استمتعوا
السجن المائي في إمبراطورية إيديث.
كان ذلك المكان مشهورًا بكونه قد بُني على يد أكثر من عشرة كبار السحرة خلال عدة أشهر.
كان مملوءًا بالماء حتى كاحل الشخص البالغ، لكن ما إن ينحني السجين ليشرب، حتى تجف المياه وتختفي كأنها لم تكن.
وفوق ذلك، كان السقف موصولًا بمخارج الهواء الخاصة بمطابخ القصر الإمبراطوري.
في كل صباح وظهر ومساء، بل حتى في أوقات تحضير الوجبات الخفيفة، تتسلل روائح الطعام الشهية إلى الداخل لتغري الحواس.
لكن رغم ذلك، لم يكن مسموحًا بأي شكل من الأشكال أن يتذوق السجين ولو لقمة واحدة، مما جعل منه سجنًا قاسيًا بلا رحمة.
وفوق هذا كله، ما إن يُحتجز أحد في ذلك السجن، حتى يُلقى عليه تعويذة تجعله لا يموت رغم حرمانه من الماء والطعام، ليعيش حتى نهاية عمره وهو يعاني من جوع وعطش لا نهاية لهما.
كان ذلك المكان مناسبًا تمامًا لأولئك الذين لم يترددوا في ارتكاب أي شيء بدافع الطمع والشهوة.
مهما اشتد طمعهم، فلن يستطيعوا تذوق حتى أبسط ما يحتاجه الإنسان للبقاء، الماء والطعام.
“مـ… ما هذا؟! السجن المائي؟!”
صرخ كاليبسو وكأنه لا يصدق ما يسمعه.
إن عقوبة الخيانة الزوجية لم تكن تتجاوز كونها موضوعًا للسخرية من قِبل الناس. حتى لو كان الأمر تحريضًا على القتل، فإن السجن المائي كان عقوبة مفرطة للغاية.
لكن الإمبراطور أجاب ببرود،
“أما كنت تعلم؟ لقد قمنا بتعديل القانون قبل عدة أيام.”
“قبل عدة أيام؟!”
“أظن أنه كان في نفس يوم إعلانك الأكاديمي؟
لقد جاءني أحدهم باقتراح لتعديل القانون، فتحدثتُ بشأنه.”
في تلك اللحظة، مرّ مشهد من ذلك اليوم في ذهن كاليبسو.
‘تشجع، ستنجح.
سأتوجه إلى القصر الإمبراطوري لبعض الوقت.’
كلمات ديانا التي قالتها له في ذلك اليوم،
حين قالت إنها ستذهب إلى القصر الإمبراطوري.
استدار كاليبسو بسرعة لينظر إلى ديانا.
كانت تنظر إليه وتبتسم بجمال كعادتها.
***
في اليوم الذي قدّم فيه كاليبسو عرضه البحثي،
غادرت ديانا فورًا إلى القصر الإمبراطوري.
كان كبير الخدم بانتظارها أمام مكتب الإمبراطور.
“وصلتِ، صاحبة السمو.”
“نعم، ماذا عن صاحب الجلالة الإمبراطور؟“
“ينتظركِ بالداخل. تفضلي بالدخول.”
رفعت ديانا طرف فستانها الطويل ودخلت إلى المكتب.
كان الإمبراطور قد تلقى الخبر، وكان ينتظرها بالفعل.
“أدعو للشمس الساطعة لإمبراطورية إيديث بالازدهار الأبدي.”
انحنت ديانا بأدب لتؤدي التحية.
“اجلسي.”
رغم أنها قابلت الإمبراطور مرات قليلة في الحفلات أو أثناء مرافقتها لكاليبسو إلى القصر، إلا أنها كانت هذه المرة الأولى التي تقابله على انفراد.
شعرت بشيء من التوتر أمام الهيبة العظيمة التي يشع بها الإمبراطور.
“ما سبب طلبك للمقابلة؟“
سأل الإمبراطور بنبرة هادئة.
وعندما رفع رأسه، ظهرت عيناه الزرقاوان المتوجهتان نحو ديانا.
فكرت للحظة أنه يشبه شخصًا ما وهي تفتح فمها لتتكلم.
“صاحب الجلالة، ما رأيك… في الخيانة؟“
“الخيانة؟“
“نعم.”
مسح الإمبراطور ذقنه بنظره المتفحص،
وكأنه يحاول فهم مقصد سؤالها.
“إنها فعل قذر وحقير. إنه خيانة للأخلاق والإنسانية.”
“كما توقعت، أليس كذلك…؟“
انخفض رأس ديانا قليلًا، وكان في عينيها حزن عميق.
نظر الإمبراطور إليها بفضول وسأل:
“ما الأمر؟ لماذا تسألين عن هذا؟“
تنهدت ديانا بهدوء، ثم ترددت قليلًا قبل أن تفتح شفتيها.
“صاحب الجلالة…”
اتجهت نحوها عينان زرقاوان تشبهان عيني رويري تمامًا.
وفور أن تذكرت ملامحه،
ارتخت كتفاها المتوترة بسبب مقابلة الإمبراطور
وأخيرًا، أطلقت الكلمات التي كانت تحوم في صدرها.
“…الدوق كاليبسو إيرينست ارتكب خيانة.”
“ماذا؟! خيانة؟!”
ضرب الإمبراطور الطاولة أمامه بقبضته.
“ليس هذا فقط، بل أنجب طفلًا مع عشيقته،
وقام بخداع الجميع مدعيًا أن الطفلة ابنته الشرعية. جلالتك…!”
قالت ديانا بصوت ممتلئ بالغضب والمرارة.
بدا أن الإمبراطور لم يستطع الرد من شدة الصدمة.
في النهاية، كان كاليبسو من الدم الملكي.
لكن الخيانة؟ وطفل غير شرعي؟ إنه أمر مشين لا يوصف.
زد على ذلك، فإن منزل الدوق إيرينست كان يتدهور فعلًا بسبب الإسراف، ولم يعد يمثل الأخلاق والهيبة التي ينبغي أن يتحلى بها النبلاء الملكيون.
وللإمبراطور، الذي كان يقدّس الشرف،
كان وجودهم شوكة في حلقه منذ زمن.
والآن فوق كل هذا… خيانة؟!
إن علم المجتمع الأرستقراطي بهذا الأمر فستكون فضيحة تمس سمعة العائلة الإمبراطورية بأكملها.
عبس الإمبراطور من الضيق، لكنه تحدث بنبرة خافتة:
“…رغم أنه ليس من السلالة المباشرة، لكنه يظل من العائلة الإمبراطورية. ألا يمكن حل الأمر بهدوء… بطلاق فحسب؟“
“هل جلالتك قلق من أن يكون هذا سببًا للسخرية من العائلة الإمبراطورية ؟“
توقفت يد الإمبراطور التي كانت ترفع فنجان الشاي،
وارتجف جبينه قليلًا.
لقد شعر بالخجل.
كيف له أن يفكر بمظهره ومكانته،
وهو يقف أمام دوقة جُرحت بهذه الطريقة؟
لكنه لم يكن يستطيع التصرف بعاطفة فقط.
فصورته أمام الناس كانت أهم من أي سياسة حقيقية.
فالناس غالبًا ما يحكمون بالمظهر، لا بالمضمون.
وكانت ديانا تعرف هذا جيدًا، أكثر من أي أحد.
لقد رأت كيف ينتهي أمر من يتجاهلون الحقيقة في سبيل المال والمكانة.
راقبت ديانا ملامح الإمبراطور بحذر، ثم تحدثت بصوت خافت.
“خيانة القلب ليست أقل من جريمة قتل… بل هي أبشع، جلالتك.”
عيناها امتلأتا بالدموع وهي تتابع.
“هو لم يكن يريد سوى مال أبي. أن يكون في يده مالي وامرأة أخرى في الوقت ذاته… أليس هذا طمعًا فاحشًا؟“
ثم قالت أخيرًا، بصوت يحمل رجاءً عميقًا.
“إنهم ليسوا سوى وحوش لا يعرفون الرحمة، جلالتك….”
اشتد السواد في وجه الإمبراطور وهو ينظر إليها.
تذكر ماضيه، يوم فقد زوجته، وكيف طالب الجميع بإحضار إمبراطورة جديدة قبل أن تنتهي حتى مراسم الدفن… نظراتهم الجشعة لم تغب عن ذهنه.
“…لقد فهمت رأي الدوقة. لكن سمعة العائلة الإمبراطورية…”
“هناك طريقة تحفظ بها سمعة العائلة الامبراطورية،
وتُنزل بهم أشد العقاب أيضًا.”
نظرت ديانا إليه بثقة، وعينيها تتلألآن بذكاء.
“ما هي؟“
“أن تُصدر العقوبة بنفسك، بيديك، ضد من خانوا الإنسانية.”
تلاقت نظراتها بعيني الإمبراطور المليئتين بالعزم.
ثم أومأ برأسه ببطء، كأنه اتخذ قراره.
خرجت ديانا من المكتب، وعلى شفتيها ابتسامة هادئة.
***
“ديانا!”
صرخ كاليبسو بينما كان الحراس يمسكون بذراعيه.
“زوجتي! كيف تفعلين بي هذا؟ كيف تفعلين…! آيسيل! آيسيل!”
صرخ منادياً ابنته، لكن آيسيل لم تلتفت إليه أبدًا.
أن يعيش طوال حياته وهو يحمل ذنب قتل ابنته،
حبيس سجنٍ دائم العطش والجوع.
كان ذلك أقسى عقوبة له.
وكان نفس الحال بالنسبة لأليشيا.
“هذا كله بسببك، أليشيا! أنت من أغريتني! أنت من أوصلتني لهذا!”
صرخت كاثرين وهي تتشبث بجسد أليشيا وتبكي وتصرخ.
لكن أليشيا لم تجب، واكتفت بذرف الدموع.
عقوبتها كانت أن تعيش كفيفة، وتُنبذ من قِبل ابنتها إلى الأبد.
بالنسبة لأم تحب ابنتها، كان ذلك أكثر العقوبات قسوة.
أما كاثرين…
“أوه، انظروا إلى تلك الهيئة!”
“كم هي مقززة!”
“جسدها مليء بالتجاعيد!”
تحولت من شابة بالكاد بدأت ظهورها في المجتمع،
إلى عجوز مشوهة لا يمكن لأحد أن يتصورها،
وأصبحت مجبرة أن ترى انعكاس صورتها في الماء لبقية حياتها.
كانت العقوبة على الثلاثة مروّعة لدرجة جعلتهم يتمنون الموت.
لكن كل ذلك كان نتيجة أفعالهم.
ولا حجة تبرر ذلك.
راقبت ديانا وآيسيل بصمت برود ظهر أولئك الذين لم يكفوا عن تقديم الأعذار وإلقاء اللوم.
اقتادهم الحراس جميعًا.
إلى أعماق القصر، حيث يقع السجن المائي.
كانت القضبان مثبّتة في الأرض.
فتح الحراس الأقفال، ودفعوا كاثرين وأليشيا أولًا.
“ادخلي!”
“آااه!”
“لااا!”
دخلت كاثرين وأليشيا دون مقاومة تُذكر.
“لا! أرجوكم، أرجوكم أنقذوني!”
لكن كاليبسو حاول المقاومة حتى اللحظة الأخيرة.
لم يكن ليغلب الحراس، الذين دفعوه بقوة داخل الزنزانة.
“تبًا، أنتم مقززون.”
نظر الحراس إليهم باحتقار شديد،
وبصقوا على الأرض قبل أن يغلقوا باب الزنزانة بعنف.
راح كاليبسو يضرب القضبان في السقف بجنون،
لكن ما حدث فقط أن يديه احمرتا، دون أن يتحرك القضبان.
“لا! لااا!”
ومع إغلاق الباب، عم الظلام.
وتماوج الماء البارد حول كاحليه.
لم تكن كاثرين تعرف ما هو ‘السجن المائي‘ حقًا.
نظرت إلى والدها الذي كان يضرب القضبان،
بعينين توحيان أنها تود قتله،
بينما تمسح حنجرتها الجافة من كثرة الصراخ.
ثم جمعت كفّيها معًا ورفعت الماء بحذر،
لكن الماء تلاشى كحبّات الرمل قبل أن يلامس شفتيها.
كانت شفتاها اليابستان أصلاً تزدادان جفافًا.
“لا يعقل… أن أُسجَن في هذا المكان…!”
عندها فقط، بدا أن كاثرين أدركت واقعها،
فأخذت تضرب القضبان.
وسرعان ما بدأ عبق شرائح اللحم الممزوجة برائحة الزبدة يتسلل من فتحة التهوية المثبتة في السقف.
انتشرت الرائحة في أرجاء الزنزانة حتى غمرتها بالكامل.
كان الأمر جنونيًا.
فالماء يترقرق أمام أعينهم، ومع ذلك لا يمكنهم شربه، والرائحة الشهية للّحم تصلهم بكل وضوح، ومع ذلك لا يمكنهم تذوقه.
العطش والجوع كانا يعذّبانهما إلى أقصى حد.
كانوا أولئك الذين عاشوا طوال حياتهم دون أن يردعوا شهواتهم، يرتكبون كل ما لا يليق بالإنسان.
كان من الطبيعي أن يشعروا بالعذاب.
وسرعان ما بدأ كاليبسو يضحك كالمجنون.
إن كان ما يعيشه حلمًا، فقد أراد الاستيقاظ منه.
فهو دوق من دم العائلة الإمبراطورية.
لا يجب أن يكون في مثل هذا المكان.
ضحكاته المخبولة ملأت أرجاء الزنزانة.
أما أليشيا، فكانت تتحسس الجدار بينما تستمع إلى تلك الضحكات المقشعرة، ثم انزلقت بهدوء إلى الأرض وجلست على ركبتيها.
كانت في ظلمة لا نهاية لها،
لا تفعل شيئًا سوى ذرف دموع مليئة بالفراغ، وكأنها جثة هامدة.
“أنقذوني، أرجوكم! آآآآآه!!”
أما كاثرين،
فواصلت صراخها المستميت بلا أي معنى حتى النهاية.
كان وجهها القبيح ينعكس على سطح الماء الذي ينساب عند كاحليها.
وعندما رأت وجهها المشوّه،
صرخت بانهيار وكأنها في نوبة هستيرية.
لكن لم يأتِ أحدٌ إلى تلك الزنزانة.
في ذلك المكان، لم يكن هناك أحد سواهم، إلى الأبد.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 109"