استمتعوا
في المرة السابقة التي جاء فيها متنكّرًا بزيّ كاهن إلى القصر، كان قد رأى بليندا، لذلك كان يعرف أن هذا اليوم سيأتي عاجلًا أم آجلًا.
لكن لم يكن يتوقع أن يأتي بهذه السرعة.
ربما كان عليه أن يكون أكثر حذرًا.
رويري عبس قليلًا وكأنه منزعج،
ثم مرر يده في شعره الأحمر الفاقع.
“هل تعرفان بعضكما؟”
قالت ديانا وهي تنظر إليهما بتعجب واضح.
بدا على بليندا أيضًا أنها فوجئت جدًا.
رفعت زوايا شفتيها بابتسامة واسعة وأجابت وهي ترمش بعينيها الكبيرتين.
“التقينا عندما كنا صغارًا.”
“كيف؟”
“سبق أن أخبرتك أنني من دار أيتام، أليس كذلك؟”
أومأت ديانا برأسها بهدوء عند سماع كلام بليندا.
فأكملت بليندا حديثها وهي تنظر إلى ديانا.
“كانت تقام أحيانًا فعاليات بين دور الأيتام في نفس المنطقة. التقينا هناك.”
آه، صحيح، كانت قد سمعت من قبل أن رويري أيضًا من دار أيتام. وإذا كانت نفس المنطقة، فلا بد أنها كانت ضمن نطاق مقاطعة الماركيز.
تساءلت ديانا إن كانت تلك دار الأيتام التي تعرفها،
فسألت بعينين لامعتين:
“ما اسمها؟”
“مـ-مهلًا لحظة…”
“المكان الذي كان فيه رويري اسمه دار أيتام أنجلين.”
حاول رويري أن يمنع بليندا من الإفصاح،
لكن اسم الدار خرج بالفعل من شفتيها.
“دار أيتام أنجلين؟”
اتسعت عينا ديانا بدهشة كبيرة.
كانت تلك الدار التي اعتادت زيارتها باستمرار قبل زواجها،
وأكثر دار أيتام كانت تقدم فيها خدماتها.
رمشت بسرعة ثم التفتت نحو رويري.
“رويري، هل هذا صحيح؟ كنت في دار أيتام أنجلين؟”
“…نعم.”
أمالت ديانا رأسها بحيرة.
بالنظر إلى عمر رويري، لو كان موجودًا حينها فلا بد أنهما التقيا.
لكن رغم محاولاتها تذكر الماضي، لم تتذكر أي شيء عنه.
لو كانت قد رأت هذا الشعر الأحمر وتلك العيون الزرقاء الواضحة حتى مرة واحدة، لما نُسيت صورته من ذاكرتها.
فالشعر الأحمر نادر حتى في الإمبراطورية.
“إذًا، هل تعرفني؟”
“…رأيتك من قبل.”
أجاب رويري بصوت منخفض.
بدا وكأنه لا يرغب في الحديث عن هذا الموضوع أكثر.
“رأيتني، تقول؟”
أمام كلامه، حاولت ديانا أن تتذكر زياراتها لدار الأيتام أنجلين.
تذكرت كل شيء بوضوح.
الرحلات إلى التلال المليئة بالزهور مع الأطفال، إعداد الطعام بنفسها وتوزيعه، بل وحتى التنكر كملاك في حفلات أعياد ميلاد الأطفال.
لكن عندما حاولت التفكير إن كان رويري بينهم،
غشى رأسها ضباب غريب وكأنها لا تستطيع الرؤية بوضوح.
وبدأ رأسها يؤلمها فجأة.
“آه…”
“لا تحاولي أن تتذكري بالقوة، نونا.”
أسرع رويري إلى ديانا التي كانت تمسك برأسها عند الصدغ.
نظر إليها بعينين مملوءتين بالقلق، ومدّ يده نحوها بهدوء.
لكنه لم يستطع لمسها في النهاية.
وكانت ابتسامته المعتادة قد اختفت تمامًا من وجهه.
“هذا لا يجوز.
بليندا، خذي نونا إلى الداخل. يبدو أن صداعها شديد.”
“سيدتي، استندي عليّ من فضلك.”
أسندت بليندا رأس ديانا إلى كتفها وساعدتها على دخول القصر.
حتى بعد أن اختفوا عن الأنظار،
ظل رويري يحدّق في ظهر ديانا بعيون متقدة.
كانت نظرته كمن يرى حبيبًا قديمًا بعد فراق طويل.
ظل واقفًا يحدق بمكانها الخالي لفترة طويلة،
ثم اختفى فجأة وكأنه تذكّر شيئًا.
***
“مرحبًا، أبي؟ مرحبًا، كاثرين؟”
دخلت آيسيل إلى غرفة الطعام بخطوات مرحة.
كان كاليبسو وكاثرين جالسَين هناك.
ارتعشت حاجبا كاثرين قليلاً.
جلست آيسيل مقابل كاثرين دون أن تأبه لنظراتها الواضحة بعدم الارتياح.
“قالت أمي إنها ليست بخير وستتناول طعامها في غرفتها.”
“…فهمت.”
أجاب كاليبسو ببرود وهو ينظر نحو كاثرين دون قصد.
كانت كاثرين تشعر بالغيرة الشديدة،
فقد سُلب منها كل ما كانت تعتبره ملكًا لها.
وآيسيل لاحظت على الفور التوتر الطفيف الذي يسود بينهما.
لكنها ابتسمت بود نحو كاليبسو وتحدثت بلطف:
“أبي، هل تود أن تزور غرفتي الجديدة؟”
ابتسم كاليبسو بخفة دون أن يشعر، متأثرًا بلطافة نبرتها.
“غرفتك؟”
كاثرين، منذ أن بلغت الخامسة عشرة،
لم تسمح أبدًا لأبيها بدخول غرفتها.
لم تكن من النوع الودود أصلًا.
كانت تتصنّع اللطافة فقط أمام ديانا.
ديانا وحدها لم تكن تعلم أن كاثرين كانت سريعة الغضب،
كثيرة الشكوى، بل وتتصرّف بعنف أحيانًا.
“نعم. جدي اشترى لي الكثير من الأثاث الجديد.
وأردت أن أريك إياه، أبي.”
قالت آيسيل بخجل مصطنع ووجنتيها تتوردان كالخوخ،
متدللة بطريقة ساحرة.
“…حسنًا، فلنرَ.”
هز كاليبسو رأسه في النهاية ووافق.
نظرت إليه كاثرين بدهشة وعدم تصديق،
لكنه تجنّب عمدًا النظر في عينيها.
في تلك اللحظة، بدأت الخادمات يدخلن واحدة تلو الأخرى ويضعن الأطباق على الطاولة.
نظرت آيسيل إلى الطعام بشغف واضح.
عندها، لمعت في عقل كاثرين فكرة لإحراج آيسيل.
أشارت إلى خادمة قريبة منها لتقترب،
ثم همست لها بشيء في أذنها.
“أبي.”
“ما الأمر، كاثرين؟”
قبل أن تبدأ آيسيل بالأكل، نادته كاثرين بابتسامة مصطنعة.
“أبي، انتظر لحظة.
لقد طلبت للتو طبقًا خاصًا لأختي الجديدة يناسبها تمامًا.”
نظرت آيسيل ببطء نحو كاثرين التي كانت تبتسم بمكر واضح.
من تعابيرها، بدا أنها تخطط لإحراجها.
لكن آيسيل لم تشعر بأي خوف. ابتسمت بهدوء وردّت:
“يا إلهي، أنا متشوّقة لمعرفة ما أعدّته أختي الصغيرة لي.”
“استعدي، أختي.”
تطايرت الشرارات بين أعين الاثنتين.
وشاع توتر شديد في غرفة الطعام.
وفي تلك الأثناء، دخلت الخادمة وهي تحمل صينية عليها طبق ما.
كانت الخادمة تتصبب عرقًا وتبدو خائفة،
ثم وضعت الطبق أمام آيسيل ويدها ترتجف.
رفعت آيسيل حاجبيها قليلًا وفتحت الغطاء.
واتسعت عيناها من الدهشة عند رؤية ما بداخل الطبق.
قطعة من الخبز الجاف، وكوب من الحليب المتعفن.
كان هذا الطعام معروفًا فقط لكاثرين وأليشيا وآيسيل.
ابتسمت كاثرين بخبث وقالت:
“ما رأيك؟ هل أعجبك؟”
رغم نبرة صوتها المليئة بالسخرية،
لم يظهر على آيسيل أي انزعاج.
بل التفتت بهدوء إلى الخادمة.
“لا بأس، يمكنك الذهاب.”
“انسـ، انستي…”
“لا تقلقي. لن أحمّلك أي مسؤولية.”
طمأنتها آيسيل بلطف.
كان تصرفها ناضجًا جدًا.
تفاجأ كاليبسو من رد فعلها ونظر إليها وهو يلمس ذقنه بتعجب.
مهما كان عدم رضاها عن الأخت الجديدة،
فقد كان هذا تصرفًا فظًا للغاية من كاثرين.
لكن آيسيل لم تُظهر أي ارتباك على الإطلاق.
أمام هذا الثبات،
قرر كاليبسو أن يراقب بصمت ليرى كيف ستتعامل مع الموقف.
أما كاثرين، دون أن تدري بما يفكر به الدوق،
فقد رفعت طرف شفتيها بسخرية وقالت بازدراء:
“هيا كلي. يبدو أنه الطعام المثالي لكِ، أليس كذلك؟”
بعد بضعة أيام من تناول الطعام الدسم،
فلا شك أن هذا النوع من الطعام سيكون مثيرًا للاشمئزاز.
لو كانت هي من تلقت مثل هذا الطعام،
لكانت قد تقيأت وهربت من غرفة الطعام.
راحت كاثرين تضحك في سرها وهي تتخيل آيسيل وهي تهرب من غرفة الطعام مذعورة.
فبعد إهانة كهذه، كان من الطبيعي أن تغادر المكان غاضبة.
لكن على عكس توقعات كاثرين،
اكتفت آيسيل بالتحديق بهدوء في الطعام أمامها.
كان ذلك الطعام مما اعتادت تناوله حتى كرهته أثناء فترة احتجازها.
ورؤية هذا الطعام مجددًا بعد وقت طويل أثار فيها نوعًا من الحنين.
فقد كان هو من سدّ جوعها حينذاك.
رفعت آيسيل كوب الحليب الذي نمت عليه العفَن،
ثم قالت بابتسامة خفيفة:
“شكرًا لك، كاثرين.
إن كان هذا يعبر عن مشاعرك، فسأتناوله بكل سرور.”
“……ماذا؟”
“آيسيل!”
حاول كاليبسو إيقافها، لكن الحليب كان قد انساب بالفعل في حلقها.
فتحت كاثرين فمها بدهشة دون أن تشعر.
أما آيسيل، فقد أنهت شرب الحليب ثم وضعت الكوب على الطاولة بقوة، وبعدها التقطت قطعة الخبز اليابس.
“آيسيل، توقفي عن هذا.”
نهض كاليبسو أخيرًا من مكانه وأوقف يد آيسيل التي كانت على وشك رفع الخبز.
أمام هذا المشهد غير المعقول، ارتجف جسد كاثرين.
“……لكن كاثرين قدمت لي هذا الطعام لأول مرة.”
“كاثرين، اعتذري حالًا. لا يمكنني التغاضي عن هذا،
حتى لو كنت والدك. حليب فاسد وخبز جاف كهذا؟”
قال كاليبسو بوجه متجهم وهو يطلب من كاثرين الاعتذار.
أن يقف في صف آيسيل؟! امتلأت عينا كاثرين بالذهول.
كاليبسو، ديانا، أليشيا… كلهم سواء.
لماذا لا يستطيع أحد أن يواجه آيسيل؟
في تلك اللحظة، تذكرت كلمات والدتها.
كلماتها حول ضرورة إخفاء المشاعر.
لكنها، بمجرد أن ترى آيسيل،
كانت مشاعر الغضب تسيطر عليها وتدفعها إلى تصرفات حمقاء.
نظرت كاثرين إلى والدها بعينين مرتعشتين.
كان وجهه يعكس خيبة أمل واضحة.
“……لماذا أنا؟”
وكما هو متوقع، لم تخرج منها كلمات خاضعة أو نادمة.
تنهد كاليبسو قليلًا ثم اعتذر لآيسيل بدلًا منها.
“أعتذر نيابة عنها، كاثرين ما زالت صغيرة.”
“لا بأس.”
أجابت آيسيل بابتسامة مريرة وهي تهز كتفيها بخفة.
وكان في تعبيرها من الألم ما جعل كاليبسو يشعر بمزيد من الأسف تجاهها.
أما كاثرين، فظلت ترتجف وهي تحدق في آيسيل، لكن الأخيرة ابتسمت برقة ثم وجهت إليها ضربة قاصمة بكلماتها التالية:
“بما أنني تناولت طعامًا لا يستطيع أحد غيري لمسه،
فلا بد أن كاثرين أدركت شيئًا ما الآن، أليس كذلك؟ كاثرين؟”
كان صوتها وكأنها تعلّمها درسًا.
“أنتِ…!”
“قلت توقفي، كاثرين.”
تغير لون وجه كاثرين بين الأحمر والأزرق،
فقطع كاليبسو كلامها ببرود.
ثم نظر إلى آيسيل بعينين دافئتين، ووقف ليرافقها.
“لا يمكننا الاستمرار في تناول الطعام الآن.
لنذهب لرؤية غرفتك الجديدة أولًا.”
“كما تشاء، أبي.”
خرج كاليبسو مع آيسيل وهما يتبادلان حديثًا وديًّا وهما متشابكا الأذرع. وقبل أن تخرج من غرفة الطعام، نظرت آيسيل بخفة إلى كاثرين.
تقابلت عينا كاثرين المرتبكتان مع عيني آيسيل في الهواء.
عندها، ابتسمت آيسيل بسخرية خفيفة.
لكن في تلك الابتسامة كان هناك تحذير واضح.
تحذير بأنها ستأخذ والدها، ووالدتها، وحتى هذا القصر بأكمله.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 29"