الفصل 169 : القصة الجانبية 3 : في أحد الأيام في الماضي ³
تردَّد الخدم ونظروا إلى بعضهم البعض، فما كان من لازلو إلا أن قال من بين أسنانه.
“في المرة الثالثة، لن أكتفي بالتحذير بالكلام.”
“لنخرج.”
كان أحد الخدم سريع البديهة، فأخذ الآخرين معه وغادروا غرفة المكتب على عجل.
لم يضرب لازلو سطح المكتب بقبضته إلا بعد أن اختفوا جميعًا عن ناظريه، فغاصت الخشبة الصلبة من شدة الضربة.
ومع ذلك، لم يهدأ غضبه بسهولة.
بل كان الأسوأ من ذلك أن هؤلاء الرجال قد تفوَّهوا بمثل تلك الكلمات، وأن الأميرة قد سمعتها وأقرَّتها.
ما الذي شعرت به حينها؟
لم يستطع لازلو أن يتخيل الإهانة التي تعرضت لها.
كان كل ذلك بسببه.
لو كان وضع الإقطاعية أفضل قليلًا، أو لو أنها لم تتزوج من أحد أفراد عائلة أرباد منذ البداية، لما تعرضت لمثل هذه الإهانة.
راح يدور في منتصف غرفة المكتب في محاولة لقمع الغضب والشعور بالذنب اللذين كانا يعتصرانه.
إنَّ السبب وراء حديث الخدم بهذا الشكل هو أنه لم يَزُر غرفة الأميرة مطلقًا.
ولإسكات هذه الأقاويل، لم يكن أمامه سوى خيار واحد.
تردد كثيرًا في اتخاذ قراره.
كان السبب وراء عدم قضاء لازلو الليل مع الأميرة واضحًا.
فالزوجان اللذان لا ينجبان طفلًا لا يعدان زوجين كاملين في نظر الحاكم.
وإن كان سيحدث شيءٌ للإقطاعية أو إن مات هو، فإن لم يكن لديها طفل منه، فسيسهل عليها الزواج مجددًا.
كانت تلك هي الطريقة الوحيدة التي استطاع بها أن يمنحها الحرية.
كان يأمل أن تكون هي الوحيدة التي تنجو من السفينة الغارقة المسماة “أرباد”.
“هاه…”
زفر تنهيدة طويلة.
لم يكن متأكدًا مما هو الصواب، لكنه كان متيقنًا مما يتوجب عليه فعله.
خرج لازلو من غرفة المكتب مباشرة وتوجه إلى جناح الأميرة.
***
“دوق.”
بما أنها كانت زيارته الثانية، لم تكن الخادمة التي تحرس غرفة الأميرة متفاجئةً هذه المرة.
“هل تريد أن أُعلمها بحضورك؟”
“نعم.”
دخلت الخادمة، ثم عادت بعد لحظات لتفتح الباب. استقبلته الأميرة بنظرات هادئة.
“ما الأمر، يا دوق لازلو أرباد؟”
“…”
بمجرد أن رأى وجهها، لم يتمكن من نطق الكلمات بسهولة.
لم يكن متأكدًا مما إذا كان عليه الاعتذار أولًا أم التطرق إلى سبب زيارته.
“ما الذي يشغل بالك إلى هذا الحد؟”
“مجلس الشيوخ…”
توقف عند هذه الكلمة، وصمت مرة أخرى، فقد كان ذهنه مشوشًا.
“يبدو أن لديهم الكثير ليقولوه.”
بمجرد أن ذُكر مجلس الشيوخ، تغير وجه أغنيس فجأة.
“لماذا لم تخبريني بذلك؟”
“أُخبرك أنا؟”
عندما سألها بنبرة استجواب، نظرت إليه أغنيس بدهشةٍ وردَّت بسؤال آخر.
“ولماذا عليَّ أن أخبرك بذلك؟”
“لأن…”
ارتفع صوته فجأة ثم خفت بنفس السرعة.
تذكر فجأة أن الحديث بينهما كزوجين كان شبه معدوم طوال العام الماضي.
“وإن أخبرتك بأنهم زاروني، ما الذي سيتغير؟”
“…”
“على أي حال، كل ما يقولونه مجرد تكرار لما كرروه طوال العام الماضي، فلا يوجد شيء جديد.”
بدا على وجهها أثر الاستسلام، ولازلو، الذي لاحظ ذلك، خفض رأسه قليلًا، وهو يشعر بالذنب والخزي في الوقت ذاته.
“إن كنت تريد، فسأخبرك في كل مرة يأتون فيها إليَّ من الآن فصاعدًا.”
“…”
“إن كان حديثك قد انتهى، فغادر الآن، فقد تأخر الوقت.”
قالت أغنيس ذلك بهدوء، ثم استدارت مبتعدةً عنه.
كان هناك الكثير مما أراد أن يقوله.
أراد أن يسألها عمَّا إذا كانت قد تأذت من كلامهم عن جلب امرأةٍ أخرى، أو ما إذا كانت تلومه لأنه لم يقضِ الليالي معها.
حدَّق في ظهرها.
لم يستطع تحديد مشاعره نحوها بدقة.
كان يتأرجح بين رغبته في مغادرة الغرفة على الفور، وبين شعوره بأن قدميه كانتا مثقلتين بالحديد.
ظلت أغنيس غير مبالية بموقفه الغريب وسألت ببرود.
“ما الأمر؟ هل تنوي هذه الليلة أيضًا أن تغادر بعدما تترك وراءك بقعًا من الدم؟”
“… لا.”
تخلص لازلو من أفكاره المتشابكة، وقرر أن يفعل ما بوسعه في هذه اللحظة.
اقترب بخطوات واسعة نحو السرير حيث كانت أغنيس.
“هممم؟”
حين اقترب منها فجأة، رمقته أغنيس بعينين مرتابتين، وهي ترمش.
جمع لازلو كل شجاعته ووضع يده على كتفها.
“سأقضي الليلة معك اليوم.”
“… ماذا؟ أيُّ ليلة؟”
لم تكن قد استوعبت بعد ما يجري، فبدت عليها علامات الدهشة.
لحسن الحظ، لم يكن المكان مضاءً جيدًا، وإلا لكانت قد لاحظت كيف احمرَّت أذناه.
“لازلو أرباد، ما الذي قلته؟”
“سأستحم أولًا، ثم أعود إليك.”
أصبحت يده التي وضعها على كتفها ساخنة فجأة، فسحبها بسرعة وغادر الغرفة كما لو كان يهرب.
حين عاد إلى غرفته، اغتسل بماء ساخن وهو يفكر مليًا.
تردد كثيرًا قبل أن يقف أمام باب غرفتها.
لكنه أدرك أن هذه كانت أفضل طريقة لإسكات مجلس الشيوخ.
أخرج الورقة التي أعطتها له خادمة الأميرة وراح يتلمسها بين أصابعه، ثم وضعها في جيبه.
“احممم.”
دخل إلى الغرفة متظاهرًا بالسعال بلا سبب واضح.
كانت الأجواء مظلمة، ولم يستطع الرؤية جيدًا. سار بحذر نحو السرير، وحين اقترب بما يكفي، رأى أغنيس مستندة إلى السرير، تغفو برأس متأرجح.
ابتسم لازلو بخفة عندما رآها على هذه الحال، وشعر بتوتره يتلاشى قليلًا.
جلس بجوارها وأخذ يتأملها بهدوء.
“لماذا لم تنمُ بعد؟”
لقد مضى أكثر من عام منذ وصولها إلى ستومار، وكان من المفترض أن تكون قد نمت قليلًا على الأقل، لكن لم يتغير شيء يُذكر منذ اليوم الأول لوصولها.
يدها وقدماها الصغيرتان، وقامتها التي بالكاد تصل إلى كتفه، كل ذلك ظل كما هو.
منذ الليلة الأولى لها في هذا المكان، كان حريصًا على أن يهتم الطاهي بنظامها الغذائي، لكن يبدو أن ذلك لم يكن له تأثير يُذكر.
“إن نامت بهذه الوضعية، فسيكون الأمر غير مريحٍ لها.”
كانت نائمة مستندة إلى لوح السرير الخلفي، لذا رأى أنه من الأفضل أن يُمددها لتنام براحة.
مدّ يده بحذر ليضعها على عنقها وتحت ركبتيها، ثم رفعها بلطف.
كانت خفيفة بشكل مفاجئ، لدرجة أنه بدأ يشك فيما إذا كانت تتناول طعامها كما يجب.
“يبدو أنه يجب أن أكون أكثر حزمًا بشأن طعامها.”
حرص على ألا يوقظها، مما جعله يتحرك ببطء.
استغرق الأمر وقتًا أطول مما توقع، لكنه تمكن أخيرًا من إراحتها على السرير.
عندما حاول سحب ذراعه من تحتها والابتعاد، التقت عيناه بعيني أغنيس مباشرة.
“آه، هذا…”
“هااام.”
لكنها لم تُظهر أي انزعاج، بل فركت عينيها ونهضت جالسة.
“متى وصلت؟ يبدو أنني غفوت دون أن أشعر.”
“للتو.”
عاد التوتر ليجتاحه من جديد، وجلسا على السرير متقابلين، يتبادلان نظرات محرجة.
“إذًا، هل سنقضي الليل معًا اليوم؟”
“نعم.”
“إذًا، ماذا علينا أن نفعل الآن؟”
توقف لوهلة عاجزًا عن الرد أمام سؤالها الصريح.
“أولًا، حسنًا، أقصد…”
لم يكن متمرسًا في هذا الأمر ليعرف ما يقوله. بينما كان يبحث عن الكلمات، صفّقت أغنيس بيديها فجأة.
“آه، صحيح، يجب أن أخلع ملابسي أولًا.”
بدأت في جذب الرباط عند خصرها دون تردد، لكن لازلو أمسك بيدها بسرعة.
“انتظري لحظة.”
“لماذا؟ آه، هل هذا دورك؟”
“رجاءً…”
أمسك بذراعيها بلطف وأرقدها على السرير.
انعكست ألسنة اللهب الخافتة في عينيها الزرقاوين اللتين أسرتاه تمامًا.
حين التقت نظراتهما، شعر وكأنه يغرق في عالمٍ آخر.
انحنى ببطء، تمامًا كما لو كان يقبل شيئًا مقدسًا، وترك قبلة خفيفة على كتفيها.
ارتعش جسدها قليلًا، كأنها شعرت بالدغدغة.
“ناي.”
“همم؟”
“قالت ناي إن المرة الأولى مؤلمة.”
قالتها بصوتٍ خافت، أشبه بالهمس.
استطاع أن يخمّن أن ناي ربما تكون إحدى خادماتها. تخيّلها وهي تجلس بإصغاء، تستمع إلى تفسيرات خادمتها عن ليلة الزفاف، مما جعله يبتسم.
“حقًا؟ سأنتبه لذلك.”
قالها بجدية محاولًا كبت ضحكته، فترددت قليلًا ثم مدت يدها ببطء نحو عنقه، ساحبة إياه برفق.
كان ذلك التلامس بالكاد محسوسًا، لكنه رغم ذلك، وجدها ساحرةً بشكلٍ لا يُحتمل.
شعر بانقباضٍ في صدره، كأن شيئًا ما يضغط على قلبه، وامتلأ جوفه بحرارةٍ غريبة.
أراد أن يضمها إليه بقوة.
لكنه تراجع، خائفًا من أن يحطم شيئًا ثمينًا بين يديه.
تراقص ضوء الشموع للحظة، ثم انطفأت تمامًا.
لم يتبقَّ سوى أصواتٍ خافتة في الظلام.
***
عندما فتح عينيه صباحًا، كان أول ما شعر به هو دفء بشرةٍ أخرى تلامس بشرته.
أمضى بضع ثوانٍ يحاول استيعاب الوضع، ثم أدرك أنه قضى الليلة الأولى مع زوجته.
كانت أشعة الفجر تتسلل من بين ستائر النافذة، وتنعكس على ملامح أغنيس النائمة.
تأملها بصمتٍ لفترة، مأخوذًا بتفاصيل وجهها.
دون أن يدرك، رفع أصابعه نحو وجنتها، لكنه سرعان ما تراجع بخجل.
لم تكن تصدر أي صوت، حتى أنفاسها كانت بالكاد تُسمع.
لو لم يكن يرى صدرها يرتفع وينخفض، لكان ليشكّ في أنها ما زالت على قيد الحياة.
ظل متسمرًا لبعض الوقت، حتى سمع ضوضاء الخدم في الخارج.
كان عليه الخروج للقيام بدورياته الصباحية عند أسوار القلعة، كما اعتاد منذ كان في الخامسة عشرة من عمره.
لكن للمرة الأولى، لم يكن راغبًا في مغادرة الغرفة.
ظل مترددًا حتى أشرقت الشمس بالكامل، ثم نهض أخيرًا على مضض.
بعدما ارتدى ملابسه وصعد إلى سور القلعة، كان الحراس والفرسان قد سبقوه إلى هناك.
“وصلت، سيدي الدوق.”
“أوه.”
“لكن… هل هناك شيءٌ مميز اليوم؟ ابتسامتك لم تفارق وجهك منذ الصباح.”
“هممم. لا شيء على الإطلاق.”
سأله أحد الفرسان بمكر، لكنه تهرّب من الإجابة بسعال مصطنع.
ذلك اليوم كان كأي يوم آخر، لكنه بدا مختلفًا تمامًا.
لم يلاحظ من قبل كيف يتلألأ ضوء الشمس بين الأوراق، أو كيف يرقص الغبار في الهواء.
لكن، إن سُئل عمّا إذا كانت علاقته بأغنيس قد تحسنت بعد تلك الليلة، فالإجابة ستكون “لا”.
ظلت علاقتهما متحفظة ومتوترة، نادرًا ما كانا يلتقيان إلا للضرورة.
لكنه رغم ذلك، وبتبرير من حجة إسكات مجلس الأعيان، بدأ بزيارتها ليلًا من حين إلى آخر.
أحيانًا، كان لا يفعل شيئًا سوى النوم بجانبها والمغادرة مع الفجر.
وكلما ازدادت الليالي التي يقضيها بجوارها، كان شيء ما بداخله يتغير.
“لو أن…”
“ماذا؟ ماذا كنت ستقول؟”
“لا شيء. لننمِ فحسب.”
في بعض الليالي، حين كان مستلقيًا إلى جانبها، خطرت له أفكارٌ عديدة.
لو كانت الأوضاع في الإقليم أكثر استقرارًا… لو لم يكن عليه التضحية بكل شيء…
ربما كان سيشعر بسعادةٍ حقيقية وهو يحتضنها.
ربما كان سيحظى بفرصة أن يعرف الفرح في تربية طفل يحمل ملامحها أو ملامحه.
لو أنني فقط…
لكن سرعان ما كان يهز رأسه لطرد هذه الأفكار.
فهي مجرد أحلام لن تتحقق أبدًا.
═════• •✠•❀•✠ •═════
الترجمة: فاطمة
حسابي ✿ 《 قناة التيلجرام مثبتة في التعليقات 》
《واتباد: cynfti 》《انستا: fofolata1 》
التعليقات لهذا الفصل " 169"