2
2. قلتُ لكِ ألّا تعضي شفاهكِ.
لم يستطع الفرسانُ الذين كانوا بانتظار الدوق العائد من الغابة أن يغلقوا أفواههم من الذهول.
والسببُ كان المرأةَ المتدلّية على كتف شيد ليستر كجثّة غزالٍ اصطاده.
“سيّدي! مَن تكون تلك المرأةُ بحقّ السماء…!”
“…صيد.”
“ماذا؟ صـ-صيد؟ إنّها إنسانة!”
لو قالها شخصٌ آخر لبدت مزحةً ثقيلة، لكن بما أنّ قائلها هو شيد ليستر نفسه، فلم يجرؤ أحد على اعتباره كلامًا عابرًا.
سواء علم بحيرتهم أم لم يعلم، فقد أنزل شيد المرأة التي جلبها من الغابة في العربة.
كانت تلك المرأة الضئيلة ترتجف، منكمشةً، في ثيابٍ ملطّخةٍ بالدم.
فكّر الفرسان عند رؤيتها.
‘إذن لم يقتلْها بعد.’
كان ذلك في نظرهم أمرًا مريحًا.
لكن ذلك لا يعني أنّ الموقف رحيمٌ بها.
آثار الدماء على ثوبها واضحة…
“اللورد ليستر! هل… هل أطلقتَ النار فعلًا لتصطاد إنسانة؟”
اتّسعت عينا أحد الفرسان حين وقعت على ساقها.
فالدمُ الذي بلّل ثيابها لم يأتِ إلّا من هناك.
رغم أنّ الدم غطّى الجرح فلم يتّضح شكله، إلا أنّ النزيف لم يتوقّف بعد.
“مهما يكن، حتى لو لم يمضِ وقت طويل منذ عودتك من ساحة الحرب، فإنّ هذا…”
“السير هيدريك.”
بمجرّد أن حرّك شيد عينيه نحوه، انقطع كلام الفارس.
لم يكن واضحًا ما الذي حدث، لكن من الواضح أنّ سيّده في مزاجٍ سيّئ.
“الدواء.”
جاء أمرٌ مقتضبٌ من شيد.
فاندفع هيدريك على الفور ليُحضره.
في أثناء غيابه، عاد شيد يحدّق بريانا.
حين مدّ يده إلى ساقها الجريحة، ارتجف جسدها الصغير وتراجع إلى الخلف
.
كان ذلك مثيرًا للشفقة. إلى أين ستفرّ أصلًا؟
“من الأفضل أن تبقي ساكنة.”
قبض على ساقها المرتجفة بلا رحمة.
ثم مزّق الجوارب الطويلة التي غطّت ركبتها حتى كاحلها دفعةً واحدة.
“آه…”
ما إن كُشف القماش الذي كان يستر الجرح، حتى تجعّدت ملامح وجهها ألمًا.
آثار أنياب كلبٍ غائرة في ساقها.
“…لويزا.”
“ليانا.”
صحّحت اسمها وهي تتمتم بصوتٍ ضعيف.
“ليانا سيربنس…”
همست، عاقدةً قبضتيها الصغيرتين على ثوب الخادمة الممزّق، وعيناها الخضراوان ترتجفان بخوفٍ عنيد.
“…حسنًا. أيًّا يكن اسمكِ، فلن يُغيّر شيئًا.”
مزّق شيد أسفل قميصه الأبيض ولفّه بحبلٍ من القماش.
ثم عقده بإحكام أعلى ركبتها النازفة، فارتدّت ليانا للخلف كأنّها تقاوم.
“أنا بخير…”
هزّت رأسها محاولةً التفلّت من يديه.
لم تُرِد أن تترك له أمر علاجها، بل الأصحّ أنّها لم تُرِد أن تظلّ مرتبطة به.
فهو أثرٌ مؤلمٌ من ماضيها الذي بالكاد استطاعت أن تتخلّص منه.
كان الهروب من كلاب الصيد أهون عليها.
لكن عندها ارتفع جفنُه الثقيل، وانكشفت عيناه البنفسجيّتان المحدِّقتان بها.
مجرّد التقاء النظرات جعَل قلبها يهوي.
“…صحيح. تبدين بخير. لعلّ الأمر سينتهي ببتر الساق وحسب.”
قالها هذا بنبرةٍ مسطّحة جعلت ليانا عاجزة عن معرفة إن كان يسخر منها أم يتكلّم بجدّ.
ثم نهض بخفّة، والتقط جرّة الماء المعلّقة بالعربة.
عاد ليقبض على كاحلها الكبير بيده.
“اصبري.”
وبتحذيرٍ قصير، سكَب الماء النظيف فوق جرحها.
“آه…”
شهقت كأنّ أنفاسها انقطعت من شدّة الألم، فعضّت شفتَيها بقوّة.
كلّما غمر الماء جرحها، ازداد الألم أضعافًا.
أغمضت عينيها بشدّة وكتمت أنينها بين أسنانها.
حين انغسلت الدماء، ظهرت آثار الأنياب غائرةً في بياض ساقها، واضحةً أكثر من قبل.
كان عليها أن تعتبر نفسها محظوظةً أنّ اللحم لم يُنتزع منها.
جرحٌ كهذا كفيل بأن يصرخ فيه حتى الفارس المدَرَّب، لكنها لم تُطلق صرخةً واحدة.
أوقف شيد الماء، وعاد يحدّق بها.
كانت شفتاها تنزفان دمًا طفيفًا من شدّة عضّها.
“لا تزالين على عادتكِ… تعضّين شفتَيكِ.”
انقبض قلبها عند سماع صوته المنخفض.
لقد تذكّر عادةً قديمة لم تنتبه هي نفسها لها.
“من الأفضل أن تُصلحي هذه العادة. فلستُ مضطرًّا إلى مداواة شفتَيكِ في كلّ مرّة.”
امتزج صوته بنبرة ضجرٍ خفيّة.
عندها عاد السير هيدريك ومعه صندوق الإسعاف.
“أحضرتُه يا سيّدي. هل نُجري العلاج…؟”
“سأتولّى الأمر.”
مدّ شيد يده، فتردّد هيدريك لحظةً ثم سلّمه الصندوق بخضوع.
فيه بعض الأدوية والضمادات التي جُهّزت لرحلة السفر الطويلة.
طرد شيد الفارس جانبًا، ثم جثا على ركبةٍ واحدة.
وسحب ساق ليانا المصابة لتستند عليه.
تلوّن بنطاله بالدماء النازفة، لكنّه لم يُبالِ.
غرف شيئًا من المرهم بأصابعه، وبدأ يدهن به لحمها الممزّق.
ارتعش جسدها بقوّة حين لامس أصبعه الجرح.
“آه…”
“قلتُ لكِ ألّا تعضي شفتيكِ.”
قطّب جبينه وهو يرى ليانا تعود لعادتها.
كرهَت أن ينكشف ضعفها أمامه.
لكنّها كرهت أكثر أن تُسمِعه أنينًا طفوليًّا كأنّها تشكو الألم.
حاولت أن تصمد بلا أن تعضّ، لكنّ الألم كان يفيض من كلّ لمسةٍ له.
فكلّما قاومت، ارتعشت شفتاها وتراجعت إلى الداخل بلا إرادة.
عندها، امتدّت أصابعه الطويلة لتمسح على شفتيها الملطّختَين بالدم بخفّة.
على خلاف صوته البارد، كانت لمسته حذرة، تسري على بشرتها الحسّاسة.
“هـاه…”
خرج نفسٌ من بين شفتيها المشرعتَين.
ارتبكت ليانا من الصوت الذي أفلت منها، فاستدار رأسها مسرعةً لتفلت من لمسة يده على شفتيها.
فتوقّفت يده في الهواء لحظة، ثم هوت بهدوء كأنّ شيئًا لم يحدث.
غطّت ليانا شفتيها بظاهر كفّها، تضغط عليهما بقوّة.
وفي تلك الأثناء أنهى شيد علاجها، ولفّ ساقها بضمادٍ بخفّةٍ وتمكّن.
لكن لمسته أقلقتها، فقد كان قلبها ينكمش ألمًا بين كراهيةٍ مكلومة ويدٍ رقيقة تتصرّف بعناية.
“هذا يكفي…”
خرج صوتها مرتجفًا، فتوقّفت يد شيد عن شدّ الضماد.
انتهزت الفرصة ونهضت عن العربة.
“سأذهب في طريقي إذن.”
استدارت كأنّها تهرب، غير أنّ صوته البارد أمسك بها.
“عليكِ أن تدفعي ثمن إنقاذكِ.”
تجمّدت خطواتها المتعثّرة.
لقد أنقذها من كلاب الصيد، بل وضمد جراحها.
كان من الطبيعي أن تُبدي امتنانها.
“…أشكرك جزيل الشكر.”
أخرجت من جيبها أوراقًا ماليّة بالية، وقدّمتها له.
أرادت أن تقطع كلّ صلةٍ بينهما ولو بالثمن.
ضحك شيد ساخرًا وهو يتأمّل النقود المجعلكة.
“ثلاثة ديلا فقط؟”
انتفض واقفًا، مشرفًا عليها بارتفاعٍ بدا أعتى ممّا في ذاكرتها.
ذلك القوام المهيب وحده كان يكفي ليُشعرها بالضغط.
“أتظنّين أنّ مبلغًا تافهًا كهذا يكفي؟”
ابتسم بازدراء للنقود التي لا تساوي حتى ثمن وجبةٍ له.
إنّه سيّدٌ على إقطاعٍ واسع، أحد أرفع نبلاء الإمبراطوريّة.
احمرّ وجه ليانا خزيًا.
فـ”ثلاثة ديلا” كانت كلّ ما تملكه في الدنيا.
لكن ما بيدها حيلة، فلا قدرة لها على تسديد الدين لشيد ليستر.
“ولكن…”
“لا تفهميني خطأ. لن أتنازل عن الثمن.”
قاطعها وهو يلقي ما تبقّى من الضماد في صندوق الدواء.
“سآخذ المقابل… كاملًا.”
فهو لم يكن ممّن يعالجون الناس بلا سبب.
***
أخرج شيد من جيب سترته عُقدةً معدنيّة صغيرة.
فتحها بصريرٍ خافت، فانكشفت ورقةٌ قديمة مطويّة.
كانت قصاصةً من صحيفة، تلاشت حروفها بمرور السنين.
لكنّ العنوان الذي حفظه عن ظهر قلب كان لا يزال مقروءًا.
— “إبادةُ أسرة إديانا: الموت بحكم محكمة التفتيش!”
تحت العنوان العريض طُبعت صورُ أفراد العائلة بحفرٍ خشِن.
وفي الوسط، وجهُ فتاةٍ يافعةٍ تحدّق بخواء.
أسفل صورتها، اسمٌ بخطٍّ صغير.
— “لويزا إديانا”
‘حقًّا… لم يكن الرسم يشبهها أبدًا.’
هكذا فكّر، مثلما ظنّ يوم رأى المقال لأوّل مرّة.
ارتسمت على شفتيه الجافتَين ابتسامة باهتة.
أغلق القلادة بيدٍ ثابتة.
فالحقائق التي يعرفها الناس قد تختلط بالأكاذيب أحيانًا.
وقد كان هو لزمنٍ طويل أسيرَ كذبةٍ كهذه.
***
لويزا إديانا، أو بالأحرى ليانا، وُضعت في عربةٍ كأنّها مجرّد حمولة.
غطّى القماش السقف والجوانب، فحجب كلّ مشهدٍ من الخارج.
لم يكن يصلها إلّا اهتزاز العجلات المستمرّ وهي تتدحرج بلا توقّف.
ضمّت ياقتها المرتعشة، منكمشةً في ركنها.
‘…لماذا كان هو بالذات هناك؟’
لقد أقلقها دائمًا أنّ أراضي الدوق ليستر قريبة.
فما إن تحصل على ما تبحث عنه، كانت تنوي الرحيل بسرعة.
لكن القدَر سخر من جهودها، وجذبها إليه كأضحية.
التفّت بذراعيها حول جسدها المرتجف.
وفجأة توقّفت العربة.
“انزلي.”
انزاح ستار المدخل، فبرز ظلٌّ عظيم يحجب الضوء، وعينان بنفسجيّتان ترمقانها بصرامة.
ومن خلفه بان قصرٌ مألوف.
قصر عائلة غودوين.
ذلك البيت الذي كان مقرّ البارون غودوين، القيّم على مكتبة “ديناميس” الملحقة بأكبر كاتدرائيّة في العالم.
المكان نفسُه الذي طُردت منه.
‘عاد بي إلى عائلة غودوين…؟’
أحسّت بارتباكٍ غريب، مزيجٍ من الارتياح والشبهة والقلق.
ثمّ فجأةً وجدت جسدها يعلو في الهواء.
وفي خضّة الرفع، انفلت من قدمها حذاءٌ بالٍ سقط أرضًا.
“أ-أنزلني…!”
تدلّت على كتف شيد كأنّها حقيبة.
“بهذه الساق، أتظنّين أنّكِ قادرة على المشي للداخل؟”
“أستطيع المشي…!”
لكنّه لم يُصغِ، وتابع سيره بخطواتٍ راسخة.
حملها كحمولةٍ فوق كتفه، وتوجّه نحو بوّابة عائلة غودوين.
أوقفه الحارس المناوب: “مَن أنت؟”
توتّر الحارس أمام ذلك الغريب المهيب، إذ شعر بسطوةٍ لا تشبه المجرمين.
لكنّ لون عينيه…
“لديّ ما أُبلغه إلى البارون غودوين.”
“إلى سيّدي؟”
“قل له إنّ الدوق شيد ليستر جاء للقائه.”
اتّسعت عينا الحارس كادت تنفجران من وقع الاسم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع

📢 المنتدى العام عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.

🎨 إمبراطورية المانجا عـام
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...

📖 نادي الروايات عـام
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"