استمتعوا
ارتجف جسدها بالكامل من القشعريرة.
هل كانت الطفلة تعلم أنها ستأتي إلى هذا المكان؟
أم أنها كتبت تلك الكلمات فقط لأنها كانت تشتاق لأمٍ لم ترَ وجهها من قبل؟
أم أنها، ربما، كانت تعلم؟
أنها كانت تعلم أن دوقة هذا المنزل هي أمها؟
ماذا إن كانت قد شعرت بخيبة أمل عندما لم تتعرف على ابنتها الحقيقية، وبدلاً من ذلك أحبت ثمرة علاقة غير شرعية كما لو كانت ابنتها؟ ماذا لو هربت بعيداً إلى مكان آخر لهذا السبب؟
كانت أفكار ديانا مشوشة كما لو كانت خيوطاً رفيعة متشابكة بشكل يستحيل فكه.
“صغيرتي…”
بدأت ديانا تلمس الجدار بيديها بحثاً عن أي رسالة أخرى تركتها الطفلة. لكنها لم تجد شيئاً سوى تلك العبارة.
قبضت على البطانية بيدها بإحكام وخرجت من الغرفة.
حتى لو فُقدت تلك البطانية البالية، فلن يلاحظ أحد.
أخفت البطانية تحت فستانها،
وعادت إلى غرفتها وكأن شيئاً لم يحدث.
كانت كاثرين هناك، تنقر بأصابعها على الطاولة ووجهها متجهم.
“آه، أمي. عدتِ؟ أين كنتِ؟”
بدت وكأنها تلومها لأنها جعلتها تنتظر.
رؤية كاثرين جعلت نار الغضب تشتعل في قلب ديانا أكثر فأكثر، وكأن أحدهم سكب الوقود على لهب مشتعل.
كم كان من حسن الحظ أنها ترتدي عصابة على عينيها.
فهي تخفي بها احمرار عينيها من كثرة البكاء،
كما تخفي نية القتل التي تختمر في قلبها.
“لقد جعلتك تنتظرين، أليس كذلك؟”
“نعم.”
جلست كاثرين وهي تعقد ساقيها وتجيب بطريقة متعجرفة،
وكأن ما حدث بالأمس قد مُسح من ذاكرتها.
“أفكر في تعيين معلم سحر جديد لك.”
“…ماذا؟”
“أنت ابنتي الحقيقية، فلا يمكن ألا يكون لديك قوى سحرية.
لا بد أن رويلي رأى الأمر بشكل خاطئ.”
“لـ… لكن!”
لم تكن تريد أن تمر مجدداً بتلك الإهانة التي جُرحت بها كرامتها سابقاً. فهي بلا قوى سحرية، كمن يملأ جرة مكسورة بالماء.
لم تعد ترغب برؤية السحر أبداً.
كل ما تريده هو أن تتابع دروسها كعروس وأن تتزوج باللورد سوير الرائع وتعيش حياة ساحرة.
فكّت كاثرين ساقيها المتشابكتين بهدوء،
ثم فتحت فمها لتتحدث بحذر.
“أنا فقط أريد أن أتزوج الأمير سوير بأسرع وقت.
ولكي أكون أكثر لفتاً للأنظار في أول ظهور رسمي لي كابنة دوق، فأنا مشغولة بالفعل بتعلم آداب البلاط…”
“كاثرين.”
لم يكن من الصعب على ديانا معرفة سبب كرهها الشديد للسحر.
فقلب تلك الطفلة المحبوبة حد الكراهية مليء بالغيرة الملتصقة بها كالعفن.
هي لا تدرك حتى الآن كم أفسدتها تلك الغيرة القذرة ذات الرائحة الكريهة.
ولهذا، قررت ديانا أن تدع تلك الغيرة تأكلها من الداخل.
قالت بابتسامة بالكاد تظهر:
“انظري إليّ، أتعلمين كم أندم الآن لأني بدأت تعلم السحر في هذا العمر المتأخر؟”
“…لكن،”
“لا أريدك أن تندمي كما ندمتُ أنا.”
لكن في الحقيقة،
أتمنى أن تعاني أكثر مما عانيت، يا كاثرين العزيزة.
كان موقف ديانا حازماً كأنه قرار لا رجعة فيه.
فلم تستطع كاثرين الرد عليه بعد الآن.
“…فهمت.”
سأتظاهر فقط بأنني أتعلم،
هذا ما فكرت فيه وهي تغلي من الغضب.
فقط لأن آيسل هربت من دون إذن، كانت حالتها النفسية سيئة، والآن ديانا التي تشبهها في الملامح تزيد من توترها.
“إذاً، هل يمكنني الانصراف الآن؟”
“افعلي ما تشائين.”
وقفت كاثرين من مكانها.
كان المطر لا يزال يهطل بغزارة في الخارج.
وبينما كانت تستعد للخروج، نظرت إلى ديانا بطرف عينها.
ثم، كأن فكرة ما خطرت لها،
رفعت طرف فمها ببطء، ثم بصقت على الأرض.
لكن صوت البصقة غطاه صوت المطر،
فلم يصل إلى أذن ديانا.
لكنها رأت كل شيء بوضوح.
تلك التصرفات الوقحة التي لا تمت للأخلاق بصلة.
“إذاً، ارتاحي جيداً، أمي.”
قالت كاثرين بصوت ناعم ثم غادرت الغرفة.
“هاه…”
مهما كانت تعتقد أنني لا أستطيع الرؤية،
لم أكن أتوقع أن تتجرأ على فعل هذا أمامي.
هل هذه هي من تحمل لقب أرقى فتاة في الإمبراطورية؟
كيف تتصرف بهذه القذارة؟
“يبدو أن عليّ أن أفعل شيئاً بخصوص هذه العين.”
إذا تمكنت فقط من معرفة ما تخطط له اليشيا والدوق،
فإن هذه المسرحية ستنتهي.
أخرجت ديانا البطانية التي أخفتها تحت فستانها وضمّتها إلى صدرها.
“سأجدكِ حتماً، يا ابنتي. فقط، انتظري قليلاً… قليلاً فقط.”
نظرات ديانا امتلأت بالاشتياق لطفلتها،
لكنها في نفس الوقت أصبحت صلبة كالزمرد المعالج بالحرارة.
كانت عيناها عينا شخص لا يمكن أن يهتز مهما حدث.
***
لم تظهر جوليا.
ظنت أنها أرسلتها للبحث عن الطفلة فانتظرت أسبوعاً.
لكنها لم تعد.
ذهبت إلى مكان إقامتها أيضاً،
لكن لم يكن هناك أي أثر على مغادرة،
بل حتى أمتعتها كانت في مكانها.
ما الذي حدث؟ هل حدث لها شيء؟
كانت اليشيا تسير في الممر وهي تقضم أظافرها بقلق.
“هل حدث شيء؟”
“آه، لقد أفزعتني! سمو الدوقة!”
ارتجفت اليشيا ووضعت يدها على صدرها من شدة المفاجأة عندما سمعت صوت ديانا فجأة.
“قالت لي شين إنك تتجولين في الممر بوجه يملؤه القلق.
هل هناك ما يقلقك؟”
رغم أنها تعلم تماماً أن اليشيا قلقة على جوليا،
آخر من تبقى من حلفائها في القصر،
إلا أن ديانا سألت وكأنها لا تعرف شيئاً.
“لا، لا شيء. هل كنتِ ذاهبة إلى مكانٍ ما؟”
“نعم. اليوم لديّ درس في السحر.”
رفعت راحة يدها لتُظهر مدى تقدمها في استخدام السحر.
دارت حولها بلورات جليدية صغيرة متلألئة باللون الأزرق.
ثم، وبشكل متعمد،
أرسلت إحدى تلك البلورات نحو طرف فستان اليشيا.
“آه!”
مرت البلورة الحادة كالشفرة بجانب فخذها،
واخترقت طرف فستانها لتغرس نفسها في الأرض.
سحبت اليشيا فستانها مذعورة، فتطاير طرفه الممزق بفعل البلورة.
حدّقت في طرف البلورة اللامع، وابتلعت ريقها الجاف بصعوبة.
“يا إلهي، ماذا حدث؟”
تظاهرت ديانا بالدهشة وسألت شين وكأنها لا تعرف شيئاً.
فردت شين بهدوء:
“يبدو أن السحر انبعث بشكل خاطئ.
البلورة الجليدية أصابت فستان السيدة اليشيا.”
“يا للأسف! يبدو أنني لا زلت مبتدئة. هل أنتِ بخير، ألي؟”
سألتها ديانا بنبرة هادئة.
عضّت اليشيا شفتها بخفة. بالطبع لم تكن بخير.
ففخذها كان يؤلمها من أثر خدش البلورة.
لكنها لم تستطع قول شيء.
فهي مجرد طبيبة في هذا القصر الكبير.
“…هاها، لا بأس. سأصعد الآن. أتمنى لك درساً ممتعاً، سموكِ.”
“حسناً.”
نفضت اليشيا الغبار عن ردائها ونهضت متجهةً إلى مكانٍ ما.
راقبت ديانا ظهرها وهي تبتعد بابتسامة ساخرة،
ثم عادت إلى غرفتها.
بعد مرور وقت طويل، جاءت الخادمة التي زرعتها ديانا لدى اليشيا وكاليبسو، وهي تلهث، لتخبرها أن حديثهما يبدو مريبًا.
هرعت ديانا على الفور نحو مكتب كاليبسو.
وما إن وصلت، حتى همست بشيء في أذن الخادمة.
فأجابت الخادمة فورًا بانحناءة.
“نعم، فهمت، سموكِ.”
بعد أن سمعت همس ديانا، ركضت الخادمة إلى مكان ما،
ثم عادت تقود عربة شاي محمّلة بالمشروبات والحلوى.
ثم فتحت باب المكتب قليلاً ودخلت.
أشارت ديانا إلى الخادمات في الردهة أن يذهبن إلى أماكن أخرى. فأومأن برؤوسهن بشدة وتفرقن.
وقفت ديانا بتراخٍ مستندة إلى الجدار،
تستمع إلى صوت اليشيا المرتفع المنبعث من الغرفة.
“متى بالضبط ستجعلني زوجتك الشرعية؟!”
صرخت اليشيا بصوت حاد.
ثم تلاها صوت كاليبسو المتذمر وكأنه منزعج.
“اصبري قليلًا. ديانا لا تزال على قيد الحياة، فكيف…”
“هل تعني أنك ستنتظر حتى أُصبح جدة وأموت من الشيخوخة؟”
“يجب أن ننتظر حتى يمنحنا الماركيز ما نحتاجه، ألي.”
ذاك الشيء؟ ضيّقت ديانا عينيها وأرهفت سمعها أكثر.
“أنا بحاجة إلى المال.
لهذا السبب تزوجت من ديانا، وأنتِ تعرفين ذلك جيدًا.”
رفعت ديانا رأسها وهي تتابع ما يقوله، وعيناها اتسعتا فجأة.
هذا يعني أن علاقته باليشيا بدأت قبل زواجه منها.
لقد كان بحاجة فقط إلى ثروة عائلة ماركيز بريتشي.
“الماركيز وعدني بأنه في يوم حفل ظهور كاثرين للمجتمع، سيمنحها منجم الألماس.
لذا علينا الانتظار حتى ذلك الحين، فهمتِ؟”
آه، يبدو أن اليوم الذي قُتلت فيه كان هو نفس يوم ظهور كاثرين الرسمي. خرجت ضحكة ساخرة من شفتي ديانا وهي تقف مكتوفة الذراعين.
منجم الألماس.
إذن هذا هو السبب في أنهم أبقوها على قيد الحياة.
في النهاية، كان كل شيء من أجل المال.
حين فكرت في أن والدها سلّم المنجم بينما كان يهنئ حفيدته المزيّفة دون أن يعرف أن ابنته تموت، ارتعش جسدها.
حثالة البشر.
شعرت بغضب شديد يكاد يجعلها تنهار.
من البداية، لم يكن هناك أي صدق تجاهها.
كل شيء كان كذبًا.
بدأت ديانا تسير ببطء نحو الحديقة،
وهي تتمتم بشتائم في داخلها.
كان الغضب لا يزال يغلي في صدرها،
لكنها كانت تعلم أن وقت قدوم رويري قد اقترب.
“هاه……”
كان عليها تهدئة غضبها أولًا.
أخذت نفسًا عميقًا جدًا، وزفرت زفرة طويلة.
وفي تلك اللحظة، ظهر رويري أمامها.
“نونا!”
“……رويري.”
لم تعد تتفاجأ حتى إن ظهر فجأة أمامها.
ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة.
“ما بكِ؟”
“نعم؟”
ظنت أنها سيطرت على مشاعرها،
لكن رويري لاحظ فورًا أن هناك شيئًا غريبًا بها.
رفعت ديانا رأسها ونظرت إلى وجهه.
عيناه المليئتان بالقلق كانت تحدق بها مباشرة.
“هل أنتِ بخير؟”
“……نعم. بالطبع.”
لسبب ما، شعرت فجأة أن الدموع ستنهمر.
استدارت ديانا عنه.
لو استمرت في النظر إلى عينيه الزرقاوين، فستبدأ بالبكاء حتمًا.
لم ترد أن يراها وهي تبكي، خاصة أمام معلمها في السحر.
أمسك رويري بمعصمها برفق، ثم سألها بوجه جاد:
“لماذا تكذبين؟”
“نعم؟”
استدارت ديانا لتنظر إليه مجددًا، وأمالت رأسها قليلًا.
كيف عرف، رغم أنها تضع العصابة على عينيها، أنها ليست بخير؟
“لا تكذبي عليّ، نونا.”
“رويري…”
أضاف بصوت منخفض:
“انظري إليّ.”
على عكس نظرات أولئك المليئة بالكذب،
كانت عيناه الزرقاوان تبدوان صادقتين بلا حدود.
لكن ديانا لم يكن من المفترض أن ترى لا عينيه الجميلتين ولا ملامحه الجادة الآن.
أجابت بصوت هادئ:
“……أنا لا استطيع الرؤية.”
“……لكن، أنتِ تستطيعين ان الرؤية.”
“نعم؟”
“أنتِ ترين كل شيء. الآن.”
اتسعت عينا ديانا بشدة عند سماع كلماته.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 16"