استمتعوا
ارتعشت عينا الطفلة التي التقت نظراتها مع ديانا.
وفي عيني ديانا، امتلأت الدموع على الفور.
كانت قد أقسمت أنه إن سنحت لها الفرصة مجددًا،
فستتعرف عليها قبل أي أحد.
معصم نحيف وجاف وخشن تمسّكه بيدها… كان هذا الإحساس مألوفًا لديانا.
تذكرت على الفور جسد الطفلة الذي أصبح باردًا كالجليد.
كانت تتذكره جيدًا.
كيف لها أن تنسى؟ هذا الإحساس.
ذلك الأسى حين لمست جثة طفلتها الميتة.
شعر بلاتيني باهت، ونظرات زمردية تشبه نظراتها تمامًا،
خليط من ملامحها وملامح كاليبسو.
كانت متأكدة أن هذه الطفلة هي ابنتها.
شعرت بذلك كما لو أنه قدر.
لكنها لم تكن تعرف من أين تبدأ حديثها.
الطفلة بالتأكيد لا تعرف أن ديانا هي والدتها.
كانت يد ديانا المرتجفة لا تزال ممسكة بها،
ودموعها تنهمر بلا توقف.
وفجأة، بدأت الدموع تنزل من عيني الطفلة أيضًا وهي تحدّق بها.
ثم، فتحت الطفلة شفتيها الجافتين ببطء،
وقد تشققت من سوء التغذية.
“أمي…”
اجتاح القشعريرة جسد ديانا بأكمله.
وبمجرد أن سمعت تلك الكلمة من فم الطفلة،
احتضنت جسدها النحيف بقوة.
“آه، صغيرتي!”
لم تكن تعرف أي شيء عن ابنتها، ولا حتى اسمها،
لذلك لم تستطع أن تناديها باسمها.
لكن مجرد أن تتمكن من احتضانها، كان ذلك كافيًا الآن.
وبينما كانت تحبس شهقاتها بصعوبة،
مررت ديانا يدها برقة على شعرها الباهت.
ثم سألت عن الاسم الذي لطالما رغبت في معرفته.
“ما اسمكِ…”
“…آيسيل.”
“آيسيل… يا له من اسم جميل، جميل جدًا.”
وقبل أن تسألها ديانا أي شيء،
أجابت آيسيل بصوت مبلل بالدموع.
ثم أحاطت كتفي ديانا المرتجفتين بيديها الصغيرتين.
وانهمرت دموع آيسيل أيضًا، كأن كل الحزن والحنين الذي كانت تحمله طوال تلك السنين انفجر دفعة واحدة.
“أنا آسفة، آسفة… آسفة لأني لم أتعرف عليكِ… آيسيل… آيسيل…”
استمرت ديانا في الاعتذار قرب أذن آيسيل،
وانهارت بالبكاء إلى جوارها لفترة طويلة.
***
بعد أن بكيتا طويلاً، استعادت ديانا وعيها.
كيف عرفت آيسيل أنها والدتها؟
جلست ديانا وآيسيل معًا على أرجوحة قديمة في زاوية فناء الحضانة.
حلّ الظلام، وامتلأت السماء بالنجوم.
وصوت صرصور الليل منح المكان طمأنينة غريبة.
ساد الصمت بينهما لوقت طويل.
فقد كانت أم وابنتها مفترقتين منذ خمس عشرة سنة.
وكان من الصعب عليهما معرفة ما يجب قوله.
لكن أيديهما كانت متشابكة بقوة، وكأنهما تعدان ألا تفترقا مجددًا.
وبعد صمت طويل، فتحت ديانا شفتيها أولاً.
“…آيسيل.”
“…نعم.”
“…متى عرفتِ أنني والدتكِ، يا صغيرتي؟”
استدارت آيسيل لتنظر مباشرة إلى ديانا.
وكانت عيناها تتلألأ كنجوم السماء المتساقطة.
وبعد تردد طويل، تنهدت آيسيل بخفة وقالت:
“لست متأكدة إن كنتِ ستصدقينني.”
“…هم؟”
“لا أعلم إن كان حلمًا أم واقعًا… لكنه ما يزال واضحًا في ذهني.”
“ماذا تقصدين؟”
“أعني المستقبل الذي عشته.”
تلاقت عينا ديانا مع عيني آيسيل مباشرة.
وفُتحت شفتاها من الصدمة.
تلك الكلمات تعني أن آيسيل هي الأخرى قد عادت بالزمن.
ظنت ديانا أنها وحدها من عادت!
وانعكس ذلك في نظراتها التي امتلأت بالذهول.
لكن يبدو أن آيسيل فهمت تلك النظرة بمعنى مختلف.
فأخفضت رأسها بحزن وقالت:
“من الطبيعي أنك لن تصدقي ذلك.”
“لا، آيسيل.”
قالت ديانا وهي تنظر إليها بابتسامة دافئة ملأى بالحب:
“مهما قلتِ، سأصدقكِ.”
“أمي…”
نطقت آيسيل بكلمة ‘أمي’، لكن بدا عليها التردد،
وكأنها لم تعتد قولها.
رغم أنها نطقتها كثيرًا في داخلها،
لكن حين جاء الوقت الفعلي لقولها، خرجت بصعوبة.
لكن حتى بهذه الطريقة المترددة،
بدا على وجه ديانا تأثر كبير كما لو أنها شهدت معجزة.
أمسكت بيد آيسيل الهزيلة، وكأنها كنز ثمين، ثم سألتها برفق:
“إذًا، هل تخبرينني؟”
“عن ماذا؟”
“عما عشتهِ في المستقبل.”
وفور سماع السؤال، خفت بريق عيني آيسيل.
وكان في تعابير وجهها ما يكشف عن معاناة شديدة.
ثم بدأت آيسيل تروي ببطء.
***
“آيسيل! آيسيل!”
“…نعم، سمو الأميرة.”
“ألم أخبرك أن تنظّفي الغرفة؟ لماذا تركتها بهذا الشكل؟”
انقضّت كاثرين على آيسيل على الفور وصفعتها على وجهها.
كانت آيسيل قد أمضت أيامًا بلا طعام،
فلم تستطع المقاومة وسقطت أرضًا.
أخذت يداها وقدماها ترتعشان كما لو أنها تعاني نوبة.
لكن حتى مع سقوط فتاة في مثل سنها أرضًا،
لم يهدأ الغضب في عيني كاثرين.
بل على العكس، فتحت عينيها على اتساعهما وهي تصرخ:
“توقفي عن التظاهر بالضعف. هيا، انهضي الآن!”
قالت آيسيل إنها تُركت في ميتم صغيرة فقيرة لا تتلقى أي دعم.
وقالت اليشيا إن القصر أفضل من الميتم الذي لا يوجد فيها سوى قشور الخبز، وطالبتها بشكرها على نقلها إلى هناك.
لكنها لم تكن كذلك.
لا تزال آيسيل تتذكر اليوم الأول الذي دخلت فيه القصر.
كانت تأمل أن تكون الحياة فيه أفضل من الحضانة،
فدخلت بقلب متفائل.
لكن عيني النبيلة كاثرين اللتين نظرتا إليها كانت مليئتين بالكراهية وكأنها عدو. عيناها البنفسجيتان الحاقدتان أرعبتها.
وشعرت بإحساس سيئ في داخلها.
لكنها لم تكن تملك خيارًا آخر.
فهي مجرد يتيمة عامية.
لكن لماذا دومًا تتحقق أسوأ التوقعات؟
لأسباب مجهولة، كانت كاثرين تكسر الأشياء عمدًا أو تعبث بها،
ثم تتهمها وتصفعها أو تدفعها بعنف.
لم يكن هناك مكان لا يؤلم في جسدها.
قضت سنوات عدة محبوسة كخادمة في غرفة كاثرين.
وبين خبز جاف وحليب متعفن،
لم يكن هناك أمل بأن تنمو آيسيل بشكل طبيعي.
أصبح شعرها الباهت هشًا كالقش،
وبشرتها خشنة كجذع شجرة جافة، وجسدها نحيل وضعيف.
رغم أنها كانت في نفس سن كاثرين، إلا أنها كانت أقصر بكثير.
وكان وجهها هزيلًا بلا ملامح.
وكانت قد اعتادت على قضم أظافرها كلما تعرضت للضرب،
حتى أصبحت أطراف أصابعها تالفة بالكامل.
عندما فقدت دوقة القصر بصرها،
اشتدَّت مضايقات كاثرين أكثر فأكثر.
تُراها كانت تتلقى ضغوطًا بسبب عيني والدتها؟
رفعت آيسيل رأسها قليلًا ونظرت إلى كاثرين التي كانت لا تزال تغلي غضبًا.
وفي لحظة، تلاقت عينا كاثرين وآيسيل الزمرديتان.
ربما زاد غضبها لأنها رأتها تنظر إليها،
فبدأت تصرخ وتقترب منها.
“انهضي، قلت لك انهضي!”
“أوغف…!”
أمسكت كاثرين بشعر آيسيل ونهضت بها عنوة.
كانت آيسيل تعرف جيدًا أن إصدار أي أنين سيجلب لها ضربًا أشد، لذلك تحملت الألم بصمت.
جسدها الضعيف بدأ يتمايل كقشة في مهب الريح.
“سمو الأمـ… هوه!”
في تلك اللحظة، دخلت اليشيا الغرفة.
وفقط عندما رأتها كاثرين، أطلقت رأس آيسيل بعنف.
سقطت خصلات شعرها البلاتيني إلى الأرض بلا قوة.
كم كان ذلك بائسًا.
إلى متى سأعيش هكذا، أتلقى معاملة لا يستحقها حتى الحيوان؟
قبضة آيسيل المرتجفة على الأرض كانت تعبر عن غضبها.
كم مرة ثارت خلال بقائها في هذا القصر؟
لكن لم يعترف أحد بغضبها.
أو بالأصح، لم يكن يُسمح لأحد بذلك.
فهي مجرد خادمة لا أكثر.
حتى لو ماتت ضربًا، فلن يهتم أحد.
فصكت أسنانها لا إراديًا.
نظرت اليشيا إلى آيسيل التي لا تزال جامدة كالصخر،
ثم عبست وجهها كأنها ترى شيئًا مقززًا وصرخت:
“آيسيل، ادخلي للداخل!”
“…حسنًا.”
بدت اليشيا وكأنها جاءت لتوصيل أمر عاجل.
ففتحت آيسيل باب الخزانة بصمت، ضاغطة على شفتيها.
من خلفها، صدح صوت اليشيا الغامض:
“…اكتشفت الأمر.”
كانت الغرفة خلف الخزانة تحتاج لإغلاق الباب بإحكام لتصبح عازلة للصوت.
دخلت آيسيل الغرفة، لكنها لم تغلق الباب تمامًا،
كي تستمع لما يدور بينهم.
لم يلحظ أحد منهم أنها لم تغلق الباب.
كانوا منشغلين بالحديث.
وضعت آيسيل أذنها على الباب وأصغت بانتباه.
“اكتشفت الأمر.”
اكتشفت؟ ماذا؟ دارت عينا آيسيل بتوتر.
تابعوا الحديث، غير مدركين أنها تستمع.
“ماذا؟”
“علاقتي بوالدك.”
اهتزت نظرات آيسيل.
لم تصدق أن تلك الطبيبة والدوق بينهما علاقة من هذا النوع.
أن تُصاب بالعمى وتُكتشف خيانة زوجها؟ يا لها من حياة مؤلمة.
لكن شيئًا ما بدا غير منطقي.
أليست كاثرين ابنة الدوقة؟ فلمَ تقول مثل هذا الكلام لفتاة مثلها؟
أمالت آيسيل رأسها في حيرة.
لكن سرعان ما انكشفت الحقيقة.
“سوف أحتجز ديانا في كوخ خلف القصر.”
“هل هذا آمن، أمي؟”
أمي؟! كادت آيسيل تصرخ، لكن سرعان ما غطت فمها.
وبدأت يدها ترتجف من الصدمة.
ما الذي أسمعه الآن؟ في وسط هذه المؤامرة الكبرى،
رمشت آيسيل بسرعة مذهولة.
لكن المفاجآت لم تنتهِ بعد.
“على أي حال، هي عمياء الآن. في ليلة حفل ظهورك للمجتمع،
كل ما نحتاجه هو الحصول على حق تشغيل منجم من الماركيز بريتشي.”
“وهكذا، ستصبحين دوقة القصر أخيرًا؟”
“بالضبط.”
ضحكت اليشيا كأنها أصبحت بالفعل دوقة القصر.
“وفي يوم التخلص من ديانا،
يجب التخلص من تلك الموجودة في الخزانة أيضًا.
لا يمكن لكاليبسو أن يكتشف أنها لا تزال على قيد الحياة.”
ارتعش كتف آيسيل.
‘تلك الموجودة في الخزانة’ كانت بلا شك تقصدها هي.
“أخيرًا، سأتمكن من التخلص منها… ابنة تلك المرأة الحمقاء التي لا تعتقد سوى أنني ابنتها.”
رنّ صوت ضحكة كاثرين المستهزئة في أذن آيسيل كطعنة.
سقطت على الأرض منهارة.
هل يعقل ما سمعته؟ أنا ابنة دوقة القصر الحقيقية؟!
أنا، الفتاة اليتيمة الفقيرة التي نشأت في دار للأيتام وتعمل خادمة هنا؟
أغلقت آيسيل باب الخزانة بهدوء، كأنها لم تسمع شيئًا.
ثم بدأت تفكر بسرعة.
وأخيرًا، فهمت كل شيء.
فهمت لماذا احتجزتها اليشيا هنا،
ولماذا كانت كاثرين تنظر إليها وكأنها عدوة.
لأنهم كانوا مزيفين. ولأنها هي الحقيقة.
كانوا خائفين. من أن الحقيقية قد تطرد المزيفة.
حتى الدوق نفسه، يبدو أنه لا يعلم بأنها لا تزال على قيد الحياة.
تسللت ابتسامة سخرية إلى شفتي آيسيل المرتجفتين.
لا يمكنها أن تسامحهم.
هؤلاء الأوغاد الذين خدعوها وخدعوا والدتها.
في تلك اللحظة، ظهرت أضواء زرقاء حول جسدها.
أضاءت بلورات الجليد الزرقاء الغرفة الصغيرة.
كانت مانا آيسيل الكامنة قد استجابت لغضبها وبدأت تستيقظ.
بدأت الأرض تتجمد تدريجيًا.
لكن آيسيل لم ترتبك، بل أغلقت عينيها بإحكام.
شعرت على الفور بقوة المانا المتدفقة داخلها.
فتحت كفها، ثم أغلقتها،
فعادت المانا التي جمدت الأرض إلى داخل جسدها بسرعة.
“…سأنقذكِ، يا أمي.”
نطقت باسمها الغالي،
الذي لطالما رغبت في مناداته لكنها لم تستطع.
كانت عينا آيسيل، المليئتان بالغضب،
قد تحوّلتا إلى برود الجليد مثل البلورات التي تطفو من حولها.
لكن حتى في تلك النظرة الجليدية، ظهرت بوضوح نيران الغضب.
غضبها على من أساؤوا إليها وإلى والدتها بنواياهم الشريرة.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 21"