استمتعوا
ديانا، المنحدرة من عائلة الماركيز بريتشي،
كانت دومًا تعتقد بأنها تعيش في سعادة.
فقد نشأت في أسرة ميسورة الحال، محاطة بالحب،
وكانت ذات طبع دافئ يفوق كل من حولها.
كانت تؤمن أن أثمن ما في الحياة ليس المال ولا الشرف، بل الناس.
ولهذا كانت لطيفة ودافئة مع الجميع،
من نبلاء وعامة على حد سواء.
كانت دائمًا تؤكد أن من واجبات النبلاء العطاء، وكانت تذهب لتقديم المساعدة للأيتام الذين فقدوا والديهم وهم صغار.
كل من جلس مع ديانا، سواء كان نبيلًا أو من العامة،
كان لا يسعه إلا أن يُفتن بطيبتها النادرة.
حتى أن البعض قال إنها ملاك متجسد،
ولهذا لُقبت بـ’قديسة بريتشي’.
لكن شهرتها لم تكن بسبب ذلك فقط.
فمع قلبها المليء بالحنان،
أضفى جمالها الخارجي مزيدًا من الشهرة والسطوع على اسمها.
شعرها الأشقر الكثيف كأنه يقطر عسلاً، وعيناها الصافيتان بلون الزمرد، ورموشها الطويلة كأنها مطرزة بخيوط من الذهب.
عندما تبتسم، لا أحد يستطيع أن يغض بصره عنها.
وفوق ذلك، وكأن الحاكم باركها،
كانت تمتلك طاقة سحرية نادرة لا يكاد يوجد لها مثيل.
لكن للأسف، لم تسنح لها الفرصة لتُزهر تلك الموهبة.
ذلك لأنها اضطرت إلى الدخول في زواج سياسي مع دوق الشمال في إمبراطورية إيديث، كاليبسو دي إيرنست.
في العادة، كان نبلاء الإمبراطورية يحددون أزواجهم منذ الطفولة، عبر خطوبة مبكرة.
لكن ماركيز بريتشي لم يفعل ذلك،
لأنه أراد أن تختار ابنته العزيزة ديانا زوجها بنفسها.
لكن مع بلوغها سن الزواج،
لم يكن قد تبقى من النبلاء رفيعي المستوى في سنها إلا عدد قليل.
وكان النبلاء يخشون سلطة وثروة عائلة بريتشي،
لذا لم يتجرأ أحد على التقدم إليها.
بدأ المركيز يقلق. إن لم تكن ديانا ترغب بدخول برج السحر لتصبح ساحرة، فعليها أن تتزوج مثل بقية النبلاء.
وفي تلك الأثناء، ظهر كاليبسو دي إيرنست.
كان نادرًا ما يحضر المناسبات الاجتماعية،
وحتى إن حضر، لم يكن يرقص مع أي امرأة.
ولهذا السبب، سُمّي بـ’البارد المتجمد في الشمال’.
بادر الماركيز فورًا بترتيب لقاء بين ابنته وكاليبسو.
رغم أن ملامحه بدت باردة بعض الشيء،
إلا أنه كان شابًا مهذبًا ومستقيمًا، على عكس الشائعات.
“ما رأيكِ؟ قد لا يكون ثريًا كعائلتنا،
لكن كونك دوقة لن يُنقص من شأنك بشيء.”
رغم استقامته، لم يكن كل شيء فيه مثاليًا.
فأسرة إيرنست، رغم حملها لقب ‘الدوقية’،
لم تكن تملك ثروة ولا سلطة تُذكر.
لقب الدوق جاء فقط لأن جد كاليبسو كان الابن غير الشرعي الثامن للإمبراطور.
لكن حين قابلته ديانا، علمت الحقيقة.
على عكس ما يُشاع، كان لطيفًا للغاية، وحنونًا في تعامله.
“لا بأس يا أبي. لقد أعجبني ذلك الرجل.”
كان السبب الوحيد الذي جعلها تختاره:
«ليس الحب العاطفي وحده هو الحب.
سأحترمك وأعتني بك إلى الأبد، ديانا.»
كلماته تلك، التي مسّت قلبها، وتعهده المخلص بأن يعتني بها ويحترمها، كانت كافية لتجعلها تقبل عرضه في نفس اللحظة.
وهكذا تزوجا.
ورغم أنهما لم يتبادلا حبًا حارقًا،
إلا أنهما كانا دائمًا يحترمان ويهتمان ببعضهما.
ورأت ديانا أن هذا النوع من الحب الهادئ هو أيضًا حب حقيقي.
وبينهما، رزقت بطفلة جميلة خلال فترة قصيرة.
ورغم أنها أغمي عليها أثناء الولادة، إلا أن صديقتها الطبيبة أليشيا، والتي نشأت معها منذ الصغر، ساعدتها وولدت الطفلة بسلام.
“جلالتك، استفيقي رجاءً.”
حين استعادت ديانا وعيها، كان كل شيء قد انتهى.
كانت الطفلة، التي انتهت لتوها من حمامها،
تتحرك بهدوء في أحضان أليشيا.
“هذه… الطفلة…”
“ما رأيك أن نسميها كاثرين؟”
قال كاليبسو ذلك وهو ينظر إلى ابنته،
لكنه بدا حزينًا بطريقة ما.
ومع ذلك، كانت نظرته لطفلته دافئة للغاية.
“كاثرين… الاسم جميل.”
بسبب طول آلام الولادة وفقدان الوعي، كانت ديانا مرهقة تمامًا.
لكنها رغم ذلك، لم تستطع أن تخفي ابتسامتها الدافئة وهي تحدق في ابنتها.
“كاثرين… كاثرين…”
همست باسمها وكرّرته، ثم عاهدت نفسها في داخلها أن تحبها أكثر من أي أحد، وأن تحميها إلى الأبد.
وهكذا، عاش كاليبسو وديانا وكاثرين حياة مليئة بالسعادة.
كانت كاثرين تغني لها دائمًا بصوتٍ عذب كالعندليب.
وكانت ديانا تستمتع بذلك الصوت وهي تحتسي الشاي مع أليشيا.
لكن المأساة جاءت فجأة، دون سابق إنذار.
كان ذلك في يوم خرجوا فيه في نزهة قرب قصر الدوق.
بينما كانوا جالسين على حصيرة تحت نسيم الرياح اللطيف، سمعوا صرخة مروعة من كاثرين.
“آآآاااه!”
أسرعت ديانا وأليشيا نحو مصدر الصوت، مذعورتين.
وهناك، وجدتا كاثرين، وهي مغمضة العينين، تنزف من عينيها.
“أمي، يؤلمني كثيرًا! أمي!”
“أوه، كاثرين!”
أسرعت ديانا باحتضان ابنتها المذعورة بين ذراعيها.
بينما كانت أليشيا تفتش الأعشاب المحيطة بهما، صرخت فجأة:
“هذا غير معقول…!”
اهتزت عينا أليشيا الحمراوان من الصدمة.
سألتها ديانا بسرعة، بعينين ممتلئتين بالخوف:
“ما الذي حدث، أليشيا؟!”
أشارت أليشيا إلى مكان ما، فتبعها نظر ديانا.
كانت هناك شجيرات سوداء اللون، مليئة بالأشواك.
“إنها نباتات سامة… قوية جدًا… قد تسبب العمى إن لامست العين. لماذا يوجد مثل هذا النبات في أراضي الدوق؟…”
بدأت يدا ديانا ترتجفان بشدة حين سمعت كلمات أليشيا.
نظرت إلى وجه أليشيا القاتم وسألت بصوت مرتجف:
“ماذا يعني هذا… هل كاثرين…؟ لا يمكن!”
فحصت أليشيا عيني كاثرين بسرعة، لكن ملامحها ازدادت كآبة.
سحبت ديانا نفسًا ثقيلًا، وحاولت أن ترفع ابنتها برفق.
“أليشيا، هل يمكنك علاجها هنا؟”
سألتها وهي تعض شفتيها بقلق.
هزّت أليشيا رأسها. لم يكن بالإمكان رؤية حالة عيني كاثرين بدقة هنا، كان لا بد من العودة إلى القصر للفحص الشامل.
“لا يمكنني رؤية الأمر بوضوح هنا.
علينا العودة فورًا للقصر للفحص بدقة.”
“حسنًا… لنتحرك بحذر. كاثرين…”
كانت عينا ديانا الزمرديتان تغرقان في ظلام اليأس،
وهي تمسك يد ابنتها وتقودها نحو العربة.
عادوا على عجل إلى القصر.
وضعت أليشيا كاثرين على السرير وبدأت بتطهير عينيها الملطختين بالدماء.
وفي تلك اللحظة، اقتحم كاليبسو الغرفة مذعورًا بعد سماعه الخبر.
“ما الذي حدث، عزيزتي؟!”
“هه… يا عزيزي… عينا كاثرين… تسممت بالأعشاب…”
ارتمت ديانا في حضنه وهي تبكي.
لكنها لم ترفع عينيها عن أليشيا، التي كانت تفحص كاثرين.
لكن أليشيا، بعد أن أنهت فحصها، هزّت رأسها بأسى.
“لقد فقدت… بصرها بالكامل.”
قوة السم كانت مرعبة.
عينا كاثرين لم تعدا تبصران شيئًا.
“لا… مستحيل!”
كانت لا تزال في الخامسة عشرة من عمرها.
اصبحت تصرخ بدموع دامية، تحرك يديها في الفراغ.
كانت تبكي من الألم الذي يخترق عينيها،
وتغرق في اليأس من حقيقة أنها لن ترى شيئًا بعد اليوم.
“آه… لن أرى بعد الآن الزهور الجميلة… أو الطيور الصغيرة… أليس كذلك، أمي؟”
لم تستطع ديانا أن تحتمل رؤيتها بهذا الشكل،
فمدّت يدها المرتجفة لتلمس عيني ابنتها النازفتين.
كانت فتاة على وشك أن تزهر بأجمل صورها في بضع سنوات،
ولم تبدأ حتى موسم ظهورها الاجتماعي.
فقدان البصر كان يعني فقدان كل شيء.
“ألا يوجد أي حل…؟”
سألت ديانا، تحاول أن تكتم بكاءها، ونظرت إلى أليشيا.
أجابت الأخيرة، بعينين تغشاهما الحزن، وبصوتٍ خافت:
“هناك… طريقة واحدة فقط، لكنها…”
“قوليها بسرعة، أليشيا!”
كانت ديانا مستعدة لفعل أي شيء.
ترددت أليشيا قليلاً، ثم قالت بحذر:
“… يُقال إنه من الممكن،
باستخدام القوة المقدسة، نقل البصر من شخص لآخر.”
لكن كان لذلك شرط: أن يكون القلب ممتلئًا بالحب الصادق.
بمعنى أن ديانا، المحبة الوحيدة لكاثرين،
كانت الوحيدة القادرة على ذلك.
“لكن يتطلب الأمر قلبًا مليئًا بالحب… كي ينجح…”
“القوة المقدسة… والحب الصادق…”
“أمي، لا!”
صرخت كاثرين وهي تمسك يد والدتها بشدة.
لكن القرار كان قد اتُخذ.
“سأذهب إلى المعبد.”
“عزيزتي!”
صرخ كاليبسو، محاولًا منعها.
فحتى وإن كانت ابنتها عزيزة،
فإن تقديم بصرها لم يكن بالأمر السهل.
“عزيزي… أنا أحب كاثرين أكثر من حياتي نفسها.”
انهمرت دموع ديانا على خدّيها، وفتحت نافذتها على مصراعيها.
هبّت نسائم الربيع الدافئة، وتناثرت خصلات شعرها الذهبي.
كان تحت نافذة غرفة كاثرين حديقة من الورود الجميلة.
كانت كاثرين تحب الأزهار أكثر من أي شيء.
إن لم تستطع رؤيتها مرة أخرى… فكم ستكون حياتها حزينة؟
لا بأس إن لم أرَ مجددًا. يكفيني أن تكون ابنتي سعيدة.
نظرت ديانا نظرة أخيرة إلى الورود ذات الألوان المختلفة،
وملأت بها عينيها.
“أعد العربة، من فضلك… عزيزي.”
رأى كاليبسو الإصرار في عينيها الصادقتين،
ولم يستطع إلا أن يوافق.
وهكذا، ذهبت ديانا إلى المعبد، وقدّمت بصرها لابنتها.
اختفى البريق الزمردي من عينيها، وحلّ الظلام الكامل.
هكذا إذن كان شعورك، كاثرين.
شعورٌ تخالطه رهبة خفيفة. لكن، لا بأس. كان بإمكانها أن تتحمل.
فقد أنقذت ابنتها.
لكنها لم تكن تعلم… ما هو شكل الوجوه التي وقفت أمامها بعد أن فقدت بصرها: كاليبسو، وأليشيا، وكاثرين…
( (
(„• ֊ •„) ♡
━━━━━━O━O━━━━━━
– تَـرجّمـة: شاد.
~~~~~~
End of the chapter
التعليقات لهذا الفصل " 1"