استمتعوا
بعد ذلك بأيام قليلة،
كانت آيسيل تنتظر فقط أن تغرق كاثرين في نومٍ عميق.
لم تكن تملك ساعة لقياس الوقت، لكن حين توقفت خيوط الضوء عن التسلل بين رفوف المكتبة، أطلقت آيسيل قواها السحرية.
لكن تلك الطاقة، التي لم تُصقل بعد،
لم تكن تخرج بسهولة وفق إرادتها.
يبدو أن نجاحها السابق كان مجرد ضربة حظ.
قواها لم تكن بعد مألوفة لجسدها،
وكانت لا تزال في حالة غير مستقرة.
رغم أنها واظبت على التدريب طوال فترة حبسها في الغرفة،
إلا أن محاولات إطلاق السحر لم تنجح دائمًا.
عضّت على شفتها وراحت تطوي كفها وتبسطه.
“أرجوكِ…”
ولحسن الحظ، نجحت هذه المرة.
أضواء زرقاء راحت تتراقص حولها كأنها يراعات صغيرة.
تسرّبت تلك الأضواء من بين رفوف المكتبة،
لتبدأ بالدوران بخفة حول القفل.
وفي لحظة، تجمّد القفل بالكامل،
ثم صدر صوت طقطقة معدنية خافتة إيذانًا بانفتاحه.
بهدوء، فتحت آيسيل باب المكتبة.
الليل كان حالك السواد، حتى القمر لم يكن في السماء.
نظرت من خلال الفتحة الصغيرة نحو سرير كاثرين.
كانت نائمة، غافية تمامًا عن العالم،
شفتيها الرطبتان تتحركان كأنها تحلم حلمًا جميلًا.
ذلك المكان… كان من المفترض أن يكون مكاني.
خرجت آيسيل من خلف رفوف الكتب،
وتقدّمت لتقف أمام كاثرين النائمة.
حين نظرت إلى وجهها الساكن، وهي تنعم بنومٍ هادئ بعد كل ما فعلته بها، تصاعد الغضب في صدرها كالنار.
أغلقت آيسيل قبضتيها بقوة،
ثم أغمضت عينيها بإحكام، وغادرت الغرفة بصمت.
صحيح أنها استطاعت إطلاق طاقتها،
لكنها لم تكن تعرف بعد كيف تستخدم السحر للهجوم على أحد.
كانت بلا قوة، غير قادرة على القتال.
وكل ما أنجزته، هو الخروج من الغرفة خلف رفوف الكتب.
لم يكن بوسعها أن تتصرف بتهور.
تسلّلت خارج القصر، مقوّسة جسدها الصغير.
لم تكن تدري أن ضعف نموّها بسبب الجوع سيكون مفيدًا في لحظة كهذه.
ضحكة ساخرة خرجت من شفتيها وهي تسخر من حالها البائس.
ثم تسللت آيسيل إلى الغابة، تتذكّر كلمات أليشيا.
كانت قد قالت بوضوح إن والدتها الدوقة ستحبس في كوخٍ يقع في زاوية قصر الدوق.
أسرعت آيسيل بخطواتها الهزيلة نحو الكوخ.
ولأن ديانا، التي لا تستطيع الرؤية، لم تكن لتفكر بالهرب،
لم يكن هناك حارس عند باب الكوخ.
لم يكن هناك سوى قفل كبير،
يشبه تمامًا ذاك الذي استُخدم لحبسها.
اقتربت آيسيل ولمست القفل، وحاولت مجددًا إطلاق سحرها.
لكن هذه المرة لم يُفلح الأمر.
“اللعنة.”
أحبطها عجزها عن إنقاذ والدتها المحبوسة داخل الكوخ.
راحت تدور حول الكوخ،
إلى أن لمحت نافذة صغيرة يمكن من خلالها رؤية الداخل.
وقفت على أطراف قدميها وتمسّكت بحافة النافذة.
كان الظلام دامسًا، فلم تستطع أن ترى شيئًا.
ثم، وببطء، انزاحت الغيوم عن وجه القمر،
فسلّط نورًا خافتًا على المشهد الداخلي للكوخ.
وانعكس الضوء على جسدٍ متهالك ملقى داخل الكوخ… كانت تلك أمّها، ديانا.
كانت هذه المرة الأولى التي تراها فيها.
شعرها الذهبي البهي لم يعد يلمع، لكنه كان مألوفًا،
وعيناها تشبهان عيني آيسيل، زمرديتان تمامًا.
انسابت الدموع من عيني آيسيل.
كانت والدتها تبدو كمن يلفظ أنفاسه الأخيرة، بلا أدنى قوة.
كان واضحًا ما فعله أولئك القساة بها.
لم يكن بوسعها ترك الأمور على حالها.
إن تُركت على هذا النحو، ستموت جوعًا.
عادت آيسيل مسرعة إلى الغرفة خلف رفوف الكتب.
وأخرجت من السلة قطعة الخبز الجاف المخصصة لها لأسبوعٍ كامل.
ثم انطلقت من جديد إلى الكوخ.
لم تعتد التحرك بهذا الشكل منذ زمن،
فبدأ العرق يتصبّب من شعرها.
وضعت الخبز الملفوف في ورقة على الأرض،
وبدأت تحاول فتح القفل بكل ما أوتيت من طاقة.
ولحسن الحظ، تدفّق المانا من جسدها هذه المرة.
“نجحت!”
نزعت القفل بحذر، ودخلت إلى الكوخ بخطوات خفيفة.
وكانت أمّها، التي لطالما اشتاقت لرؤيتها، ممدّدة أمامها.
بالكاد كانت تتنفس.
رغم أنها لم تُصدر صوتًا،
إلا أن ديانا أحسّت بوجود شخصٍ ما، ورفعت رأسها المنهك قليلًا.
ثم فتحت شفتيها المتشقّقتين بصعوبة.
“…من هناك؟”
عند رؤية والدتها في تلك الحال،
اختنق صدر آيسيل من الحزن، ولم تستطع أن تنطق بكلمة.
كل ما فعلته، هو أنها أسقطت قطعة الخبز من يدها.
ثم انطلقت تركض عائدة نحو القصر.
والدموع لا تتوقف عن الانهمار من عينيها.
كانت تشعر بكراهيةٍ عميقة لأولئك الذين صنعوا هذه المأساة.
لكن، حتى لو لم تتعرّف والدتها عليها،
لا يمكنها أن تتركها تموت هكذا.
ركضت طويلًا، ثم توقفت تلتقط أنفاسها، ونظرت نحو الكوخ.
عيناها، وقد امتلأتا بالرجاء،
كانت تشبهان بحيرة ساكنة تلامسها نسمة خفيفة فتبعثرها بلطف.
فقط انتظري قليلاً… فقط حتى أستطيع السيطرة على السحر الذي يسري في جسدي.
رجاءً، يا أمي، اصمدي حتى ذلك الحين. فقط حتى ذلك الحين.
ثم عادت آيسيل إلى القصر، تهمس بتلك الدعوات من قلبها.
***
بعد أيامٍ من تناول الحليب فقط، كان جسدها أضعف من المعتاد.
لكنها كانت على الأقل قادرة على شرب الحليب،
حتى لو كان فاسدًا.
أما والدتها، المحبوسة في الكوخ، فستموت جوعًا إن لم تساعدها.
أمسكت بقطعة الخبز التي خُصّصت لها هذا الأسبوع.
وكانت تخطط للتسلل من جديد، كما فعلت في الأيام السابقة.
بعد تدريبات يومية، بات فتح القفل أمرًا سهلًا عليها.
كل ليلة، بعد نوم كاثرين، كانت تذهب سرًا إلى الكوخ.
وتكتفي بالنظر إلى والدتها الملقاة على الأرض وكأنها مريضة تحتضر، ثم تعود إلى الغرفة. كانت تلك طقوسها اليومية.
لكنها لم تُجرِ حديثًا واحدًا مع والدتها.
لم تكن تعرف ماذا تقول، وكانت تخجل من نفسها لأنها تقف أمام أمها التي تتألم، عاجزة عن إنقاذها.
في ذلك اليوم، دخلت آيسيل الكوخ وأسقطت الخبز الجاف كما تفعل كل مرة.
“كاثرين… هل أنتِ كاثرين؟”
نادت ديانا بصوتٍ مرتجف.
وعند سماع آيسيل لاسم ‘كاثرين’، ارتجف بصرها واهتز قلبها.
أمٌّ غبية… كاثرين ليست ابنتكِ، أنا، أنا الحقيقة.
كان حلقها مشدودًا فلم تستطع أن تنطق بكلمة.
راحت آيسيل تردد في داخلها كلماتٍ لا تستطيع إخراجها،
ثم استدارت بخفة وعلى وجهها تعبير حزين، وغادرت الكوخ.
وفيما كانت تمسح الدموع التي تجمعت في عينيها، وتجرّ قدميها المثقلتين، كاد أن يصل بها المسير إلى مدخل القصر.
وعند تلك اللحظة، خُيِّل ظلٌّ ضخم أمامها.
“……حشرة مقززة كهذه.”
رفعت آيسيل رأسها بسرعة.
كان أمامها أليشيا وكاثرين، ومعهما… بالتأكيد دوق كاليبسو، والدها، وبعض الفرسان.
“هاه…….”
تراجعت آيسيل خطوتين إلى الوراء من دون قصد،
لكنها وجدت فرسان الدوق قد أحاطوا بها من الخلف.
كانت كاثرين وأليشيا تنظران إليها بصدمة لم تستطيعا إخفاءها.
“أبي، هذه الوضيعة تجرأت على الاقتراب من الكوخ،
مع أن الأمر كان واضحًا!”
أشارت كاثرين إلى آيسيل بكراهيّة، ونفثت كلماتها وكأنها سُمّ.
كاليبسو رمق آيسيل بنظرة بطيئة.
منذ البداية، لم يكن يهتم بخادمات القصر،
فلم يكن يدري إن كانت هذه الطفلة تعمل في القصر أم لا.
وما جمع الفرسان إلا لأن كاثرين وأليشيا أحدثتا ضجة بشأن اختفاء إحدى الخادمات.
ولكن، على أية حال، خرق الأوامر يظل خرقًا للأوامر.
حتى وإن كانت طفلة صغيرة، فإن فضح أمر احتجاز ديانا داخل القصر الدوقي للعالم الخارجي سيكون كارثة.
ديانا، في القصة التي فبركوها، يجب أن تموت فجأة بسبب المرض.
تلاقت أعين كاليبسو وآيسيل. لم يكن لديه أدنى فكرة أن الدم الذي يجري في هذه الطفلة البائسة أمامه هو دمه.
وعندما همّت آيسيل بالكلام،
سبقتها نظرات الحقد في أعين كاثرين وأليشيا.
“كيف هربتِ، بحق الجحيم؟”
“أعطيناكِ طعامًا وسريرًا، وها أنتِ تردين المعروف بهذا الشكل؟”
معروف؟ ارتسمت ابتسامة ساخرة على زاوية فم آيسيل،
إذ لم تستطع تصديق ما قالته أليشيا.
“تضحكين عليّ؟”
اقتربت كاثرين من آيسيل، ورفعت يدها وكأنها ستصفعها.
لكن في تلك اللحظة، ومضت عينا آيسيل.
تدفّق ضوء أزرق بسرعة من جسدها.
وجمّدت مانا آيسيل يد كاثرين على الفور.
“آاااه!”
“كاثرين! لااا!”
صرخت أليشيا واندفعت نحو كاثرين تتفقد يدها،
التي تجمدت كأنها تمثال من الجليد.
وفي خضم هذا الارتباك، اندفعت آيسيل نحو كاليبسو.
كانت تنوي أن تقول له: أنا أيضًا… أنا ابنتك.
لكن، قبل أن تتفوه بكلمة،
انقلبت نظرات كاليبسو عندما رأى يد كاثرين المجمدة.
قطب حاجبيه ورفع يده بهدوء.
عندها، سحب الفرسان المحيطون بآيسيل أقواسهم من خلف ظهورهم.
“أطلقوا.”
وبأمر منخفض من كاليبسو، انهالت السهام كالمطر.
وغرست مباشرة في جسد آيسيل الصغير.
في لحظات، انغرست عشرات السهام، فتوقف جسدها الضعيف عن التقدم وسعلت دمًا، قبل أن تترنح في مكانها.
وعلى الجانب الآخر، بدأت ابتسامة بطيئة ترتسم على وجهي كاثرين وأليشيا.
كل شيء بدا وكأنه يتحرك ببطء.
لا بد أنني، أموت الآن…
أبي…
امتدت نظرة آيسيل المتلاشية نحو كاليبسو.
لم تستطع أن تناديه قط.
حتى وإن كان هو من جعلها وأمها في هذا الحال،
أرادت فقط مرة واحدة أن تخبره.
أنا أيضًا ابنتك.
لو قلتها، هل كان سيتغير شيء؟
“آه، أ…بـ….”
وقبل أن تنطق بكلمة واحدة، ارتجف جفنها المثقل بدموع غزيرة،
ثم أغمضت عينيها تمامًا.
ظن الجميع أنها ماتت.
لكنها فتحت عينيها فجأة.
رمشت آيسيل بسرعة.
كانت متأكدة أنها ماتت، أن السهام اخترقتها.
لكن هذا المكان… كان غرفة الكتب التي كانت تقيم بها.
“ما هذا…؟”
هل لم تمت؟ تحسست آيسيل جسدها،
فلم تجد أثرًا واحدًا لأي إصابة.
في تلك اللحظة، سمعت صوت كاثرين يناديها من الخارج.
“آيسيل!”
بخفقان قلب شديد، دفعت آيسيل رف الكتب وخرجت.
رأت كاثرين وقد تعمدت كسر كأس زجاج.
كان الموقف مشابهًا تمامًا لما حدث في الماضي.
اليوم الذي عادت فيه كاثرين من غرفة الدوقة وكانت غاضبة بلا سبب.
“نظفيه.”
حتى الكلمات التي خرجت من فمها كانت متطابقة.
قررت آيسيل أن تبدأ بجمع شظايا الزجاج.
وكما في المرة السابقة، دفعت كاثرين قطع الزجاج بقدمها.
فانجرحت يد آيسيل وسال الدم.
حتى شكل الجرح كان كما تتذكره تمامًا.
نظرت إلى كاثرين التي كانت تبتسم بسخرية.
“ما هذا؟ هذه النظرة… هل لديكِ اعتراض؟”
“لا، سمو الأميرة.”
كان كل شيء كما كان سابقًا.
فأجابت آيسيل بفتور أكثر.
“انتهيتُ من التنظيف.”
“حقًا؟ إذًا عودي لغرفتك. لا تخرجي حتى أناديك.”
“نعم… سمو الأميرة.”
زحفت آيسيل عائدة إلى غرفتها داخل الرف.
ثم نظرت إلى كاثرين الواقفة في الخارج.
ما زالت لا تفهم ما يحدث تمامًا.
لكن، مهما كان هذا، فهو فرصة.
فرصة لإعادة كل شيء إلى الوراء.
هذه المرة، ستحمي والدتها ولن تتعرض لما حصل في السابق.
أليشيا وكاثرين اللتان جعلتاها هكذا، وأيضًا…
والدها الأحمق الذي قتل ابنته بيده في النهاية.
سترد لهم كل شيء، لا، ستجعله أضعافًا مضاعفة.
قبضت آيسيل على قبضتها بقوة.
عيناها، اللتان تشبهان عيني ديانا، كانتا تتقدان بنار الانتقام.
دون أن تدري أن والدتها، هي الأخرى، قد عادت بالزمن.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 22"