.
“آه، أردت فقط أن أخبركم بشيء.”
أجابت ديانا بشكل عابر وهي تمعن النظر في الخادمات المُجمّعات. لكنها لم ترَ تلك الطفلة النحيلة.
“هل الجميع هنا؟”
“نعم، الجميع حاضر.”
نظرت جوليا إلى ديانا بريبة وهي تجيب.
فديانا لم تكن تجمع الخادمات قط من قبل.
كانت لطيفة معهن، لكنها لم تكن تهتم بالأعمال المنزلية.
بالأصح، كانت من النوع الذي يثق بمن يستخدمه ويعهد له بالمهمة.
لذا لم يكن من المعتاد أن تجمعهن أو تتدخل في شؤونهن.
لكن الآن، تغير كل شيء.
تفحصت جوليا وجه ديانا بقلق داخلي.
فخطة الآنسة أليشيا كانت على وشك البدء بجدية.
فلماذا تصرفت ديانا بهذا الشكل فجأة؟
لم يكن يُسمح بحدوث أي تغيير على الدوقة.
حتى يحين وقت التخلص من تلك المرأة الغبية،
وتصبح الآنسة أليشيا سيدة القصر.
تجهمت جوليا وبصقت على الأرض.
ضحك بعض الخدم المقرّبين منها بخفوت.
ظنّوا طبعاً أن ديانا لا ترى شيئاً.
“أردت فقط أن أقول…”
كادت تطحن أسنانها.
حتى الخادمات أسأن معاملتها خلال فترة عماها.
كنتُ أعيش في وهم، أعتقد أنني في بستان زهور.
ظننت أن الجميع يحبني ويهتم بي.
لكن الحقيقة كانت مؤلمة وقاسية.
لدرجة تمنيت لو أنني ما زلتُ عمياء.
تماسكت ديانا وقالت بوضوح:
“جئت فقط لأقول إن عيني أصبحتا على هذه الحالة بسبب الحادث البارحة، وأتمنى منكن الاعتناء بي.”
ابتسمت ديانا ابتسامة خفيفة بعد حديثها.
تمامًا كما كنّ يمثلن عليها طوال هذا الوقت.
ما دمتم تستطعن التمثيل، فأنا أيضًا أستطيع.
“نعم، فهمت. لا تقلقي، صاحبة السمو.”
ردّت جوليا بلطف مصطنع،
رغم أن ملامح وجهها كانت مليئة بالاشمئزاز.
تماسكت ديانا وأمسكت بذراع الخادمة الصغيرة مرة أخرى.
وبينما كانت عائدة إلى غرفتها، رأت كاثرين تقترب من نهاية الممر.
ابنتها العزيزة التي عبثت بمشاعرها.
ابتلعت ديانا ريقها وتابعت المشي.
عندما رأت كاثرين ديانا، توقفت فجأة.
ثم وضعت إصبعها على شفتيها، مطالبة الخادمة بالصمت.
أومأت الخادمة برأسها بهدوء دون أن تنطق بكلمة.
بدأت كاثرين تلوّح بيدها أمام وجه ديانا،
كما لو كانت تتحقق إن كانت ديانا ترى أم لا.
لكن ديانا واصلت السير دون أن تبدي أي رد فعل.
وعندما لم تُظهر أي تفاعل، ابتسمت كاثرين ببطء.
شعرت ديانا بقشعريرة تسري في جسدها وكأن حشرات تزحف على جلدها. لم تكن هذه تعبيرات فتاة في الخامسة عشرة من عمرها.
بل كانت ابتسامة تقشعر لها الأبدان.
شعرت أن دموعها ستنهمر.
حتى لو لم تكن ابنتها الحقيقية، فقد أمضت معها 15 عاماً.
أحبت كاثرين بصدق.
إلى درجة أنها لم تتردد في التضحية ببصرها من أجلها.
ولو طُلب منها تقديم حياتها، لفعلت دون تردد.
كانت كاثرين بالنسبة لها كذلك.
لكن على وجه كاثرين لم يكن هناك أدنى أثر للقلق عليها.
بل كانت تشعر بالراحة والسعادة لأنها لم تعد ترى.
كاثرين، الجميلة كزهرة، النقية كملاك، لم تكن موجودة بعد الآن.
من أمام عينيها، لم تكن سوى شيطانة تحمل سكيناً لقتلها.
مرت ديانا بجانبها وعادت إلى غرفتها.
وكانت الغرفة هادئة تماماً.
قلبها كان مضطرباً كمحيط عاصف.
عندما رأت وجه كاثرين، أدركت حقيقة ما يحدث.
وأدركت بمرارة أن ما تمر به ليس حلماً، بل واقعاً.
رفعت القلم. كانت تنوي إرسال رسالة إلى عائلتها، بريتشي.
فهذا المكان لم يعد سوى وكر أعداء بالنسبة لها.
وكانت بحاجة إلى القوة والحلفاء لمواجهتهم.
كتبت ديانا شيئاً، ثم فتحت خزانة السحر وبدأت تفتش بداخلها.
منذ صغرها، كانت تتمتع بموهبة في السحر والكيمياء.
لذلك، كانت تحتفظ أحياناً ببعض الأدوات السحرية والجرعات لاستخدامها في أوقات الفراغ.
ولم تكن تعلم أنها ستكون ذات فائدة كبيرة اليوم.
ابتسمت ديانا بمرارة بينما كانت تخلط مسحوقاً ذهبياً مع ضوء أبيض محفوظ في قارورة.
وسرعان ما بدأ الضوء يتكاثف كغيمة من القطن،
ثم نفخت عليه بلطف باتجاه الرسالة.
فتحولت كلمات الرسالة تدريجياً إلى رسالة عادية تسأل عن الأحوال.
“لا بد أنهم يراقبون رسائلي.”
نظرت ديانا إلى الرسالة برضا، ثم فتحت الباب ونادت على خادمة.
“هل يمكنكِ إيصال هذه الرسالة إلى قصر بريشتي؟”
“نعم، صاحبة السمو.”
لكن الخادمة توجهت إلى الطابق الثاني،
وليس إلى الطابق الأول حيث تُرسل الرسائل عادة.
كانت بالتأكيد ذاهبة إلى أليشيا أو كاليبسو.
كاليبسو. لمجرد التفكير به، شعرت بالغضب من جديد.
في تلك اللحظة، طرق أحدهم الباب.
“تفضل بالدخول.”
كان كاليبسو. تتبعه أليشيا.
“هل عينيك بخير؟”
جاء، كما يبدو، ليتأكد إن كانت ترى فعلاً أم لا.
“أنا… بخير، عزيزي…”
أجابت ديانا بصعوبة.
بدا كاليبسو بوجه جامد، يتظاهر بالقلق فقط بصوته.
“يالها من راحه. لا توجد إصابات أخرى.”
لكن شيئاً غريباً كان يحدث.
أليشيا لم تتكلم بكلمة واحدة،
بل كانت تضحك بخفة كما لو لم تكن موجودة.
وفي اللحظة التي تساءلت فيها ديانا عن الأمر،
أمسك كاليبسو خصر أليشيا بشدة.
ثم، أمام عينيها، قبّلت أليشيا عظمة ترقوته بصمت.
وهو، بدوره، قبّل شفتيها بخفة، كما لو كانت حبيبته.
احمرّت وجنتا أليشيا.
بدا أنهما يستمتعان بهذا الفعل الشنيع أمام الزوجة العمياء، وكأنهما في نشوة.
كان كاليبسو يلمس جسد أليشيا بوقاحة، وهي تبادله القبلات.
وكأن هذا شيء اعتادا عليه.
رغم هول الموقف، لم تستطع ديانا قول شيء.
كان يجب أن تظل كفيفة.
الآن فقط، رأت بأم عينها ما كانوا يفعلونه.
شعرت بالغثيان وكأن أحشاءها تتلوى.
لم تعد تحتمل. قبضت على يدها بإحكام،
وسيطرت على صوتها حتى لا ينكشف اضطرابها.
“أشعر بالتعب اليوم… هل يمكنك المغادرة؟”
“حسناً، ارتاحي.”
“…نعم، عزيزي.”
غادرا الغرفة وهما لا يزالان متلاصقين.
ولم تنسَ أليشيا أن ترسل إلى ديانا نظرة سخرية أخيرة قبل خروجها.
تلك النظرة كانت تقول بوضوح: “يا لكِ من امرأة غبية.”
بمجرد أن غادرا، انهارت ديانا على الأرض.
وقضمت شفتيها حتى سال منها الدم.
“لقد استهنتَ بي كثيراً، عزيزي… وأنتِ أيضاً، ألي.”
لستُ قديسة. ولا يمكنني أن أسامح من ارتكبوا مثل هذه الأفعال.
نزعت ديانا العصابة عن عينيها.
وحدقت في الباب الذي خرجوا منه.
وفي عينيها الزمرديتين، اشتعلت نار لا متناهية من الغضب والحقد.
“سترون… كيف سأنتقم منكما.”
سأسقط في الظلام بكل رضا. حتى لو كان ثمن ذلك لعنة لا تنتهي.
لقد كانت هذه اللحظة التي تحوّلت فيها القديسة الطيبة والضعيفة إلى شريرة. وكأن أجنحة سوداء حالكة ظهرت خلف ظهرها، أغمق من الظلام ذاته.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 3"