استمتعوا
“تلك الذكرى بقيت محفورة في قلب آيسيل.”
في عيني ديانا الغارقتين ظهرت كل الآلام والأحقاد التي عاشتها في ذلك اليوم.
صرخت بحرقة وشوق:
“تلك الذكرى… عندما قُتلت على يد والدها… تلك الجراح!”
“مـ… مستحيل…!”
ارتجفت يد كاليبسو بقوة.
الذكريات التي نقلتها آثار إكليبت كانت حية كما لو أنها حدثت بالأمس.
في تلك الذكرى، أمر بإطلاق السهام نحو آيسيل،
التي كانت ترتدي ثيابًا رثة وجسدها نحيلٌ جاف.
ثم، انهالت عليها عشرات السهام، وكل واحدة كانت أشد يأسًا من الأخرى، تغرز في جسدها الصغير.
عينا آيسيل، التي كانت تخطو ببطء،
بدت كأنها تحاول أن تقول له شيئًا.
الدموع سالت من عينيها، والفم تفجّر منه دمٌ قانٍ.
وأخيرًا، دون أن تتمكن من تحريك شفتيها اليابستين، انهارت بلا حراك.
في اللحظة التي دخلت فيها تلك الذكرى إلى داخله، انفطر قلبه.
كيف له أن يقتل الطفلة التي أحبها بيديه؟
لقد كره نفسه لاختياره ذلك المصير.
ولكن، ماذا؟ تلك الفتاة كانت ابنته الحقيقية…؟ من ديانا ومنه…؟
لم يستطع أن يتحمل.
تنفسه تلاحق وهو يهزّ رأسه بعنف.
صدره ضاق كأنّه يوشك على الانفجار.
في تلك اللحظة، دخل أحدهم إلى الكوخ.
بدأ ضوء المصباح الخافت في الداخل يزداد شيئًا فشيئًا.
والشخص الذي دخل هو…
“آيسيل…!”
كانت آيسيل قد عادت بعد انتهاء حفل تقديمها للمجتمع النبيل.
اقترب كاليبسو من ابنته الجميلة وأمسك يديها بشدة.
“كنتِ حقًا ابنتي… لقد ظننتُ أنكِ ميتة فقط…!”
في عينيه اختلطت مشاعر الفرح برؤية ابنته التي كبرت بهذا الجمال، مع الذنب والأسف.
حتى هو لم يستطع فهم ما يشعر به بدقة.
لكن آيسيل سحبت يديها منه ببرود.
ونظرت مباشرة في عينيه وتكلمت.
“إن كنتَ تظن أنني ميتة،
لكان عليك أن تُحسن معاملتك لوالدتي، أبي.”
تزعزعت نظرات كاليبسو.
لم يرَ وجه آيسيل بهذا الشكل من قبل.
كانت دائمًا تبتسم له بصفاء يفوق صفاء البحيرات.
أما الآن، فكانت أكثر برودة من شتاء الشمال.
باردة بدرجة تقشعر لها الأبدان.
“آيسيل، لا. لم أكن أنا… لقد كنتُ بالكامل تحت سيطرة أليشيا…!”
“لا تلمسني. إنكَ ملوث.”
كان ذلك صدمة كاملة.
فتح كاليبسو فمه كسمكة، عاجزًا عن الرد.
“آه…!”
في تلك اللحظة، تأوهت أليشيا التي كانت فاقدة الوعي.
رمشت بعينيها العمياء بضع مرات،
ثم جلست بحذر بعد أن سمعت صوت كاليبسو.
“كاليبسو…؟“
انقضّ عليها كاليبسو وأمسك بتلابيبها وراح يهزها بعنف.
“كل هذا بسببك! أنتِ من أغويتني أولًا!”
“ما بك! في بطني طفل منك…!”
“طفلك مات بالفعل.”
قالتها ديانا ببرود.
عند كلماتها، هزت أليشيا رأسها غير مصدقة.
“لا تقولي كلامًا سخيفًا! لا يمكن أن يكون طفلي قد مات!”
“الطبيب قد جاء بالفعل. أليشيا.”
اتسعت عينا أليشيا الفاقدة للبصر، وغرقت في ظلام أعمق.
“كل هذا بسببكِ، ديانا! أنتِ السبب في كل شيء!”
صرخت وهي تجهش بالبكاء، واندفعت نحو صوت ديانا.
لكن ديانا لم تكن من النوع الذي يُؤذى بهذه السهولة.
“إلى أين تظنين نفسك ذاهبة؟“
بإيماءة واحدة من يدها، جمدت ديانا قدمي أليشيا في مكانها.
“من المدهش كم أنتم متشابهون في إلقاء اللوم على الآخرين.”
نظرت بعينيها اللامعتين إلى الشخصين الممددين على الأرض.
“من خان صدقي وإخلاصي… كان أنتم من البداية. ولم تعد هناك حاجة لأن أتعامل بلطف مع من لا يستحق حتى لقب إنسان.”
“عزيزتي!”
زحف كاليبسو على ركبتيه نحو ديانا، وأمسك بطرف فستانها.
خرجت من فمه توسلات مذلّة لا توصف.
“عزيزتي، كنا سعيدين! ألم تحبيني…؟!”
“ومن هي هذه العزيزة؟ نحن مطلقان، أليس كذلك؟“
ابتسمت ديانا ابتسامة مشرقة لا تتناسب مع الموقف،
ثم أزاحت يد كاليبسو عن فستانها ببرود.
ثم، مدت يدها وأمسكت بيد رويري بإحكام.
وأدخل رويري أصابعه بين أصابعها بثقة.
“إنها امرأتي.”
ثم نقر بأصابعه في الهواء نحو كاليبسو، الذي كان يحاول النهوض.
فطار كاليبسو بفعل سحر رويري وارتطم في زاوية الكوخ.
“آخ…!”
اقترب رويري منه بهدوء كوحش يطارد فريسة صغيرة،
لكن ديانا أمسكت بذراعه بإحكام.
“لا تقتله.”
“لماذا؟“
“لأن الموت… سيكون راحة لهما.”
أطلق رويري صفيرًا طويلاً.
عندها، تحركت الحبال التي كانت مبعثرة حول الكوخ كأنها أفاعٍ،
ولفت أجساد كاليبسو وأليشيا بإحكام.
“هناك مكانٌ مناسب تمامًا لأناسٍ قادهم الجشع ليرتكبوا أفعالًا حيوانية.”
واصلت ديانا حديثها بعينين تقدحان شررًا.
“مكانٌ يملؤه العذاب، يحملون فيه ذكريات أشد قسوة من الموت، يتعذبون بها طيلة حياتهم.”
نظر رويري إلى ديانا المبتسمة بوجهٍ متعجب، وأمال رأسه قليلاً.
***
مع شروق الشمس، ذهبت آيسيل يرافقها الحرس لزيارة كاثرين، التي كانت مسجونة في الزنزانة تحت الأرض.
كان على كاثرين أيضًا أن ترافق كاليبسو وأليشيا إلى ذات الوجهة.
“كم أنتِ بشعة.”
قالتها آيسيل وهي تنظر إلى كاثرين الجالسة في ركن الزنزانة.
“لا تنظري إلي! لا تنظري!”
صرخت كاثرين وهي تغطي وجهها حتى لا يُرى.
لكنها لم تستطع أن تخفي وجهها الذي شاخ وتشوه.
بدت كأن وجهها قد فُضح أمام العالم،
يحمل كل أحقادها وشهواتها الفاسدة.
“لا بأس، كاثرين. وجهك أفضل من شهواتك القذرة.”
“أنتِ…!”
ضربت كاثرين قضبان الزنزانة بعينين دامعتين.
“إياكِ أن تلمسيني.”
قالتها آيسيل وهي تزيل الأوساخ عن فستانها ببرود.
“ايتها اللقيطة…”
‘ايتها الحقيرة…’
كلماتٌ اعتادت كاثرين أن تكررها لتحطّ من شأن آيسيل عندما كانت تعيش في غرفة الكتب، خرجت الآن من فم آيسيل بنفس النبرة.
توقفت كاثرين عن الصراخ، وفتحت فمها بصمت.
“كيف تشعرين، وأنتِ في الطرف الآخر الآن؟“
قالتها آيسيل بابتسامة باردة، وعيناها الحنونتان اختفتا.
“أنتِ حقًا غبية، كاثرين.”
ثم نظرت إلى شعر كاثرين الأبيض وكأنها تشفق عليها بشدة.
“لو أنكِ وقفتِ بجانب أمي فقط…”
تحركت تفاحة آدم في حلق كاثرين ببطء، وشعرت بجفاف في فمها.
وما إن سمعت جملة آيسيل التالية،
حتى سقطت يداها اللتان كانت تمسكان بالقضبان.
“أمي لم تكن لتتخلى عنك أبدًا.”
اهتزت عينا كاثرين البنفسجيتان وكأنها أوراق شجر تتطاير في مهب الريح.
اجتاحها يأسٌ عميق.
كانت خائفة.
لو علمت ديانا بكل شيء،
فإن نظرات الحب والعطف التي منحتها لها ستتحول إلى جليد.
كانت تخشى أن تُنبذ.
لذلك، ازدادت قسوتها.
عاملت آيسيل – التي كانت أختها غير الشقيقة – بوحشية.
شعرت بأنها إن لم تفعل ذلك، فلن تبقى على قيد الحياة.
وأن حياتها كأميرة مدللة ستنتهي كسراب.
ولكن الآن، في هذه اللحظة،
لم تخسر فقط مكانتها، بل عائلتها، وشبابها كذلك.
والوحيدة التي تسببت بذلك… كانت هي نفسها.
“خذوها.”
“أمركِ، انستي.”
انحنى الفرسان باحترام أمام آيسيل، وفتحوا باب الزنزانة.
ثم أمسكوا بذراعي كاثرين التي أصبحت كالعجوز الضعيفة.
تركت كاثرين نفسها تُسحب بلا مقاومة، وكأنها تخلت عن كل شيء.
وسرعان ما اجتمع الثلاثة أمام بوابة القصر.
انفجرت أليشيا بالبكاء عندما رأت كاثرين.
كان حظها الجيد الوحيد هو أنها أصبحت عمياء،
حتى لا ترى ابنتها التي تحولت إلى عجوز بسبب جشعها.
“لننطلق.”
صعدت ديانا وآيسيل إلى العربة.
وكان رويري بجانبهما.
واتجهوا جميعًا إلى المحكمة داخل القصر الإمبراطوري.
“أناسٌ بهذا الشر لا يُغتفرون!”
“انظروا إلى وجوههم القبيحة!”
“حاولت المزيفة أن تنتحل مكان الحقيقية!”
“لكنها كانت صديقة الدوقة المقربة!”
كانت قاعة المحكمة مكتظة بالأشخاص الذين سمعوا بما جرى في حفل الظهور.
راحوا يصرخون بألفاظ مهينة، ويرمون الحجارة والبيض والطماطم على الثلاثة الذين انحنوا خجلًا.
ها قد ابتلّت ملابس الثلاثة تمامًا بالقاذورات،
حتى باتوا يبدون كمتسوّلين.
جلسوا بهدوء في قفص الاتّهام، غير قادرين على الرد على صرخات الاستهجان التي وُجّهت إليهم من الناس.
وبعد قليل، دخل الإمبراطور إلى قاعة المحكمة.
وفور ظهوره، نهض الجميع من مقاعدهم وأدّوا التحية باحترام.
“المجد الأبدي لشمس إمبراطورية إيديث!”
“اجلسوا جميعًا.”
أمر الإمبراطور بصوت مهيب، فجلس الحاضرون في صمت تام.
كان من النادر أن يتولّى الإمبراطور بنفسه منصب القاضي في محكمة إمبراطورية إيديث، غير أن كاليبسو دي إيرنست كان فردًا من العائلة الإمبراطورية.
ورغم أنه بات في مرتبة العامة الآن،
إلا أن الحكم عليه لا يمكن أن يُترك لأي كان.
وفوق ذلك،
كان لدى الإمبراطور سببٌ يدفعه لأن يُصدر الحكم بنفسه.
تأمّل الإمبراطور الثلاثة الجالسين في قفص الاتّهام بنظرات تنضح بالاشمئزاز.
أما كاليبسو، فقد كان يومًا دوقًا من سلالة ملكية،
لكنه الآن يقف هنا ملوثًا بخطيئة الزنا.
لا شيء يدعو للشفقة أكثر من ذلك.
هزّ الإمبراطور رأسه وبدأ المحاكمة.
“كاليبسو دي إيرنست.”
توجّهت نظراته الحادة نحو كاليبسو،
فارتجف الأخير من رأسه حتى أخمص قدميه.
“هل تعترف بأنك أنجبت كاثرين دي إيرنست من علاقة آثمة مع أليشا لو بلير؟“
بقي كاليبسو يهمهم لفترة طويلة،
قبل أن يجيب أخيرًا بصوت بالكاد يُسمع.
“…نعم.”
رغم أن الجميع كانوا يعرفون الحقيقة، إلا أن اعترافه زاد من سخط الحضور، فبدأوا بالهمس واللعنات الصريحة.
أما الإمبراطور، فقد بدا مذهولًا من الوقاحة.
“لا مجال لأيّ عذر إذًا. والدليل واضح وضوح الشمس.”
ثم تحوّل بنظره إلى كاثرين، التي كانت تغطي وجهها برداء كثيف، لكن ملامح وجهها المشوّهة كان يظهر أحيانًا، كأنه آثار حروق مروّعة.
“سأصدر الحكم الآن.”
“كاليبسو دي إيرنست قام بزراعة نباتات سامّة، وارتكب الزنا مع أليشا لو بلير، وسعى لقتل زوجته طمعًا في ميراث والدها،
وهذه الأفعال تتعارض مع كرامة النبلاء.”
انحنى كاليبسو خزيًا.
كان يشعر بأن عاره هذا لا يُحتمل.
ومع ذلك، فقد كان مطمئنًا قليلاً،
فجرم الزنا لا يُعاقب عليه بعقوبة جسيمة في هذه الإمبراطورية.
لم يقتل أحدًا بالفعل، لذا ظنّ أن حكم الإعدام لن يُطالَه.
وزفر في سره بارتياح خافت.
ثم تحوّل الإمبراطور إلى أليشا،
التي كانت تحدّق في الفراغ بعينين لا تريان.
“أليشا لو بلير، لم تكتفِ بإنجاب ابنة غير شرعية من الزنا،
بل قامت باستبدالها بابنة الدوقة، وسعت إلى قتل الدوقة وابنتها.”
تابع حديثه.
“أما كاثرين دي إيرنست، فقد عذّبت ابنة الدوقة الحقيقية وسعت إلى قتلها بالتعاون مع والدتها، بل وسمّمت وريثًا من عائلة دوق إيبرك.”
الإمبراطور كان يعرف كل شيء.
ارتجفت أليشا كليًا.
قد يُفلت كاليبسو، لكن هي وكاثرين مصيرهما الإعدام لا محالة.
لكن ما قاله الإمبراطور بعد ذلك صدم الجميع.
“بناءً على ذلك،
يُحكم على هؤلاء الثلاثة بعقوبة السجن في السجن المائي.”
بدأ الناس في الهمهمة باندهاش واستغراب.
وسط ذلك، كانت ديانا وحدها تبتسم كما لو كانت تعرف مسبقًا الحكم الذي سيصدر.
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 108"