استمتعوا
“أمر كهذا…”
“من الصعب أن تصدقي، أليس كذلك؟”
حتى هي نفسها لم تستوعب بعد ما حدث، ولم تستطع تقبّله.
العودة بالزمن؟ من ذا الذي يمكنه تصديق أمر كهذا؟
“آيسيل.”
أمسكت ديانا بيدي آيسيل بقوة.
كانت تظن أن دموعها قد جفّت من كثرة البكاء،
لكنها بدأت تذرف من جديد.
“أنا أيضًا، عدت.”
“…نعم؟”
نظرت آيسيل إلى ديانا بوجه مصدوم، لكن ملامحها لم تكن تكذب.
“لا أصدق.”
وبينما كانت آيسيل تحدق دون أن تتمكن من إغلاق فمها،
بدأت ديانا تروي لها كل ما مرت به حتى الآن.
خلال القصة،
عبست آيسيل تارة، وظهرت على وجهها علامات الحزن تارة أخرى.
أنهت ديانا حديثها بابتسامة دافئة وهي تمرر يدها بلطف على شعر آيسيل.
“لابد أن هناك سببًا لعودتنا معًا، آيسيل.”
قبضت آيسيل على قبضتيها بقوة بعد سماعها لقصة ديانا.
“أمي.”
“نعم؟”
“أريد أن أنتقم.”
التقت عينا ديانا بعيني آيسيل،
وقد امتلأت عيناها الصغيرتان بغضب مشتعِل كالنار.
يا لَشدة الألم والحزن الذي عانته،
حتى تحمل تلك العينان الطفوليتان هذا الكم من المشاعر.
لم يكن بوسع ديانا سوى التنهد بأسف.
لكنها تفهمت الأمر جيدًا.
ديانا وآيسيل مرّتا بنفس المعاناة، وعادتا معًا.
أن يُمنع الطفل من التعبير عن غضبه لمجرد صِغره،
لهو أمر قاسٍ للغاية.
“لنقم بذلك.”
“أمي…”
“لكن، يجب أن نكون مستعدّتين أولًا.”
نهضت ديانا من مكانها.
كان السائق بانتظارها في ذلك المكان قبل قليل.
“آيسيل، هل يمكنك إحضار عباءة من فضلك؟”
“نعم، أمي.”
دخلت آيسيل على الفور إلى الميتم وأحضرت عباءة قديمة.
وضعتها ديانا على جسدها وغطت رأسها بالقبعة.
“هيا بنا.”
“…إلى أين؟”
“إلى منزل جدّك.”
أمسكت ديانا بيد آيسيل واتجهتا إلى المكان الذي اتفقت فيه مع السائق. وكان ينتظرهما بعربته.
“سمو الدوقة!”
“أطلتُ عليك؟ آسفة.”
“وهذه الطفلة…؟”
رغم نظرات الاستغراب من السائق، اكتفت ديانا بابتسامة لطيفة.
“اذهب إلى قصر الماركيز بريتشي، من فضلك.”
“إلى… قصر دوق إرينست، أليس كذلك؟”
“علينا التوقف هناك أولًا.”
“حسنًا، سيدتي.”
رفعت ديانا آيسيل إلى العربة وهي تمسك خصرها.
كان جسدها نحيفًا لدرجة أن عظام أضلاعها كانت واضحة.
انقبض قلب ديانا بشدة.
أن طفلة كهذه خاطرت بحياتها لجلب الطعام لها لأسبوع،
أمر لا يُحتمل.
“آيسيل.”
“نعم؟”
بدت آيسيل مستمتعة بركوب العربة لأول مرة،
وكانت تتحرك فوق الوسادة بتردد.
لطالما جلست على أرض باردة أو على كراسٍ خشبية قاسية.
كانت هذه النعومة جديدة عليها تمامًا.
“أول ما سنفعله هو تغذيتك.”
قالت ديانا بحزن وهي تحبس دموعها.
نظرت آيسيل إلى ذراعيها وساقيها النحيفتين.
كانت تبدو مزرية.
وفجأة، اجتاحها القلق.
ماذا لو لم يعترف بها جدّها كحفيدة له بسبب مظهرها؟
انحنت أكتافها الهزيلة.
لكن ديانا، وكأنها قرأت أفكارها، ابتسمت بلطف.
“لا تقلقي.”
“…ماذا لو لم يعترف بي جدي؟”
“لن يحدث ذلك.”
“لماذا؟”
نظرت آيسيل بعينيها الواسعتين إلى والدتها،
التي ابتسمت وهي تستحضر صورة والدها.
“رغم أنه دقيق بعض الشيء…”
“ولكن؟”
“ستفهمين عندما تلتقينه.”
وبينما واصلتا الحديث الذي لم تسنح لهما الفرصة من قبل،
وصلت العربة إلى منزل ماركيز بريتشي بعد اجتياز نفق المانا.
“أمسكي بيدي.”
أمسكت ديانا بيد آيسيل كأنها جوهرة نادرة وساعدتها على النزول من العربة. اتسعت عينا آيسيل دهشة.
كانت قد سمعت من قبل عن قصر بريتشي أثناء وجودها في الميتم، لكن رؤيته كانت شيئًا آخر.
كان القصر مزينًا بالكامل بالرخام والذهب.
وكانت المباني الفخمة داخل القصر تبدو وكأنها تقول
“لا تجرؤ على الشك في ثروتنا.”
“واو…”
“مذهل، أليس كذلك؟”
“أجمل بكثير من قصر الدوق.”
دخلت ديانا وآيسيل القصر ويداهما متشابكتان.
فاجأ ظهورهما الخدم الذين سارعوا إليهما.
“سيدتي!”
“كيف حالك، ليزا؟”
“في هذا الوقت المتأخر من الليل؟ ما الأمر؟”
كانت ليزا خادمة ديانا أثناء إقامتها في القصر.
والآن أصبحت رئيسة الخدم.
لم يكن أحد في القصر يعلم أن ديانا فقدت بصرها.
فلو علم والدها بذلك، لطاردها فورًا. لذا، وبغباء، أخفت الأمر.
كان يجب عليها أن تطلب مساعدته بأي وسيلة.
على أي حال، كان ذلك من الماضي الآن.
تنهدت ديانا وقالت:
“أين أبي؟”
“أوه، لم يخلد للنوم بعد. تفضلي من هذا الطريق.”
وجهت ليزا نظرها إلى آيسيل التي كانت ترتدي عباءة وتخفي وجهها.
“ومن هذه الطفلة…؟”
“سأشرح الأمر لوالدي أولًا، ثم أخبرك لاحقًا، ليزا.”
سارتا خلف ليزا حتى وصلا إلى غرفة الماركيز.
شعرت آيسيل بالتوتر وابتلعت ريقها بصوت مسموع.
“سمو الماركيز! الآنسة ديانا قد وصلت!”
“ماذا؟”
“أبي.”
وبمجرد أن أنهت ليزا حديثها، فتح الماركيز الباب بعنف.
كان يمتلك نفس لون الشعر والعينين مثل ديانا،
لكن تقاسيم وجهه كانت مشدودة بشدة.
“ما الذي أتى بكِ في هذا الوقت…؟”
توجهت نظرات المركيز الحادة نحو آيسيل،
التي كانت تمسك بيد ديانا.
“ومن هذه الطفلة؟”
“سأشرح لك كل شيء بالداخل.”
مرت ديانا بجانب الماركيز وجلست على الأريكة الموضوعة وسط الغرفة. تبعتها آيسيل وجلسَت بجانبها بهدوء.
كانت الأريكة أكثر راحة بكثير من مقعد العربة.
رغبت آيسيل في أن تتمايل قليلاً بدلال،
لكن رهبة الماركيز الكبيرة جعلتها تضبط نفسها وتضم يديها بهدوء.
“أبي.”
“لحظة فقط.”
نظر الماركيز إلى آيسيل بتمعّن، مقلصًا عينيه.
رغم أن آيسيل كانت فتاة شجاعة بالنسبة لأقرانها،
إلا أن مواجهة ماركيز من طبقة النبلاء العظمى لم يكن أمرًا سهلاً.
حدق الماركيز بها لفترة،
ثم نادى على ليزا بصوت عالٍ أشبه بالأوامر العسكرية.
“ليزا!”
“نعم، سيدي.”
“أحضري قليلاً من الحليب الدافئ، مع العسل أيضاً.”
مال رأس آيسيل قليلاً إلى الجانب.
الحليب الدافئ بالعسل؟
كان مزيجاً لا يليق إطلاقاً بمظهره الصارم.
سرعان ما عادت ليزا بصينية تحتوي على إبريق شاي به الحليب الدافئ والعسل وكوب.
سكب الماركيز الحليب بنفسه في الكوب.
كان الحليب يتصاعد منه البخار،
مما جعله يبدو دافئاً حتى من النظرة الأولى.
في تلك اللحظة، تلاقت نظرات آيسيل والماركيز.
“لا تحدقي بي هكذا، لم أجهزه لك.”
قالها ببرود، ثم أضاف كمية كبيرة من العسل في الكوب.
وبعدها حدق في الحليب طويلاً.
“آه، من المؤكد أني وضعت كمية زائدة من العسل.”
ودفع بالكوب نحو آيسيل.
“خُذيه، اشربيه أنتِ.”
رمشت آيسيل بدهشة، غير مستوعبة ما يجري.
ابتسمت ديانا وكأنها كانت تتوقع ما حدث،
وأومأت برأسها إشارة إلى أنه لا بأس أن تشربه.
تمتمت آيسيل بصوت خافت:
“…شكراً لك.”
“همف. لا داعي للشكر.”
ورغم نبرته الباردة، إلا أن عينيه كانت تنظران إلى آيسيل وهي تحتسي الحليب برضاً وحنان.
ثم التقت نظراته بنظرات ديانا، فتنحنح وشدّ ملامحه.
ابتسمت ديانا بخفة وبدأت بالكلام.
“لدي أمر جدي أود التحدث فيه.”
“حسناً، تحدثي.”
“هذه الطفلة، إنها ابنتي، أبي.”
“…ماذا؟”
ازدادت ملامح الماركيز صرامة.
إن لم يكن لكاثرين توأماً، فمن أين لدیانا بإبنة؟!
لم يستطع الماركيز تصديق ما سمعه، فسأل فوراً:
“ما الذي تعنينه بهذا الكلام؟!”
“كاثرين، لم تكن ابنتي.”
وبهدوء، شرحت ديانا للمركيز الصدمة التي تعرضت لها:
كاليبسو وأليشيا كانا على علاقة، وبسبب مكيدة أليشيا،
تم استبدال كاثرين بـآيسيل.
“إذن… هذه الطفلة؟”
“…نعم، إنها حفيدتك الحقيقية، أبي.”
“يا إلهي…!”
تنهد ماركيز بريتشي وهو يتفحص مظهر آيسيل مرة أخرى.
هزيلة، ترتدي ملابس بالية،
وتراقب الجو المحيط بها بحذر… كل شيء فيها كان مثيراً للشفقة.
لطالما أحب الماركيز الأطفال.
ولهذا دعم دار الأيتام الخاص بديانا طوال الوقت دون أن يطلب شيئًا.
ولو أن ديانا أخبرته أن آيسيل مجرد طفلة التقطتها من الشارع،
لكان أطعمها وألبسها واهتم بها، ثم أعادها لدار الأيتام.
لكن أن تكون هذه الطفلة البائسة حفيدته الحقيقية؟!
بدأت أطراف أنفه تحمرّ تدريجيًا.
لكنه كتم حزنه وسأل بصوت خافت:
“…ما اسمك؟”
“…آيسيل، سيدي.”
“كيف قضيتِ كل هذا الوقت؟…”
صعب عليه أن يكمل كلامه.
“كنت أعيش في غرفة كاثرين… كخادمة…”
وعندما سمع ذلك، انتقل نظره إلى يديها.
كانت يدا حفيدته مليئتين بالجروح،
على عكس أيدي الخادمات المعتادات.
كان واضحاً أن أليشيا وكاثرين قد تنمّرتا عليها.
ضرب الماركيز الطاولة بقبضتيه بكل قوته.
كان الغضب يشتعل في صدره تجاه هذين الوغدين اللذين تجرّآ على نكران الجميل، حتى إنه تمنى لو يتمكن من تمزيقهما شرّ ممزق في هذه اللحظة بالذات.
“سأذهب إليهما فورًا، وسـ…!”
“لا تغضب، أبي.”
“كيف يمكنكِ البقاء بهذا الهدوء؟!”
“…أنا فقط، أنتظر اللحظة المناسبة.”
هدأت ديانا والدها بهدوء، وعيناها تومضان بنظرة حادة.
استطاع الماركيز أن يقرأ المشاعر الكامنة خلف تلك النظرة.
ابنته لم تكن بخير على الإطلاق، كما ادّعت.
إنها فقط تكتم الألم، بانتظار الانتقام الكبير.
صمت الماركيز وعيناه مليئتان بالحزن،
ثم بدأت ديانا بشرح خطتها القادمة.
وبعد أن سمع خطتها، اتسعت عينا الماركيز وآيسيل بدهشة.
“حقاً، هل تنوين فعل هذا؟”
“نعم. أرجوك ساعدني، أبي.”
مسح الماركيز لحيته ببطء.
لم يكن مرتاحًا لفكرة إرسال ابنته وحفيدته الثمينتين إلى قصر الدوق مجددًا.
لكن، إن كانت قلوبهم تحترق أكثر من قلبه، فلا خيار أمامه.
ثم هزّ رأسه بوجه حازم.
“سأساعدك، في أي شيء.”
ابتسمت ديانا بلطف وهي تنظر إليه.
بما أنها أعلنت عن استعادتها لبصرها،
فقد حان الوقت لبدء الفصل الثاني، لطرد نفايات قصر الدوق.
***
مر أسبوعان منذ أن زارت ديانا قصر ماركيز بريتشي.
وخلال ذلك الوقت، كانت تتناول طعامها في غرفتها فقط.
لكن الآن، قررت التوجه إلى غرفة الطعام.
وكما توقعت، كان كاليبسو وكاثرين وأليشيا المتغطرسة
-التي لا ينبغي لها التواجد هنا- جالسين معاً.
تفاجأ الجميع بدخول ديانا فجأة، وحدقوا بها بدهشة.
“يا له من أمر نادر أن تأتي إلى قاعة الطعام.”
“بما أن هناك مقعدًا فارغًا، فقد دعوت الطبيبة أيضًا، أمي.”
وبدأوا بتبرير وجود أليشيا بعبارات طبيعية رغم اضطرابهم.
“أهكذا؟ أحسنتِ.”
اقتربت ديانا بخطوات خفيفة إلى جانب أليشيا.
“لكن بما أنني هنا الآن،
ألا يجب عليك أن تتنحي جانباً، أليشيا؟ هذا مقعد الدوقة.”
“آسفة، سموّك.”
تجهمت قليلاً لكنها رسمت ابتسامة مزيفة وانتقلت للمقعد المجاور.
جلست ديانا ونظرت بهدوء إلى الحاضرين المتعرقين من التوتر.
“لدي شيء أود قوله أمام الجميع.”
“شيء تودين قوله؟”
“نعم.”
شعروا بشيء مريب، وانتظروا ما ستقوله.
“أفكر في تبنّي طفلة.”
اهتز سكين كاثرين، وكاد كاليبسو يختنق بالماء،
وحدقت أليشيا بفم مفتوح غير مصدقة.
“ما معنى هذا، عزيزتي؟”
“أمي، وأنا هنا، لماذا تتبنين؟!”
صرخت كاثرين.
رغم أنها تعلم أن ديانا ليست والدتها،
إلا أنها لم تكن تحتمل فكرة مشاركة الحب مع أخرى.
“تلقيت خبرا من والدي.”
“…والدك؟”
ارتجف حاجبا كاليبسو عند سماع اسم الماركيز.
“يبدو أنهم وجدوا طفلة من دم بريتشي في دار أيتام.
لا نعلم التفاصيل، لكن لا يوجد أحد لرعايتها.”
تجمد وجه كاثرين وأليشيا عند سماع كلمة ‘دار الأيتام’ .
“إذن، فلنقدّم لها بعض الدعم فقط…”
أدخلت ديانا قطعة من السلطة في فمها وأكملت:
“أشعر بالأسى تجاهها.
لا أريد فقط دعمها، بل تربيتها كأخت لكاثرين.”
“لست بحاجة إلى أخت!”
احمرّ وجه كاثرين وانفجرت غضبًا،
لكنها وضعت أدوات الطعام جانبًا وصرخت.
لكن ديانا كانت حازمة.
“بل أنتِ بحاجة إليها.
كاثرين، يجب أن تنضجي. وجود أخت سيساعدك.”
“سمو الدوقة، هناك وفد من منزل الماركيز بريتشي…”
في تلك اللحظة، دخل شين مع طفلة.
لم يكن وجهها واضحًا لأنها كانت تقف خلفه.
“آه، يبدو أنها وصلت.”
تجهمت كاثرين ونظرت لترى من تكون.
سارت الطفلة بخطوات هادئة وأنيقة.
وعندما ظهرت ملامح وجهها، شحب وجها أليشيا وكاثرين.
رغم أنها أصبحت أكثر صحة وارتدت فستانًا فخمًا ومجوهرات، تعرفتا عليها على الفور.
تلك الطفلة كانت…
“مرحبًا بك، آيسيل.”
كانت آيسيل.
نظرت آيسيل بهدوء إلى الحاضرين،
الذين توقفوا عن التنفس من شدة الصدمة،
وابتسمت بخفة من طرف شفتيها.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 23"