الفصل 184 : فصل إضافي ⁴
عندما نطقت الملكة باسم أحد طفليها الميتين، شعر رولاند بالحرج.
“يبدو أنّني قد أثرتُ موضوعًا غير ضروري.”
“لا بأس.”
غير أنّ رولاند كان يعلم أكثر من أيّ أحد آخر أنّ إيلونا ليست بخير.
منذ أن اعتلت أغنيس العرش، غادرت إيلونا القصر.
ورغم امتلاكها ما يكفي من المال والراحة، إلّا أنّها عاشت في بيتٍ قديمٍ جدًا يكاد لا يليق إلّا بالفقراء، من دون خادمة.
حتى شراء الطعام كان أمرًا نادرًا بالنسبة لها.
ولولا أنّ رولاند قد دسّ شخصًا يراقبها بدافع القلق والفضول، لكانت إيلونا قد ماتت جوعًا منذ زمن بعيد.
وربّما هي نفسها كانت تتمنى ذلك.
“الماركيز شاندور.”
“نعم.”
“يكفي هذا الآن.”
“ماذا تقصدين؟”
“أقصد وضع الطعام خفيةً أمام منزلي، أو تدخّلَكَ كلما وقعتُ في مأزقٍ لحلّ الأمور من وراء الستار.”
“كنتِ على علمٍ بذلك؟”
خفض رولاند رأسه محرجًا.
بالطبع، إيلونا لم تكن تعلم بذلك منذ البداية. ولكن إن تكررت الصدف الغريبة بهذا الشكل، فمن الطبيعي أن تثير الشك.
في تلك اللحظة، تقلبت الطفلة وهي نائمة. كادت إيلونا أن تفقد توازنها من وزنها، فتقدّم رولاند خطوةً ومدّ يده.
“دعيني أحمل الأميرة الآن.”
“أنا… لا، حسنًا.”
أبدت إيلونا أسفها، لكنها لم ترفض عرضه.
انتقلت يوجين إلى أحضان رولاند، فأنّت قليلاً، لكنّها لم تفتح عينيها.
“لطفكَ مفرطٌ عليّ.”
“أنا فقط… لا، معذرةً إن أزعجتُكِ.”
أحنى رولاند رأسه وهو يعانق يوجين بقوة ويتمتم بكلماتٍ مبهمة. وظلّت إيلونا تُحدّق به صامتةً لوقتٍ طويل.
“هل تكنّ لي مشاعر كإمرأة؟”
توقف عقل رولاند لحظة عند سؤالها المباشر.
وما لبث أن احمرّ وجهه كلّه، من عنقه حتى جبينه. لم يكن بحاجةٍ إلى أن يُجيب، فالأمر بدا واضحًا.
كان حلقه جافًا لدرجة أن صوته لم يخرج. شدّ قبضته وقال بصعوبة:
“… لا، أعني، نَعَم. في الحقيقة، هذا صحيح.”
هبّت ريح أواخر الصيف المعتدلة بينهما.
لكن إيلونا لم تسأله: لماذا أنا بالذات؟ أو: هل تحدّثنا يومًا بشكل حقيقي؟
بدلًا من ذلك، استدارت وبدأت بالمشي، فتبعها رولاند كما لو كان منجذبًا بمغناطيس.
“ما زلتُ أرى الكوابيس. يظهر سيبستيان بجانبي، يربّت على وجنتي ويهمس أنّه يحبني.”
“……”
“رغم أنّي أعلم أنّه قد قُتل وقطع رأسه، ورغم أنّي أعلم أنّ كل هذا مجرد حلم… إلّا أنني أخاف في كل يوم.”
“إيلونا.”
“لا تنادِ اسمي. ليس بذلك الصوت.”
كان رولاند وسيبستيان أولاد خالة، لكن ملامحهما لم تكن متشابهةً كثيرًا. غير أنّ أصواتهما كانت شديدة الشبه.
الوجه الذي كان أحمرًا كالجمرة قبل قليل، شحب الآن. فسألت إيلونا بهدوء:
“أهو انتقام؟”
“ماذا؟”
“انتقامٌ من سيبستيان. إن امتلكتَني، فسيكون ذلك انتقامًا كاملًا منه.”
“لا! أبدًا. أنا لا أنظر إليكِ بتلك الطريقة. إنني فقط… فقط أنا…”
أحبّكِ.
ابتلع رولاند تلك الجملة الأخيرة. لم يكن خوفًا من الاعتراف، بل خشية أن يؤذيها إن نطق بها.
“لا أعلم ماذا تريد مني، يا ماركيز.”
“لا أريد شيئًا، لا أريد شيئًا إطلاقًا.”
قاطعها رولاند على عجل.
“لن أتجرأ وأطلب أن تسمحي لي بالبقاء قربكِ. وإن كان النظر إليكِ من بعيد يزعجك، فلن أقترب ثانيةً. ولن أنطق باسمكِ.”
“لا شيء؟”
“نعم.”
هزّ رولاند رأسه بحزم لم يسبق له مثيل. فتشوّهت ملامح إيلونا على نحوٍ غريب.
كيف يمكن لإنسان يقول إنه يحب، أن يزعم أنّه لا يريد شيئًا؟ كان ذلك غريبًا جدًا بالنسبة لها.
“لكن لديّ طلبٌ واحد.”
“ولِمَ عليّ أن أستجيب لطلبك؟”
رمقته إيلونا ببرودٍ مقصود.
لكن رولاند لم يتلعثم ولم يتردد هذه المرة، بل وقف مستقيمًا وحدّق مباشرةً في عينيها.
“صحيح. أنا لستُ شيئًا بالنسبة لك، مجرّد غريب. لكن ألا تدينين لي بحياتكِ مرةً واحدة؟”
“متى…؟”
“حين قُتل سيبستيان، أقنعتكِ بالخروج من القصر. وبذلك أنقذتُ حياتكِ.”
قال رولاند بعينين متوهجتين وبصوتٍ صارم لم يسبق له أن استخدمه.
تراجعت إيلونا خطوتين متفاجئةً بقوة كلماته.
“هل تتذكرين ما قلتُ لك وقتها؟”
“……”
“أنّ محو الملك من حياتكِ والعيش مجددًا، هو أعظم انتقام.”
عيني رولاند الملتهبتين، لا تدري لماذا، شعرت إيلونا بحرارتهما تخترقها.
“عيشي. لن أتدخل في سعادتكِ، أيُّ صورةٍ اتخذتْها. فقط عيشي يومًا بعد يوم. هذا هو رجائي الوحيد منكِ.”
فتحت شفتيها لتحاول الإجابة، لكن لم يخرج منها صوت. لقد كان من الصعب عليها مواجهة عينيه الزرقاوين.
“أنا…”
“ها أنتما الاثنان هنا.”
ظهرت ملكة نيرسيغ حينها مبتسمةً وهي تقترب.
رولاند لاحظ حضورها أولًا، فانحنى فورًا.
“سموّكِ.”
“حتى الأميرة هنا… ولماذا يوجين في حضن الماركيز؟”
“آه، في الحقيقة…”
“لا حاجة للشرح. ماركيز شاندور يفرط في تدليل الأميرة. لا يجب أن تلبّى كل ما تريد ونزواتها.”
نقرَت أغنيس بلسانها وهي تهزّ يوجين النائمة بين ذراعي رولاند.
“يوجين. استيقظي.”
“لا بأس يا سموّكِ، لقد غفت منذ قليل فقط.”
عدل رولاند حمله للطفلة وتراجع خطوةً إلى الوراء بحذر حتى لا يوقظها.
أغنيس لم تستطع إلا أن تضحك بسخرية. لو رآهما أحد، لظنّ أن يوجين ابنة رولاند فعلًا.
“أين ذهبت المربية حتى يحملها الماركيز بنفسه؟”
“أعدتها، قلت لها إنني سأتولى الأمر.”
“لم أكن أعلم أن وقتك فارغٌ إلى هذا الحد. لو علمت، لأرسلتكَ مع حملة صيد الوحوش.”
عقدت أغنيس ذراعيها وهي تسخر. عندها تحركت الصغيرة في حضن رولاند.
تثاءبت يوجين ثم فتحت عينيها ببطء.
“لقد استيقظتِ. انزلي الآن من حضن الماركيز، يوجين.”
“اممم…”
بدت غير مستيقظةٍ تمامًا، فعبست قليلاً ثم أخفت وجهها في صدر رولاند. فربّت هو بلطفٍ على ظهرها.
“لا بأس. نامي أكثر يا أميرتي.”
إيلونا ظلت تحدّق بتلك الصورة كأنها لا تستطيع أن تحوّل بصرها.
“ماركيز، بهذا الشكل ستأخذ يوجين معك إلى قصرك.”
“إن أذنتِ لي… آههاها. أمزح، مجرد مزاحة.”
ولاحظ رولاند خفوت العاطفة في عيني أغنيس، فسارع بابتسامةٍ متكلّفة.
“كفى. تدليل الدوق لها يكفي. سلّمها إليّ.”
مدّت أغنيس يدها مرةً أخرى.
فاحتضن رولاند الطفلة أكثر وهمس قرب أذنها:
“أميرتي، عندما أراكِ في المرة القادمة سأجلب لكِ حلوى لذيذة وشريطًا جميلاً. كوني بخير.”
“اممم.”
سلّم رولاند الصغيرة إلى أغنيس وهو يملؤه الأسف.
“يا إلهي، ما زلتِ نعسانة. ينبغي أن تذهبي إلى النوم حالًا. هل أستدعي المربية؟”
“سأتولى الأمر بنفسي. تراجع الآن.”
“سموّكِ، إذًا أستأذن.”
انحنى رولاند أمام أغنيس، وألقى نظرةً قصيرةً جدًا على إيلونا قبل أن يغادر.
ضمّت أغنيس الصغيرة جيدًا وقالت لإيلونا:
“فلندخل الآن.”
“نعم، سموّكِ.”
“يوجين، أعلم أنّكِ استيقظتِ. انزلي وامشي بنفسكِ.”
“هييـنغ.”
فتكشّفت خدعة يوجين التي كانت متشبثةً بأمها متظاهرةً بالنوم. فأنزلتها أغنيس إلى الأرض.
وما إن لامست قدماها الأرض حتى قفزت بنشاطٍ كأنها لم تكن نائمة أصلًا.
“أمي، أمي! متى سيعود أبي؟”
“سيعود قبل غروب الشمس. لماذا؟ هل لديكِ ما تقولينه له؟”
“نعم! سأطلب منه أن يُحضر لي أخًا صغيرًا!”
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿ 《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 184"