استمتعوا
“مرحبًا.”
قالت آيسيل بابتسامة مشرقة وهي تمسك طرفي فستانها وتنحني بركبة واحدة قليلًا.
شعرها الجاف سابقًا أصبح لامعًا،
وخدّاها الممتلئان تلونّا بلون وردي يشبه لون الخوخ.
أما شفاهها التي كانت متشققة وجافة فقد أصبحت لامعة وبراقة.
كانت بالفعل جديرة بأن تُنسب إلى ديانا،
من كانت تُعرف يومًا بـ’زهرة المجتمع الراقي’.
لم تعد هناك أي آثار لتلك الفتاة الهزيلة والباهتة.
بل وحتى مشيتها الهادئة أثناء دخولها بدت أكثر أناقة من كاثرين.
“عزيزي، هذه آيسيل. ستكون ابنتك.”
كاليبسو، الذي لم يفهم الموقف، ابتسم بتوتر.
لم يكن يعلم أن الفتاة أمامه هي ابنته الحقيقية.
“اجلسي، آيسيل.”
“نعم، أمي.”
أمي؟! لمَ تناديها بأمي؟ نظرة كاثرين المليئة بالذهول اتجهت نحو آيسيل التي جلست أمامها بوجه هادئ.
آيسيل، التي كانت تبتسم بعينيها نحو كاليبسو،
حولت ببطء نظراتها إلى كاثرين.
وفي اللحظة التي التقت فيها أعينهما،
بدا وكأن ظل وحش مفترس ذو أنياب حادة ظهر خلف آيسيل.
كانت ابنة ديانا الحقيقية، تلك التي كانت تُعامل بأحط الطرق، والآن شعرت كاثرين بأنها ستلتهمها.
تحت الطاولة، بدأت يد كاثرين بالارتجاف.
وبدأ العرق البارد يتكوّن على جبينها.
أما آيسيل، فكانت تبتسم بهدوء عند طرف شفتيها.
“أليس الأمر مدهشًا؟”
“هاه؟”
ديانا نظرت إلى آيسيل بمودة، ثم التفتت نحو كاليبسو.
“ألا تظن أنها تشبهني كثيرًا؟ بل وتشبهك أيضًا.”
“حقًا، كذلك.”
رغم أن ملامحها كانت أقرب إلى ديانا،
إلا أن لون شعرها وهالتها ذكّرتاه بنفسه.
أجاب كاليبسو باختصار، ثم ألقى نظرة خاطفة نحو أليشيا.
كانت الأخيرة منكفئة رأسها، ويبدو أنها تلقت صدمة كبيرة.
ولم يكن ذلك غريبًا.
فديانا، التي كانت تحب كاثرين بشدة،
فجأة أحضرت فتاة وقالت إنها ستتبناها.
“يبدو أنه يجب أن نعيد النظر في مسألة التبني،
أليس كذلك، عزيزتي؟”
“ماذا؟”
قالت ديانا وهي تعقد حاجبيها،
لكن كاليبسو واصل حديثه دون أن يتأثر.
“هناك نظرات النبلاء الآخرين أيضًا…”
“عزيزي.”
ضحكت ديانا بخفة ثم تابعت.
كان لديها وسيلة أكيدة تجعل كاليبسو يوافق على اقتراحها دون جدال.
“والدي قدّم اقتراحًا.”
“ما هو؟”
“قال إنه علينا أن نرسل الأطفال إلى مهرجان السحر القادم.”
“الأطفال؟”
“آيسيل، التي ستكون ابنتنا، قيل إنها تملك موهبة في السحر.”
“موهبة في السحر؟”
نظر كاليبسو بدهشة نحو آيسيل التي كانت جالسة بهدوء.
إن أصبحت هذه الفتاة ابنة للعائلة وأصبحت ساحرة عظيمة، فسيُحلّ بذلك كل ما يعانيه من أزمات مالية.
ومع هذا التفكير، بدأت أطماع دفينة تظهر في عينيه.
“أليس كاثرين تتعلم السحر أيضًا؟”
“أجل، أعلم.”
“إذن ستصبح كاثرين وآيسيل منافستين بشكل شريف.
قال والدي إنه سيقدّم جائزة عظيمة لمن تجتاز الاختبار.”
“جائزة عظيمة؟”
“أعتقد… أنها ستكون حقوق تشغيل منجم ألماس.”
حقوق تشغيل منجم ألماس! جميع من في المكان،
باستثناء ديانا وآيسيل، اتسعت أعينهم من الصدمة.
كانت تلك الجائزة التي وعد بها الماركيز كاثرين يوم حفل ظهورها للمجتمع. والآن يُقال إنها جائزة لمن تجتاز الاختبار؟
هذا يعني أن حقوق المنجم قد تذهب إلى آيسيل، لا إلى كاثرين.
“هذا الأمر…”
“لا تقلق، عزيزي.”
قالت ديانا بابتسامة وهي تقطع قطعة من فطيرة اليقطين الحلوة الموضوعة أمامها.
“أليس من الطبيعي أن يتغلب الحقيقي على المزيف؟”
عند تلك الكلمات المليئة بالمعاني،
ابتلعت أليشيا وكاثرين ريقهما بشدة.
ارتجفت أجسادهما من التوتر،
ولم تعدا قادرتين على البقاء في المكان.
“أنا… أشعر بالتوعك، سأغادر أولًا،
سمو الدوق، سمو الدوقة.”
“وأنا أيضًا.”
غادرت كل من كاثرين وأليشيا قاعة الطعام مسرعتين كأن النار قد اشتعلت في ملابسهما.
وبينما كانت ديانا تراقب رحيلهما بشكل فكاهي،
أعطت إشارة إلى شين.
فقدّم شين أوراق التبني إلى ديانا،
والتي بدورها ناولتها إلى كاليبسو.
“هذه أوراق التبني. أود لو أنهيتها اليوم، عزيزي.”
“…حسنًا.”
لم يعد هناك مجال للرفض.
فبمجرد أن وضع الماركيز حقوق المنجم كجائزة،
كان على آيسيل أن تكون رسميًا ابنة لعائلة إرينست.
“أوه، نسيت نفسي. آيسيل، ابدئي بتناول الطعام.”
“نعم، أمي.”
بدأت آيسيل بإظهار آداب المائدة التي تعلمتها خلال الأسبوعين في قصر الماركيز.
نظر كاليسبو مطولًا إلى آيسيل وهي تأكل السلطة بلقمة كبيرة دون أن تُصدر أي صوت من أدوات المائدة.
وارتسمت على وجهه ابتسامة دون أن يشعر.
كاثرين كانت دائمًا تأكل بتذمر وبطء،
أما آيسيل فبدت محبوبة ولطيفة في طريقتها.
رغم أنه في البداية شعر بالنفور منها بسبب أنها قريبة من الماركيز، إلا أنه عندما رآها بنفسه ووجد فيها شبهًا منه،
بدأ يشعر تجاهها بمودة غريبة.
“تأكلين بشهية، أليس كذلك؟”
“نعم، يا أبي.”
أجابت آيسيل تلقائيًا وهي تمضغ الطعام،
ثم أدركت ما قالت فابتلعت بسرعة ما في فمها.
ثم ابتسمت بخفة وصححت كلامها.
“آه، عذرًا. قصدت والدي.”
“أبي، هه.”
ضحك كاليبسو ضحكة صاخبة لذلك التعبير الظريف.
كانت فتاة جريئة حقًا.
أن تناديه ‘أبي’ منذ اليوم الأول لتبنيها،
يا لها من فتاة مختلفة تمامًا عن كاثرين.
نظرت ديانا إلى كاليبسو بنظرة غامضة.
هل الدم لا يمكن إنكاره حقًا؟
رغم ذلك، لم تستطع إلا أن تتساءل،
لماذا لم يلاحظ ذلك في حياتها السابقة؟
الشخص نفسه الذي أمرت بقتلها بيديها،
ينظر الآن إلى ابنتها بذلك الحنان.
فجأة شعرت بالضيق. لم تعد ترغب بالبقاء معه أكثر.
خاطبت ديانا آيسيل بلطف عندما أنهت طعامها.
“هل انتهيتِ من الطعام؟ لنذهب، سأريك أرجاء القصر.”
“نعم، أمي. إذن، أبي، أستأذنك.”
“حسنًا، آيسيل.”
ناداها كاليبسو باسمها بشكل مألوف دون أن يشعر.
انحنت له آيسيل قليلًا ثم تبعت ديانا للخارج.
ما إن غادرت آيسيل قاعة الطعام بوجهها البريء،
حتى بدت وكأنها على وشك التقيؤ.
“أوفف.”
“ما بكِ، آيسيل؟ هل تشعرين بمرض ما؟”
“لا. أشعر بالغثيان فحسب.”
ذلك الإنسان الذي قتلني، ينظر إليّ بتلك النظرة…
تمتمت آيسيل بصوت خافت.
وضعت ديانا يدها على كتفها وأومأت بتفهم.
“حسنًا، من أين نبدأ جولتنا؟”
“من غرفة كاثرين.”
رفعت آيسيل زاوية فمها بابتسامة خبيثة.
كانت تنوي إشعال النيران في قلب كاثرين.
وكأن ديانا قرأت أفكارها، أمسكت بيدها وقادتها نحو غرفة كاثرين.
وقفت آيسيل تتلمس مقبض باب غرفة كاثرين بنوع من التأمل.
لا تزال تذكر بوضوح كيف فرت منها ذات يوم.
مرت فترة طويلة منذ أن هربت من هذه الغرفة،
وكانت تخشى أن يكون حقدها قد تلاشى.
لكن ذلك القلق كان بلا داعٍ.
بمجرد أن وقفت أمام الباب، تذكرت بوضوح الأيام التي تعرضت فيها للضرب والإهانة من كاثرين وأليشيا، وكأنها حدثت البارحة.
شدّت آيسيل على شفتيها وكبحت الغضب الذي كان يتصاعد بداخلها.
نظرت إليها ديانا بقلق، ثم طرقت الباب.
“كاثرين.”
“…نعم.”
دخلت ديانا الغرفة ومعها آيسيل.
كانت أليشيا وكاثرين في الداخل،
وكأنهما تعقدان اجتماعًا طارئًا.
ما إن رأت كاثرين ديانا تدخل مع آيسيل حتى ارتجف جسدها.
وعيناها المحمرتان كانت دليلاً واضحًا على أنها انفجرت بالبكاء منذ عودتها إلى غرفتها.
“لِمَ… لماذا أحضرتِ تلك الفتاة إلى هنا؟!”
“تقولين ‘تلك الفتاة’؟ إنها أختكِ يا كاثرين.”
في الحقيقة،
كانت كاثرين هي الأخت الكبرى من حيث الترتيب الزمني.
فديانا قد استبدلت الطفلتين بعد ولادتهما.
أليشيا، التي كانت تعرف الحقيقة، لم تتمالك نفسها وردّت.
“تلك الفتاة الأخت الصغرى لسمو الآنسة؟”
“تلك؟”
ارتفع حاجب ديانا فجأة.
فغطت أليشيا فمها بصدمة.
اقتربت ديانا ببطء من أليشيا وحدقت فيها بحدة.
“أليست هذه المرة الأولى التي تلتقين بها؟
كيف تعرفين إن كانت آيسيل أكبر أم أصغر من كاثرين، أليشيا؟”
“أنا؟ لا، لم أقصد ذلك…”
تلعثمت أليشيا وبدأت تلوح بيديها.
أما آيسيل فقهقهت بسخرية وهي تحدق بها.
ارتعشت أطراف عيني أليشيا من الغضب.
وجهت ديانا نظرة حادة إلى أليشيا وقالت ببرود:
“وحتى لو كنا صديقتين، لا تتجاوزي حدودك، أليشيا.
هذه الفتاة ليست شخصًا يمكنكِ مناداته بـ’تلك’ .”
“…أعتذر، سموكِ.”
اضطرت للانحناء.
فقد ارتكبت خطأً واضحًا.
انحنت أليشيا واعتذرت بنبرة ندم صادق.
ابتسمت ديانا بلطف وهي تنظر إليها، وكأنها تسامحها.
لكن كلماتها التالية كانت صادمة.
“اعتذري.”
“…ماذا؟”
“اعتذري للأميرة الجديدة في هذا القصر، أليشيا.”
عضّت أليشيا على شفتيها بقوة.
لقد عاملت هذه الفتاة كخادمة طوال حياتها.
والآن عليها أن تعتذر لها؟ أمام كاثرين ابنتها؟
شعرت بأن كرامتها تتحطم.
ترددت أليشيا ولم تتحرك، فكررت ديانا بوضوح:
“أليشيا، أنا أمنحك فرصة للتعامل الجيد مع ابنتي.
مثلما تتعاملين مع كاثرين.”
أخيرًا، تحركت أليشيا ببطء ووقفت أمام آيسيل.
تلاقت أعينهما. وما زالت آيسيل تبتسم بتفوق واضح.
وانحنت أليشيا ببطء شديد أمامها.
“…أعتذر…. سمو الأميرة.”
قالتها بصعوبة شديدة، وكأنها لا تستطيع التنفس.
لكن رد آيسيل كان أكثر استفزازًا.
“لا بأس. من لا يتعلم جيدًا، قد يتصرف هكذا.”
“…ماذا؟”
“سمعت أنكِ من منزل بلير؟ إذن من الطبيعي ألا تكوني قد تلقيت تعليمًا مناسبًا. أحوالهم المالية ليست جيدة، أليس كذلك؟”
تساقطت كلمات آيسيل كالعاصفة على أليشيا،
مما جعل فمها ينفتح بدهشة.
لكن آيسيل لم تتوقف.
“سمعت أنكِ طبيبة، لكنك لا تبدين ذكية.
ورغم أنكِ عشتِ في هذا القصر،
فأنا أحمل دم النبلاء من بريتشي.”
أمسكت آيسيل بذراع أليشيا المنتحنية ورفعتها،
ثم ربتت بخفة على خدها.
“لذا، من الأفضل أن تحذري من الآن فصاعدًا.
فليس كل النبلاء في نفس المستوى.”
كان في عيني آيسيل نظرة تقول بوضوح:
“الدونية لم تعد تُلازمني، بل أصبحت ملازمةً لكم.”
كاثرين وأليشيا رأتا في عينيها ابتسامة تخفي خلفها غضبًا عميقًا.
لم يكن أمامهما سوى أن ترتجفا مثل حيوانين صغيرين أمام وحش مفترس.
لقد كانت عودة الأميرة الحقيقية بكل بهائها.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 26"